وُصفت البيروقراطية على أنها الأسلوب المنطقي الفعال لتحقيق أهداف المنظمات في الدول الصناعية، إلا أنها شبهت بالقفص الحديدي الذي يتضخم (ورماً) في دول العالم الثالث، قد يصل الأمر لدرجة لا يتحملها الإنسان، ذلك عندما يصبح المرء ضحية (لروتين) الماكنة المكتبية، فمثلاً الإنسان الذي كان يزرع أرضه بصورة بدائية وطبيعية، أصبح الآن بحاجة إلى أن يملأ الاستمارات للحصول على رخصة من هذه الدائرة ورخصة من تلك الوزارة، وأن عليه أن يخصص أوقاتاً كثيرة لعملية (تخليص الأوراق) من المكاتب الحكومية، بمعنى آخر فإن المزارع، أو العامل أو الموظف لم يعد يسيطر على بيئته، وإنما عليه أن يخضع لتلك الآلية المكتبية والمسماة بالبيروقراطية.. قد نتفق أن المجتمع العصري لا يستطيع التحرك دون بيروقراطية،.. إلا أن هذه الآلية قد تشكل حائلاً ضد تحسين الحياة المعيشية للإنسان، وضد تطوير الخدمات في المدينة أو المؤسسة أو المصنع أو المستشفى، إذا لم تخضع إلى مراقبة من جميع فئات المستفيدين من هذه الخدمات، فالأشخاص المسيطرون على (المكاتب) يحصلون بسبب تنظيمهم الهرمي على سلطات وصلاحيات، قد يستخدمها البعض في اتجاه مصالحهم الشخصية أو لتعطيل أو تأخير مصالح الآخرين، وهي سلطات عادة يكتسبونها من خلال سن قوانين وتنظيمات شديدة التعقيد من داخل (المكاتب)،.. مما ينتج عنه ازدياد ملحوظ في مكاتب السلطات الإدارية، وعدد اللجان الفرعية، قد يصل الأمر أحياناً إلى وضع يتجاوز فيه عدد الإداريين أعداد الفئات الفنية،.. أي بيئة مشلولة، وغير قادرة على الإنتاج بسبب ازدحام المكاتب التنفيذية وغير التنفيذية.. البيروقراطي غالباً ما يفتقد لآليات العمل الميداني، ولمعرفة ما يريده المواطنون أو الموظفون، لعل ذلك بسبب عدم حاجة ذلك التنظيم لأصواتهم، فالحكم للمكتب وليس للمجتمع، وبسبب نهج إدارة الأزمات أو التدخل في حل القضايا الطارئة من بعد، فإن (المكتب) يفتح خطاً مباشراً للشكاوى، ومستثنى من شدة تعقيد الإجراءات الروتينية، بهذا الأسلوب يحكم تنظيم (المكاتب) المجتمع، وتنشأ علاقات اجتماعية من أجل تيسير صعوبة إجراءات المكاتب، وينتظر (البيروقراطي) من المستفيدين من استثناءاته مقابلاً نفعياً إن كان ذا مكانة سلطوية في تنظيم بيروقراطي آخر.. ومن أجل تغطية قصور أدائه الوظيفي نظراً لإدارته للشؤون العامة من بعد، وفقدانه لقدرة العمل الميداني يسعى لتنفيذ الإجراءات والشروط من خلال ربط تنفيذها بخدمات حيوية أخرى مثل: إذا لم تنفذ هذا الإجراء فلن تحصل على هذه الخدمات، ونظراً لعدم وجود آليات ميدانية للإشراف ولتسهيل تنفيذ الإجراءات المطلوبة، ينتهي الأمر عادة بإثبات تنفيذه على ورقة تحمل إمضاءات مديري المكاتب في الهيئة.. ثم يحفظ في (مكتب) مخصص.. البيروقراطية تتطور مع تراكم السنين إلى وضع التبلد الإداري والشلل العملي، مما يجعلها عائقاً للتقدم وميداناً فسيحاً للفساد الإداري، تضخم في القرارات غير القابلة للتنفيذ، وفقر شديد في المعلومات. لا يكترث عادة البيروقراطي (المزمن) إلى أي نقد يوجه لسوء إدارته وسوء تنظيمها، أو إلى النتائج السلبية بسبب تنظيماته وآلياته الشديدة التعقيد، فهو غير مضطر إلى الإجابة، ولا يجبره النظام البيروقراطي بالرد على التساؤلات المشروعة، لكن إذا تلقى تساؤلاً عن النقد الموجه له من المكتب أعلاه، فإنه ينتفض بحثاً عن إجابة... البيروقراطية داء لابد منه، لكن لابد من (ميكانيزم) حيوية تقلل من مساوئه، وتحد من استغلاله.. العلوم وفنون الإدارة الحديثة في البلاد المتقدمة تنتقل إلينا بفعل الترجمة وإرسال البعثات.. لكن السؤال: لماذا تختفي تلك الأدوات المعرفية الحديثة في العقل الإداري في مجتمعاتنا؟.. وما هي المعوقات التي تقف ضد التطبع بأساليب الإدارة كما يتعلمها الإنسان في قاعات التعليم؟.. ولماذا أحياناً تصبح الإدارة وسيلة لتبرير الفشل، وإعادة إنتاجه، وأحيانا استثماره لتحقيق مكتسبات (شخصية)..؟ كيف تبرز اهتمامات الجهاز الإداري بالأساليب على حساب الأهداف، وكيف يغلب الشكل على المضمون؟.. ولماذا أصبح الانطباع الجماهيري عن (المدير) في منتهى السلبية؟.. فقد يصل أحياناً الاهتمام بالشكليات إلى درجة عالية من التضليل وإخفاء الحقائق.. وإن حدث، وتم استقدام فنون الإدارة الحديثة إلى التنظيم البيروقراطي (القديم)، غير الحيوي، تُصاب بدائه العضال، فتهرم وتفقد مرونتها في قفصها الحديدي الجديد،.. العلة بالتأكيد ليست عجزاً في (العلم) الحديث، إنما في المناخ العام لذلك التنظيم القديم، فهو مع مرور الزمن أصبح هو المرجعية الوحيدة للمعلومات ولقرارات التطوير.. بالإمكان حدوث طفرة في داخل المكاتب المدنية، عندما يدرك المسؤول أن مستقبله العملي يعتمد على ثقة الناس فيما يقدمه لهم من خدمات،.. والمجالس البلدية التي سيتم انتخاب نصفها قريباً، قد تكون نافذة مؤثرة لإعادة تأهيل التنظيم البيروقراطي مثلاً في البلديات، قد يحدث شيء مثل هذا، إذا تم تحديد مسؤولياتها، لا سيما وأن المجلس البلدي سيكون في مواجهة تنظيمات بيروقراطية عريقة في دوائر الخدمات البلدية، مثل الأمانة والهيئات التطويرية وغيرها، فهل سيكون للمجلس دور قيادي في ظل هذه الازدحام البيروقراطي، وهل سيكون من ضمن مسؤولياته الاهتمام بإيجاد الحلول في مجالات التعليم والصحة والبيئة والخدمات العامة كالمياه والصرف الصحي،.. على المجلس البلدي أن يعي أولاً أن الحل الناجع هو في تحديد المسؤوليات ثم في قدرته في الحد من عبء الروتين غير المنتج، والذي يجيد البعض ممارسته داخل جدران مكاتبهم بمهارة..