ومن شطر هذا البيت نستهل نفحات الخواطر عن مدينة الفن والإبداع.. الماضي العريق.. والحاضر الأصيل.. مدينة السهل والجبل.. والوادي والقاع.. ماضيها أشبه بالحلم الجميل والقصة العذبة تحمل أحياؤها القديمة الكثير من الروايات المتجددة والتقاليد الإنسانية الممزوجة بروح أهلها الشفافة.. نسيج عمرانها القديم يحكي عبر الزمان أشجى الذكريات في الخريزية والعقيلية والمسهرية لا تظمأ أبداً وأنت عابر في شوارعها الداخلية والتي لا تتجاوز الأربعة أمتار حيث تجد القربة معلقة في الممرات المظللة وفي جوفها وعاء الشرب (الطاسة) مربوط بطرف القربة حتى لا يؤخذ.. وفي البرغوش والهفوف والشريمية تجد الحسو قريباً منك أينما توجهت فلا حرارة مع الحسو.. وتعلو هامة حي الضبط والجناح والصفاء بفتوة أهلها ونفحات مناخها لتداخلها مع المزارع المجاورة.. وتصغر الشوارع في عيون المخططين ولكنها تكبر في عيون شبابها فيمارسون فيها أنواع ألعابهم الشعبية وفي ممر لا يزيد عن أربعة أمتار وتبرز لعبة سبع الحجر المونديال الأعظم بين الشباب في معظم الأحياء القديمة وكذلك البعة، الكعابه، صيد الحمام، والحبشه، وتمارس بلهف وشوق.. وفي الوقت الذي يلهو فيه الشباب داخل الحي يكون المزارع في قمة عنفوانه وهو يحرث ويزرع ويحصد ويجني من مزرعته ما يتقوت منه وما زاد عن حاجته يكون مصدر دخله في جلبه للسوق.. وتأتي مزارع الفيضة والعذبة، والعقيلية وظبية، والوادي والشعيب. ورميثة، والغابية، والخالدية كمزارع صغيرة داخل الكتل السكنية وحولها وتكفي لحاجة أهلها ومجاوريهم.. وما زاد يذهب للسوق إلى أن قامت مزارع الغزيلية والعبادية والشميمرية ومزارع الحويس والساميه وتوسعت الزراعة بشكل كبير وأصبح الإنتاج ليس فقط لسوق عنيزة بل تجاوزه للتصدير خارج عنيزة ومنطقة القصيم من التمر والبطيخ والعنب والتفاح والرمان والترنج والمشمش والخوخ والتين والبرقوق والجوافة والتوت والسدر والسفرجل واللوز والكمثرى.. عنيزة قصة لا تنتهي ولا تكرار في فصولها فيها عذوبة المطر ونقاء البدر. يعمل المزارع في حقله وينعم بلذيذ تمره ويمد السكان بالغذاء ولا ينسى الحرفي الشعبي الذي هو الآخر ينتظر نصيبه من نعيم المزارع فيأخذ سعف النخيل ويصنع منه المشغولات المتنوعة من سعف النخيل وجريده كما يصنع الحبال من ليفه. أيضاً يتلهف الخراز على فرصة يغتنمها من القصاب بعد الانتهاء من القصابة، تكون الفرصة له مواتية بالاستفادة من جلود المواشي بصنع الأحذية والقرب والصميل والشنط اليدوية وما شابه ذلك.. وتستمر عنيزة بضخ الحرفيين الأساتذة وهذه المرة في البناء ومن أمهرهم على حد علمي المتواضع يبرز منهم (السبيل، العبيسي) ومن مواد محلية بحتة فأساس المبنى والأعمدة الحجر والخرز يجلبونه من صفراء عنيزة (الجهة الشرقية) ولبن الحوائط من طينة الوادي وطمام السقوف من خشب الأثل وجريد النخيل وسعفه المبشور وإطار النوافذ من خشب أثل عنيزة وتكسية غرف الضيافة (القهوة) من جصة عنيزة والأبواب الخارجية من شرائح النخيل المقطعة ومزاريب التصريف (المثاعب) من خشب الأثل وهكذا هو سيناريو البناء.. السمن في الدقيق. ولن تنتهي فصول القصة مع حرفة البناء والتجارة والقصابة والخرازة فهناك فصل مهم هو عشق عنيزة.. ولذة أمسياتها وسحر شتائها والفصل الأكثر متعة في المدينة