تعيش اوروبا حالة صعود لليمين الاوروبي المتطرف، وهذا الصعود في بعض متونه انكار لحالة التسامح الديني، وإبغاض للأجانب خاصة المسلمين منهم، ويضاف الى ذلك ان الجاليات الاسلامية تتكتل فيما بينها وتنطوي على نفسها، وتصبح بحكم العوامل الموضوعية بيئة خصبة للتطرف الديني، عندما يصبح التزمت الاسلامي هوية مضادة، هذه الحالة تقلق الأوروبيين، وتقلق اسلاميي اوروبا انفسهم، حيث اصبحت شماعة داعش، والذاهبون اليها من اوروبا سببا لوصم الجاليات الاسلامية بالارهاب والتطرف، مكرريين ما حدث عقب احداث 11 سبتمبر 2001 والاسلامفوبيا والسؤال الغربي لماذا يكرهوننا؟ الإساءة للإسلام ولتعزيز هويتها اليمينية كان لا بد لها من الاصطدام بالجاليات الاسلامية، في وقت يؤكد باحثون اسلاميون، أن ردة الفعل حولهم مركبة، وهي نابعة من ردة فعل ضد الاحزاب التقليدية الاوروبية، وضد الاتحاد الاوروبي كونهم يرون انهم فقدوا فيه جزءا من هويتهم وخصوصيتهم، بينما يرى آخرون أن ما يجري هو رد فعل طبيعي ازاء كثرة المتحولين الى الاسلام، لدرجة تثير ذعر المؤسسات الدينية والامنية هناك، وان فتح الابواب على مصراعيها للذهاب الى داعش الهدف منه التخلص من نماذج اسلامية متطرفة. ولكن هناك من يعتقد أن بعض ردود فعل الأقليات الإسلامية ازاء اليمين الاوروبي وبخاصة أزمة الرسوم المسيئة، ساهمت بشكل أو بآخر في خدمة الأطروحات الإسلامية المتشددة من جانب، ومن حيث لا تدري، وبالتالي قدمت هدايا مجانية لليمين الأوروبي الذي يتغذى أساساً على أزمات اقتصادية واجتماعية تهم القارة الأوروبية، ويتهم دوماً المسلمين بالمساهمة في تغذية هذه الأزمات بسبب الحضور الإسلامي المتنامي. والادهى، أنه ما إن تنتهي قضية تثير مضجع الأقليات الإسلامية في الغرب، في القارة الأوروبية نموذجاً، حتى تبزغ قضية أخرى، بما يكرس واقع الحيرة والفتن التي يعيش على إيقاعها أبناء الأقليات الإسلامية، في محاولة هادفة لتعزيز حالة القلق لدى الجاليات ومنها ايضا، حتى تظل موتورة وغير قادرة على الاندماج في المجتمعات الاوروبية. وواقع الأقليات الإسلامية هناك لا يختلف من حيث الفتنة عن أحوال الساحة العربية والإسلامية: عربيا، نحن نعيش في حقبة ما بعد اندلاع أحداث الفوضى الخلاقة التي اصطلُح عليها إعلاميا بأحداث ما يسمى ب"الربيع العربي"، أما على الصعيد الإسلامي، فنعيش زمن "اختطاف الإسلام" من أهله، من خلال مشاريع لائحة عريضة من الحركات الإسلامية، خاصة ذات التوجه السياسي والجهادي التكفيري. والأمر مختلف مع واقع الحيرة الذي يُميز واقع مسلمي القارة الأوروبية: حيرة اتجاه التعامل مع هذه القلاقل التي يتعرضون لها قسراً هناك، من طرف اليمين الديني المحسوب على المسلمين، في شقه المتطرف تحديداً، مع النموذج الجهادي، ومن طرف اليميني السياسي الأوروبي ولا تعوزنا الأمثلة الدالة في هذا الصدد. في مضامين آخر استطلاع رأي حول تفاعل أبناء الجالية التركية المسلمة في هولندا، وشمل 300 شاب تركي، دون سن 25 سنة، أنجزته مؤسسة "مجموعة التحفيز في أمستردام" بطلب من "الملتقى متعدد الثقافات" في هولندا، صدرت بعض الأرقام الصادمة التي تغذي خطاب اليمينيين سالفي الذكر، الإسلامي الحركي الجهادي والغربي السياسي، حيث اتضحَ أن حوالي 87 في المائة من المسلمين الأتراك هناك، يحبذون أن تشرف الجماعات الجهادية على تحقيق الانتقال السياسي في تركيا، بمعنى أن هذه النسبة الكبيرة من الشباب، تدافع عن تنظيمي "النصرة" و"داعش" (نموذجاً)، وليس هذا