ملأ العرب الدنيا ضجيجاً بخطب ودراسات وتقارير وتوصيات، ومصيرها ترحيل إلى أرشيف، والملفات في الدول العربية تموت واقفة، وبعدها تنطلق أصوات الشكوى والتذمر والشجب والاستنكار، ولا تخلو منظمة عربية من مصادر إحباط وتثبيط العزائم! البيروقراطية نهشت ولا تزال في جسد منظومة الأعمال الحكومية، حتى تربعت واستوطنت برعاية وحماية كبار الموظفين الحريصين على استمرارها وبقائها، لارتباطها إما بمصالحهم الشخصية أو لأنهم لا يستطيعون أداء أعمالهم من دون قواعدها وتدابيرها. يظهر لك البيروقراطيون أنهم على درجة عالية من الالتزام والتقيد الحرفي بالقانون والإجراءات، ولذلك يعتقدون أن تفاصيل الروتين وتعقيداته يمثل أساساً للحفاظ على مصالح ومكتسبات الوطن والأمة، وهم يعرفون أو لا يعرفون أنهم يدمرون الإبداع والمبادرة والقدرة على التغيير والتطوير. فلسفة الحكم، سياسية وعسكرية واقتصادية، ولكن هناك سلطة متمترسة على رقاب الناس ومصالحهم، وهي حكم المكاتب، إن وكيل الوزارة أو المدير العام هو حاكم بيروقراطي، يتلذذ بممارسة الروتين الممل والإجراءات المعقدة، ثم تتكون حوله سلطة المكتب، وتكبر بسلطة وكالة الوزارة، ويختطفها منه الوزير «الغيور»، الممسك الأكبر بالنفوذ والصوت القوي. إن الموظفين الذي يجلسون خلف المكاتب هم جزء من مكونات السلطة، يمسكون بأيديهم مصالح لا يستهان بتأثيرها وفوائدها، ولكن كيف تتأرجح هذه السلطة بين قطاع عام وخاص وبين منظمة وأخرى؟ وهل النظام هو مربط الفرس أم أن القائد الإداري يجتهد ويفسر ويعقد وييسر؟ من التجارب الإدارية التي مرت بها بلادنا، نجد أن القائد الإداري «الوزير» يؤثر إيجاباً أو سلباً في أداء الوزارة أو الجهة التي يرأسها، فمنهم من تحلى بالشجاعة وكان جسوراً، «وهم نوادر»، وحوّل الأنظمة والإجراءات والصلاحيات المتاحة له إلى مناطق قوة ذات تأثير إيجابي في الأداء والوطن، يقود المسؤولين والموظفين بأمل، ويزيل الخوف والتردد والتخلص من الأخطاء. ثم يأتي بعده وزير آخر، ويبدأ عامه الأول بإرساء ظواهر البيروقراطية من خلال شروحاته على المعاملات بالعنوان البيروقراطي واسع النفوذ، «بحسب النظام»، وبها يختفي المبدعون والمبادرون، ويظهر مرة أخرى حكام المكاتب المدمنون للإجراءات والتعقيدات المكتبية وكثرة الأوراق! ويتساءل الناس: هل الأنظمة والإجراءات فيها من المرونة والسلاسة ما يجعلها قابلة لأن تكون مطواعة تتشكل في الفكرين المنفتح والمعقد؟ ولماذا المسؤول الصريح المنفتح على الإبداع والأمل وسرعة الإنجاز عمره الوظيفي متوتر وقصير، والمسؤول المصاب بعقدة الخوف على فقدان الكرسي المأسور للشعار البيروقراطي «بحسب النظام» يدوم ويدوم ويدوم؟ البطء والتردد في اتخاذ القرارات وحسم الأمور المعلقة يصيب المنظمة بالتراجع والترهل وفقدان الثقة، هناك لحظات حاسمة بمثابة الهواء النقي الذي يتنفس به قيادات وموظفو المنظمات، ولا يمكن التخطيط السليم في بيئة عمل تكتنفها غيبات مستقبل الرؤية وتقاطعات مشحونة بالتنافس على المرجعيات. إننا في زمن نشاط الركض والسرعة والتواصل السريع، لتحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية، ونحن مع الأسف الشديد لا نزال في حال دوران لعشق قديم التصق بالتزامات المسؤولين، وسرق جل وقتهم، اجتماعات لساعات تمتد وتبرمج لشهور وربما أعوام، تنبثق منها لجان ولجان فرعية، إنهم حائرون! لا يستطيعون الربط بين ما يستطيعون فعله، والعمل الصعب الذي لا يقتربون من الإفصاح عنه، خوفاً من المساءلة أو العتب، المطلوب - مهما طال الأمد – الاقتراب من حلول توفيقية ترضي جميع الأطراف، ولا تسبب حساسية للقيادات العليا حتى لو كان ذلك سيراكم أعباء المستقبل. لن نستيطع الركض للأمام بطموح وإرادة، ورؤية وشجاعة تحمل المسؤولية، وأجندات قيادات العمل في مختلف القطاعات مكتظة بمواعيد اجتماعات، لمناقشة قضايا تنموية واجتماعية مضت عقود عليها من دون أن نوفر لها لحظات حاسمة للفصل فيها وإنجازها. قرأت أخيراً في مجلد القيادة التنفيذية أن ويليام جوس باغونيس كان يعمل في الخدمات اللوجستية في حرب الخليج 1991، وكان ملازماً في الجيش، وتقاعد من الجيش الأميركي في 1993 بعد 29 عاماً، ليصبح مدير شركة. واعتماداً على 18 شهراً، كان يقود خلالها حركة القوات والإمدادات في الخليج، أشاد الجنرال نورمان شوارزكوف به، واصفاً إياه ب«القائد اللوجستي في الحرب»، كيف استطاع باغونيس أن يفعل ذلك؟ لقد أبقى على استمرار اتصالات قصيرة وبسيطة بينه وبين فريقه. بعد تقاعده من الجيش، أصبح باغونيس نائب الرئيس التنفيذي في شركة سيرز روبوك لمدة 11 عاماً، ولتسهيل التواصل مع موظفيه استضاف اجتماعاً لمدة أربعة أيام في الأسبوع، يجتمع في الساعة الثامنة صباحاً مع فريقه، ويسأل كل شخص: ماذا حدث بالأمس؟ وما الذي سيحدث اليوم؟ ويبقى الجميع واقفاً طوال الوقت خلال الاجتماع، فهذه الاجتماعات اليومية تستمر من 15 إلى 20 دقيقة، اكتشف باغونيس أن الناس عندما يكونون واقفين، فإنهم يتحدثون بطريقة أسرع وأسلوب موجز. وأنا بدوري، أنصح المسؤولين وقادة الاجتماعات في بلادي أن يبقى الجميع واقفاً طوال اجتماعاتنا، لعلنا نتخلص من أمراض إصابات العمود الفقري، بسبب جمودنا على الكراسي، ولنتبع نصيحة «باغونيس» الذي برز على أرضنا في حرب الخليج، نتحدث باختصار عما أنجزناه بالأمس، وما الذي سننجزه اليوم، لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً. * كاتب سعودي. [email protected] alyemnia@