في كل مرة أعتلى الجسر الرابط بين الشميسي وشارع عسير أحاول كل جهدي أن أتجنب النظر في باحات مستشفى الشميسي. فهذا المستشفى رمز لأشياء كثيرة اندثرت. فهو أول مكان أشاهد فيه بيضاء أحلامي. وأول مكان أدق فيه أبرة في الورك، وهو المكان الذي عرفت فيه دلالة الموت الحقيقية. وفوق هذا يشكل هذا المستشفى رمزاً لتطور الحياة الصحية الحقيقية في مدينة الرياض وربما في المملكة. يقدم الخدمات الصحية التي وصلنا إليها بدون رتوش أو زخارف. لعلِّي أكون مخطئاً ولكن هذه هي الطريقة التي أنظر بها إلى الأمور. فإذا ذهبت إلى مدينة جدة (مثلا) لا أسمح للكورنيش وبعض الأسواق الفاخرة ومراكز الترفيه تستولي على انطباعاتي عن المدينة. آخذ أقرب سيارة وألف حول المدينة التي عرفتها في صغري أذهب للسبيل والنزلة وغيرهما مما أتذكر. من هنا أتعرَّف على التقدم الذي أصاب المدينة. حوالي ثلاثة كيلو مترات تفصل بين مستشفى الشميسي وبين مستشفى الملك فيصل التخصصي. هذه الثلاثة كيلو مترات تفصل في الواقع بين السويد وبين زمبابوي. المسافة من شارع التخصصي إلى شارع العصارات لم تعد مسافة مكانية إنها هي فاصل زمني. لأنك تستطيع أن تقطعها على رجليك في ساعتين، لكن لا يمكن أن تعبرها زمانياً لأنك تحتاج إلى ثلاثة قرون لتغطيها.. عندما نتحدث عن الفرق الحضاري نحن لا نتكلم عن الفرق بين الأشياء وإنما الفرق بين الناس. فمراجعو الشميسي يقلِّون عن مراجعي التخصصي بثلاثة قرون حضارية. عندما تقودني الظروف إلى مستشفى الشميسي أشعر بفراغ أسود موحش. أشعر بأني أقفز في ماضٍ تم تخريبه. لا يمثل الماضي الذي تركت فيه بيضاء أحلامي. مستشفى الشميسي في ذلك الوقت نقلة حضارية كبرى. كان بلاطه يلمع وملابس ممرضاته زاهية وعلى وجوه مراجعيه زهو التقدم. اليوم اختلف الأمر، أصبح ملجأ لوجوه لا تحمل أكثر من تعابير الأوجاع التي جاؤوا لمداواتها. التزموا الحياد. بعضهم يدخل هذا المستشفى لينجو وبعضهم يدخله ليموت. نفس المفهوم الذي يدخل به مراجعو المستشفى التخصصي. لكن الفرق بين الشميسي والتخصصي يكمن في الشكر. إذا خرجت من التخصصي لا بد أن يطرأ على بالك الشكر والامتنان. لكن من خرج من مستشفى الشميسي ناجياً لا يشكر أحداً. لا منَّة لأحد عليه. لأنه أخذ أقل من نصيبه من العلاج، كمواطن. كان علاجه ناشئاً من فتات الأدوية والمضادات الحيوية التي تلقاها في المستشفى ولكن سبب نجاته الحقيقي أن الله منَّ عليه بجسد يقاوم الأمراض. يقاوم الأمراض التي جاء لعلاجها والأمراض التي سوف يلتقطها من داخل المستشفى. بعث لي أحد القراء صورة فوتوغرافية مثيرة للأحزان، صورة بانورامية لدوار الشميسي الجديد وبوابة المستشفى. التقطت عام ثلاثة وسبعين ميلادية. أي قبل حوالي إحدى وثلاثين سنة. من أراد أن يرى كيف كانت الأيام القديمة يبعث لي ببريده الالكتروني وسأبعث له بنسخة منها. شركاء في الحنين شركاء في الأحزان. فاكس 4702164