وحسب، نقرأ أيضاً أن حوالي 80 في المائة من المستجوبين، لا ينددون بالعنف "الجهادي" الممارس ضد باقي الفرقاء المتصارعين، سواء كانوا من المسلمين أم لا، من منطلق أن "منطق الحرب يفرض ذلك". (انفرد موقع "داتش نيوز" الهولندي بنشر تفاصيل الاستطلاع، بتاريخ 10 ديسمبر الجاري). وليس صدفة أن يُصرّح نور الدين الطويل، رئيس "جمعية المسلمين الجدد" في أنتويرب البلجيكية، أن "ممارسات تنظيم داعش في العراق وسوريا تمثل لمسلمي أوروبا إشكالية كبيرة" (كما جاء في تصريح له أدلى به ليومية "الشرق الأوسط" اللندنية، عدد 15 ديسمبر الجاري). صرخة نور الدين الطويل تتقاطع مع تحذير صدر عن الإعلامية الفرنسية سلينلوساتو، والتي اعتبرت في مقالة مطولة لها مؤخراً من أن ممارسات تنظيم "داعش" ستساهم قطعاً في نفور المسلمين من المشاريع الإسلامية "الجهادية"، ولكنها، [الإعلامية] تحذر من أن تساهم نفس الممارسات في إبعاد المسلمين عن القيم الحقيقية للإسلام. (كما جاء في مقال له صدر في موقع "مراقب العالم" الفرنسي، بتاريخ 10 ديسمبر الجاري). تعاطف مسلمين يافعين مع داعش بموازاة مع نتائج الاستطلاع سالف الذكر، موقع "مرصد الأسلمة" (observatoire de l'islamisation) يحتفي بصدور الطبعة الثانية من كتاب أسال الكثير من المداد في الساحة الفرنسية، ويحمل عنوان "الولاة الذين يتقربون من الإسلاميين"، والذي صدرت طبعته الأولى في غضون 2010، ويُعاد إصداره مع مطلع 2015، والكتاب حافل بمعطيات مُشيطنة لواقع الجمعيات الإسلامية التي تمثل المسلمين في فرنسا، والتي تسعى إلى تأسيس مساجد ومراكز ثقافية من باب المساهمة في إدماج مسلمي فرنسا في الحياة السياسية والثقافية. ومع أن الموقع متخصص أساسا في شيطنة مجمل الجمعيات الإسلامية، وخاصة التي تشتغل في العمل الخيري، إلا أن طريقته في نقد وشيطانية هذه التيارات، يكاد يتقاطع مع شيطنة الإسلام والمسلمين. ولا تقل الأمور أرقاً في الساحة الألمانية، بسبب تفاعلات الظاهرة "الجهادية"، والتفاعلات المصاحبة لها، أي استغلال اليمين الأوروبي "فتوحات" الجهاديين من أجل التضييق على الحضور الإسلامي في القارة العجوز. فقد تزامنت نتائج دراسة نشرتها جامعة "إيرفورت" الألمانية مفادها أن 80 في المائة من 133 برنامجاً ومادة إخبارية في قناتي التلفاز الألماني الأولى والثانية تضم تغطية سلبية حول الإسلام والمسلمين في البلاد، مقابل 19 في المائة تغطية محايدة، مع تظاهر ثلاثة آلاف متظاهر توافدوا من كافة أنحاء ألمانيا مؤخراً إلى مدينة هانوفر عاصمة ولاية سكسونيا السفلى للمشاركة في مظاهرة تحت عنوان "أوروبا ضد إرهاب الإسلاميين"، ومع أن المظاهرة لم ترق الأعداد إلى مستوى مظاهرة مشابهة جرت الشهر الماضي بمدينة كولونيا وانتهت باضطرابات واسعة، إلا أن تكرار مثل هذه المبادرات بدأ يؤرق المسلمين هناك. من أسباب الحيرة التي تعاني منها الجاليات والأقليات الإسلامية، حدة الصراعات القائمة بين المؤسسات التي يفترض أنها تمثل المسلمين أمام صناع إقرار، ولا يقتصر الأمر على الصراعات الشخصية بين مُمثلي هذه المؤسسات بل يمتد حتى إلى تداعيات علاقات هذه المؤسسات مع الدول العربية والإسلامية التي تقف خلفها بما يؤثر حتما على أداء هذه المؤسسات، ويؤثر بالتالي على صورة هذه المؤسسات لدى الجاليات الإسلامية التائهة أصلاً. ويكفي تأمل واقع الصراعات بين هذه المؤسسات في الحالة الإسبانية والفرنسية: ففي الحالة الأولى، وبحكم وجود أغلبية مسلمة تنحدر من المغرب، نجد أن الصراع