فإنَّّنا نرتضيه خاتمةً للقاءٍ أجمل... وتبقى لوعة الفراق في ذائقة الألم، في خانة الفقد... هذه الخانة الأكبر، الأوسع، الأكثر حقيقة في واقع بشريِّتنا... وفَقْدُ الموتِ يقفُ عند حدود مادية... إذ لن نلتقي من نحب في هذه الفانية، لن نسمعه، لن نتشارك معه لقمة، ولا رشفة، ولا متعة، ولا فرحاً، ولا حزناً لكن، عندما يكون الَّذي يموت موجوداً: في ذكرى ملموسة ومحسوسة فإنَّه يبقى، يبقى، وينتهي الموت به إلى حدود محصورة في زاوية صغيرة من خانة الفَقْد، تلك المحدَّدة بعدم الرُّؤية، عدم اللِّقاء... حسن عبد الله القرشي ليس من الَّذين يموتون حين مات... ولن يمرَّ فقدُه مروراً عابراً بي...، فهو لم يكنْ لي واحداً من رموز الشِّعر في بلادي، هو كان صديقاً حميماً لأبي، وهو كان جاراً أميناً لبيت الطُّفولة...، وهو كان مشرفاً على صفحات الأدب في اليمامة حين زفر قلمي أبجديَّاته... وهو لطالما شجَّعني شخصياً، وكتابةً وآزر وهجةَ فرحتي بطفولة حرفي... لذلك كنت أحتفظ بشعره في حقيبة مدرستي...، ولطالما أبحرتْ أفكاري بأنَّات ساقيته...، ولطالما بنتْ لي عباراته أحلاماً وأسَّستْ لي أكواخاً...، ومدَّت لي أشرعةً، إذ تزاملت وهجةُ مجده، رمزاً من رموز الشِّعر الرومانسي في أدب هذه البلاد ببدايات تتدفُّق في رأسي، وصدري، وتركض بها أحلامي وكثيراً ما كتبتُ عنه في طُلْعتي، وأشَدَّ ما يطمئنني ممَّا فعلت له هو تدريسي لشعره لطالبات قسم اللُّغة العربية في الجامعة...، ولا أنسى ما كان عليه من روح طيِّبة، وتواضع جمٍّ، وأسلوب رصين، وشعر رومانسي حالم، ووطنيٍّ عروبيٍّ شديد الرِّقَّة بعيد التَّطلُّعات...، إذ كان له أسلوبٌ جزلٌ يفتقد إلى مثله مَن لم يتلق أوَّل علمه على أسس مدرسة القرآن وألفيَّة ابن مالك، وله ذائقة وملكة شعريَّة تضعه في مصاف مؤسِّسي الحركة التَّجدُّدِيَّة في الشِّعر في المملكة... عاش دبلوماسياً في مملكة قيَمه ومُثُله...، وشعره ونثره... من الرُّواد... ومات يحملُ صولجانَ التَّأسيس، والتَّجديد والذكرى التي معها لم يمتْ حسن القرشي... لم يمتْ... رحمك الله في جنَّات الفردوس الأعلى، وأبقاكَ بما تركتَ حيَّاً باقياً في ذاكرة هذا الوطن.