الحالمة المصفر وما أدراك ما المصفر. سهول مخضبة وفي الآفاق آثار خضابها وقمم ذهبية تنادي بصدى لا يتوقف ومن قمة الجراحية إلى قمة المغيسلية إلى بساط البراكية الأخضر إلى سهول الشقيقة المترامية ورمالها الذهبية إلى غباب الخبيبة الكثيفة إلى سحر الصياهد إلى غابات الجندلية ومنها إلى نفود الرايسية المترامية الأطراف إلى بلاد القسيم الرحب المراح.. ومن الطعموس إلى العدانة إلى العرقوب إلى اللغوف والعبلة والنقرة والخب.. تنوع في التضاريس يكسر الملل ويبعث في النفس المتعة.. نجد في أرض المصفر الخصوبة التي تنبت أنواع النباتات البرية وطالما سارع الكبار والصغار لجمع النباتات العراجين، الربلة، الزبلوق، البسباس، البقيقر، الفقع، الرقة، السبط، الرخاما، الحمبصيص.. (وجميعها تنشر ألوانها الزاهية على أرض المصفر الواسعة.. فنهار المصفر متعة في التجوال والمناظر الطبيعية وليله إمتاع في التسامر حول دفء جمر الغضاء وكم شهدت لياليه من أمسيات لا تنساها الذاكرة.. هذا هو المصفر وهكذا يمضي الشتاء على أهل عنيزة.. إمتاع وتسالٍ وأنس ولقاء ومحبة.. وكما هو الشتاء يحمل لأهل عنيزة المتعة فالصيف أيضاً لا يقل شأناً عن الشتاء في الإمتاع.. ولنا مع الصيف قبل ثلاثة عقود تقريباً متعة قد تكون الأجمل مع وجود براك الزغيبية قبل جفافها ومن لا يذكر من أهلها تلك البراك رقم (6، 5، 4، 3، 2، 1) واذكر رقم 6 أسموها الصامولة لكونها مسدسة الشكل أي أشبه بالصامولة. لذلك أسماها أهل عنيزة بالصامولة.. وهي براك دافئة وكبيرة المساحة قلّما تجد أحد تلك البراك خالية من هواة السباحة.. ومع دفء مياهها تكون قد حصلت على متعة السباحة والسونا الطبيعية في وقت واحد. أما صيف عنيزة الحاضر فيمضي بين الاستراحات المتميزة والحدائق المتعددة والمهرجانات الجميلة.. والمنتزهات المعدة بكل احتياجات السوق.. هذه عنيزة التي يعشقها أهلها.. والتي أنجبت الشيخ الجليل.. والسفير والوزير.. والشاعر والطيار.. والمهندس.. والدكتور.. وليس بكثير حينما يردد الشاعر قوله فيها: لك يا عنيزة في الفؤاد محباً أصفى من الماء الزلال وأعذب عنيزة في نظر الآخرين هي مساحة محدودة وفيها عدد من السكان وبعض الأنشطة التجارية والاجتماعية.. وهذا هو التعريف الجغرافي المبسط.. ولكن في عرف أهلها هي مساحة من قلوبهم كل شبر فيها يعني لهم الكثير.. يومها يختلف عن أمسها ولهم في الغد أكثر تشويق وإمتاع.. ومن هذا وتلك تدور العجلة فيها فلا يصيبك الملل ولا ترى في غيرها بديلاً عنها.. هذا باختصار شديد بعض الملامح المتجزئة عن فيحاء نجد. وعذراً للقارئ الكريم إذا اقتطعت من وقته للاطلاع على تلك الملامح دون أن تكون المعلومة اجتماعية أو يرى أن هناك من المدن ما يستحق الإطراء أكثر من عنيزة.. وأوافقه الرأي في ذلك مع الإصرار على أن أهل عنيزة يرون فيها ما لا يراه أهل فرنسا في باريس وسويسرا في جنيف وبريطانيا في لندن وليس أهل عنيزة وحدهم بل شاركهم في قصة الأصالة والحضارة شكسبير، وسادلور، وامين الريحاني. وفليبي وجورج غيرستر، وكارلتون كون.. جميعهم وضعوا عنيزة في سطور رحلاتهم.. مع تكراري لاستماحة العذر من القارئ الكريم عن الإطالة في سرد تلك الملامح والتي تعودنا أن نشعلها من على منبر (الجزيرة).. ومن القارئ العذر.. ول(الجزيرة) التحية.