قائم حالياً بين مؤسسات تابعة للجهات الرسمية في المغرب، مقابل بعض الجمعيات إخوانية التوجه، وتابعة بالتحديد لجماعة "العدل والإحسان" المغربية المحظورة، وهي جمعيات تحظى بتأييد السلطات الإسبانية في سياق الصراع الإسباني المغربي على تدبير الشأن الإسلامي في إسبانيا. أما في الحالة الثانية، فإننا نعاين منذ عقد ونيف، صراعات صريحة بين مؤسسات إسلامية تابعة مباشرة إما للجزائر أو للمغرب، ويتم ذلك حتى في إدارة "المجلس الفرنسي الديانة الإسلامية" (CFCM)، والذي أطلقه الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي (عندما كان وزيراً للداخلية)، من باب تمثيل مسلمي فرنسا أمام السلطات الفرنسية، وأصبح اليوم [المجلس] مُمثلا لوجهة نظر الجزائر والمغرب، وبالتالي ممثل هذا الصراع الثنائي، أمام السلطات الفرنسية، أكثر منه ممثلاً لواقع ومشاكل الأقلية المسلمة في فرنسا. البحث عن أصوات الحكمة أمام هذه الحيرة، تستعين الجاليات الإسلامية ببعض المخارج من باب إنارة الطريق، وتقليل الأضرار، وأيضاً سحب البساط عن الخطاب الإسلامي الجهادي من جهة والخطاب اليميني الغربي المتطرف من جهة ثانية. وفي هذا الصدد، نقرأ تصاعد أسهم بعض الأئمة والدعاة الذين يروجون خطاباً وسطيا، يتصدى للخطاب الإسلامي الحركي، ويساعد المسلمين هناك على الانخراط والاندماج الإيجابيين في الحياة المجتمعية، ويتصدى بالطبع لأطروحات اليمين الأوروبي الذي يملك أذرعاً في السياسة والثقافة والإعلام. نستحضر في هذا السياق بعض الأسماء النوعية، من قبيل الداعية فالإمام طارق أوبرو، إمام في مدينة بوردو الفرنسية (جنوب)، والذي نشر عدداً من الكتب باللغة الفرنسية أهمها: "وحدانية الله" (2006)، و"المهنة إمام" (2009)، و"إمام غاضب" (2012)، ولا يتردد في أغلب تصريحاته الإعلامية، داخل وخارج فرنسا من التحذير بأن يُصبح الإسلام في الغرب دافعا قوياً لعودة المسيحيين إلى المسيحية، مبيناً أن المسلمين في الغرب يعيشون منعزلين لأنهم "لا يعون أنهم في حضارة" على حد تعبيره، داعياً إلى ضرورة جعل الإسلام مصدراً للتفاؤل ولقوة الإقبال على الحياة، كي يمحو الصورة السائدة عن الإسلام في الغرب، التي يصفها ب"السلبية"، والتي تنظر إلى الإسلام بوصفه مصدر خوف لما يرونه من مظاهر مفزعة عن مسلمين لا ينم ظاهرهم على أنهم ينتمون إلى واقعنا. هذا عن الأسماء المسلمة، ونجد من الأسماء الغربية المنصفة لواقع المسلمين، نذكر على الخصوص الكاتب والإعلامي الفرنسي القدير إدوي يلنيل (Edwy Plenel) والذي يقف إلى جانب الباحث المفكر الفرنسي والحكيم إدغار موران والباحث المصري (سويسري الجنسية) طارق رمضان، في قائمة الأقلام المدافعة عن الأقلية الإسلامية في القارة الأوروبية، بالصيغة التي جسّدها عنوان آخر أعماله، أي كتاب "من أجل المسلمين" (Pour les musulmans) وصدر في سبتمبر 2014، عن منشورات "لاديكوفيرت" الباريسية). والكتاب أشبه بصرخة ثقافة تدافع بشكل مسؤول ورصين (كما نعاين في لائحة المراجع العلمية التي اعتمدها المؤلف) عن مسلمي فرنسا بل مسلمي القارة الأوروبية، منتقداً بشدة بعض الأصوات الإعلامية والفكرية الفرنسية التي تقوم بما يُشبه "هيجانا جماعيا" ضد المسلمين، داعياً كل المثقفين الفرنسيين المنصفين والنزهاء إلى ضرورة التصدي لهذا الخطاب المحرض ضد المواطنين الفرنسيين من ديانة إسلامية، على غرار ما قام به الكاتب إيميل زولا في مقاله الشهير "لأجل اليهود" المنشور على صدر صفحة "لوفيغارو" يوم 16 مايو 1896.