أوضحنا في الجزء الأول من المقال كيف أثار المشروع الأمريكي الذي أُطلق عليه اسم (مبادرة الشرق الأوسط الكبير) توجس وريبة وقلق العرب ، أنظمة وشعوباً ، وأعاد إلى أذهانهم المشاريع الاستعمارية الغربية التآمرية الغابرة وفي مقدمتها (اتفاقية سايكس بيكو) ، التي نكابد ويلاتها ونكتوي بتداعياتها إلى يومنا هذا. وأشرنا إلى أن هذا المشروع ، حسب ادعاء العراب الأمريكي ، يهدف إلى تشجيع ودعم الإصلاحات السياسية والاقتصادية ، ونشر الديمقراطية في العالم العربي ودول إسلامية أخرى ، أي المنطقة الممتدة جغرافياً من موريتانيا غربا إلى أفغانستان شرقا ، مرورا بإسرائيل وتركيا وإيران. وأن الولاياتالمتحدة تحاول تسويق وتمرير مشروعها دون إيجاد حل عادل لقضية فلسطين ، التي تعتبر جوهر الصراع العربي - الإسرائيلي ، والسبب الرئيسي للأزمات والمشاكل التي عصفت وما زالت تعصف بالمنطقة ، ومنها أزمة الديمقراطية التي تتشدق بها أمريكا وتريد نشرها ، ومشكلة ما يسمى بالإرهاب (الإسلامي) التي تعمل على محاربته عبر شن الحروب التي بدأتها في أفغانستان ثم العراق. وقد نجح الرئيس الأمريكي جورج بوش في إدراج المشروع على جدول أعمال قمة مجموعة الثماني التي عقدت مؤخرا في منتجع سي آيلاند في ولاية جورجياالأمريكية ، حيث تبنته القمة تحت مسمى فضفاض وخادع وهو (الشراكة لدعم إصلاحات ديمقراطية واجتماعية واقتصادية نابعة من المنطقة نفسها). وذكرنا أن إسرائيل قد طرحت في السابق مشاريع مماثلة للمنطقة ، كان آخرها ، بل أخطرها ، رؤية رئيس وزرائها الأسبق وزعيم حزب العمل الحالي (الداهية المخادع) شمعون بيريز التي أفصح عنها في كتابه الشهير (الشرق الأوسط الجديد The New Middle East) الذي صدر في العام 1993م. تردد وتوجس العرب رفضت المملكة العربية السعودية ومصر ضمنا المشروع الأمريكي ، وأعلنتا في بيان مشترك صدر مساء 24-2-2004م في أعقاب زيارة الرئيس المصري حسني مبارك للرياض ، أنهما ترفضان المشاريع المفروضة من الخارج على البلدان العربية والإسلامية. وجاء في البيان (إن الدول العربية تمضي على طريق التنمية والتحديث والإصلاح بما يتفق مع مصالح شعوبها وقيمها وتلبية لاحتياجاتها وخصوصياتها وهويتها العربية وعدم قبولها فرض نمط إصلاحي بعينه على الدول العربية والإسلامية من الخارج). وشدد ولي العهد الأمير عبد الله بن عبد العزيز والرئيس مبارك في بيانهما على أنهما يريدان التوصل إلى استقرار الشرق الأوسط ، وأن ذلك يستلزم (إيجاد حلول عادلة ومنصفة لقضايا الأمة العربية والإسلامية وعلى رأسها القضية الفلسطينية وقضية العراق). وانضمت سوريا إلى السعودية ومصر في رفض المشروع الأمريكي ، حيث أكد وزير الإعلام أحمد الحسن ، في تصريحات نقلتها صحيفة الحياة في 29-2-2002م ، رفض بلاده المطلق (إجراء أي إصلاحات بإملاءات أو ضغوط خارجية) ، موضحا أن القيادة السورية راغبة في (إجراء إصلاحات في شكل متوازن ودقيق وعقلاني بعيدا عن الانفعال وعن الضغوط الخارجية ، مشيرا إلى أن (أي نظام لا يقبل إجراء إصلاحات تحت ضغوط خارجية أو إملاءات من الخارج). وأعلن رئيس الوزراء اللبناني ، رفيق الحريري صراحة رفضه للمبادرة ، وأعرب عن مخاوفه من تطبيقها. وهذا كان موقفا مهما لأنه جاء بعد لقائه مع الرئيس المصري حسني مبارك ، مما أوحى بأن هذا الأخير يتخذ موقفا مماثلا. لكن ، في الوقت نفسه ، كان الرئيس اليمني علي عبد الله صالح يؤكد أن عصر الديمقراطية قد بدأ ، وانتهى عصر الديكتاتوريات ، ويدعو إلى قبول الإصلاحات الأمريكية قائلا: (فلنحلق رؤوسنا قبل أن يحلقوا لنا). لذلك تمت دعوته لقمة الثماني في منتجع سي آيلاند وحضرها بالفعل إلى جانب قادة دول عربية أخرى هي الجزائر والبحرين والأردن. ومن جهته ، هاجم أمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى ما وصفه (بالمبادرات الناقصة وغير المتوازنة والمثيرة للشكوك لتغيير خريطة الشرق الأوسط) ، وانتقد عدم تطرق هذه الخطط والمبادرات للقضية الفلسطينية. وقال موسى في تصريحات نقلتها عنه صحيفة الحياة في 18-2-2004م : ان المبادرة الأمريكية (سطحية وغير كاملة ولا تتعامل مع الحقائق) ، وأوضح أنه (ليس هناك حوار مع العرب حول هذه المبادرة ، وليس هناك أي سبب لرفضها كونها تدعو إلى الديمقراطية) ، وأضاف أن (هناك عدة مبادرات أمريكية لم تبحث مع العرب ولم تجر استشارتهم بشأنها لكي يحددوا موقفهم منها). وقد انتقد وزير الخارجية اللبناني جان عبيد المبادرة الأمريكية عقب لقائه في القاهرة يوم 22-2- 2004م الرئيس المصري حسني مبارك قائلا: (إن كل ما طرح بشأن مشروع الشرق الأوسط الكبير لا يمكنه إسقاط (الجدار العنصري) الذي تشيده إسرائيل في الضفة الغربية ، أو حمل إسرائيل على تنفيذ قرارات الشرعية الدولية. على أية حال ، سيبذل غالبية القادة العرب قصارى جهدهم لإفشال أو حتى على الأقل إعاقة المبادرة الأمريكية في الوقت الذي يوحون فيه لواشنطن بأنهم سائرون قدما على طريق الإصلاحات ، وإن ببطء شديد ، وهذا ما سيخلق وضعا مثيرا للجدل في الشرق الأوسط خلال المرحلة المقبلة. بيد أن التحدي الحقيقي للمبادرة الأمريكية يكمن في شك ، إن لم يكن رفض ، الشعوب العربية لها ، وهو رفض لا ينبع من إدارة الظهر للديمقراطية والحريات ، بقدر ما هو إدانة للسياسات الأمريكية في المنطقة ، خاصة إزاء الصراع العربي - الإسرائيلي. لقد أوضح استطلاع للرأي ، أجرته مؤخرا مؤسسة أمريكية أن 94% من المصريين لا يثقون بالولاياتالمتحدة ، في حين كانت استطلاعات فضائية (الجزيرة) الإلكترونية تشير إلى أن 96% من العرب يعتبرون الولاياتالمتحدة خصماً. الثقة المفقودة ورغم شعارات الديمقراطية والإصلاح البراقة التي تحاول إخفاء أهداف الهيمنة والتطويع التي ينطوي عليها المشروع الأمريكي الجديد ، فإن مشاعر الكراهية والعداء ضد السياسات الأمريكية تجاه العرب والمسلمين وفقدان الثقة بالإدارة الأمريكية الحالية تبقى في مقدمة العقبات الكأداء التي ستؤدي إلى إجهاض المشروع الأمريكي الجديد قبل أن يبصر النور. كيف يصدق العرب والمسلمون أن المشروع الأمريكي المطروح يهدف إلى خدمة مجتمعاتهم وتطويرها وتحسين أدائها السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، في حين أن السياسة الأمريكية على أرض الواقع تهدم كل مقومات النهوض والتطور والتقدم في تلك المجتمعات ، وتساعد على انتشار بؤر التطرف وتناميها بعد أن ساهمت السياسات الأمريكية في زرع بذور العنف والتطرف في الأوساط العربية والإسلامية لحضهم على محاربة السوفيات الشيوعيين الكفرة في أفغانستان ، ثم تأسيس تنظيم القاعدة وبروز الأفغان العرب ، برعاية ودعم مباشر من الأجهزة الأمريكية ، التي تعمل حاليا على محاربة الإرهاب وتعقب جماعات القاعدة في كل أنحاء المعمورة. كيف يمكن الوثوق في المشروع الأمريكي الجديد وما يحمله من شعارات العدالة والتحديث والتطوير والاستقرار الاجتماعي وكل الدلائل تدين هذا الانحياز الأمريكي الأعمى إلى جانب دولة الاحتلال الصهيوني ، التي تسبب وجودها وسلوكها في عرقلة مسيرة التطوير والاستقرار في المنطقة العربية والإسلامية.كيف يمكن لأي مواطن عربي ومسلم أن يسلم بما ورد في المشروع الأمريكي من كلمات معسولة عن الحرية والديمقراطية وهو يشاهد يوميا كيف تذبح الحرية والديمقراطية في فلسطين بالسلاح الأمريكي ، وفي العراق بأيدي الأمريكيين أنفسهم. المطلوب سياسة أمريكية رشيدة إن طي صفحة العداء والكراهية بين أمريكا والعرب والمسلمين لا تحققه محطة تلفزيونية ممولة من الحكومة الأمريكية مثل ( الحرة ) ، وإن معالجة أزمة الثقة والمصداقية بين أمريكا والعرب لا يتم عبر إطلاق خطط الهيمنة والتطويع والتدخل المباشر. المطلوب أن تعود واشنطن إلى سياسة العقل والرشد والحكمة بعيدا عن غطرسة القوة والعظمة والتفرد ، وترجع إلى القيم الأمريكية الحقيقية في تحقيق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية لجميع الشعوب ، بما فيها الشعب الفلسطيني الذي يدفع غاليا ثمن التغطية الأمريكية على جرائم شارون ، الذي وصفه بوش برجل السلام! ، والشعب العراقي الذي يخسر يوميا المئات من القتلى والجرحى ، فضلا عن الخراب ، بسبب الاحتلال الأمريكي البغيض. إنهاء الاحتلال الأمريكي في العراق ، والإسرائيلي في فلسطين ورفع تهمة الإرهاب عن المسلمين ووقف الحرب المبطنة ضد الإسلام ، والإقلاع عن سياسة ازدواجية المعايير ، سواء في تطبيق قرارات الأممالمتحدة أم في معالجة ملفات أسلحة الدمار الشامل ، هي الخطوات الأساسية لقيام شرق أوسط جديد آمن ومستقر وديمقراطي ومزدهر. [email protected]