بعد مفاجأة التأجيل تقاطر الساسة والمفكرون والإعلاميون بمختلف أطيافهم، وتعدد مشاربهم، وتنوع انتماءاتهم من عُرْب ومن عجم على الخوض في الحديث عن القمة متوسلين ببعض العلم، ونادر المصداقية، وكل الفصول، ولم يغادروا من متردم، وما من آراء اشتطت كما هي حول تنازع المؤتمرين للتوصل الى صيغة مقبولة لجدول الاعمال وبنود التوصيات. ولقد غفلت كبريات الصحف عن المؤتمر وارهاصاته، حتى اذا فوجئ الجميع بالتأجيل، حدَّقت الأبصار المزلقة، وهبت الصحافة العالمية، وانتفضت الفضائيات، وتحركت مراكز المعلومات، لاحتناك مألوف الشقاق بين الإخوة الأشقاء. ومع تلاطم الآراء، فالمقول دون الفرضيات، وحين لا تكون للرؤى مرجعية: شخصية أو نصية تحسم الخلاف تتشعب اشكالياتها، ومتى لم تبلغ الآراء قطعية الدلالة والثبوت، يكون الجميع في حل من القول والسكوت، وكم ترددت في الحديث عن التحول من المؤتمرات التي لا تنفذ توصياتها الى المؤتمرات التي لا تعقد جلساتها، فكل طرف يدّعي انه الأسلم في التوقف، والأحكم في التصرف، ولكيلا أعمّق الخلاف فسأصرف النظر عن تحديد المسؤولية، وكيف لا اصرفه والواعون يعرفون الموضعين في التخذيل، الساعين لإفشال المبادرات، المربكين لكل لقاء يعوّل عليه المقهورون تعويل الظماء على احتساء قراح الماء، ولسنا نبحث عن النجاة بقدر بحثنا عن توصيات متواضعة، تحفظ ماء الوجه، وتحق بعض الحق، بوصفه ضالة كل مخلص لمجمل القضايا: المحلية والعربية والإسلامية والعالمية. ومن المسلمات المغفول عنها عند المشاحة، تشابك مصالح العالم، وتداخل قضاياه، إذ كل فعل فج ينعكس أثره على المشاهد: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية، وواجب قادة الفكر وسائر المؤسسات تحامي السلبيات والدعاوى الطوباوية، وما أضاع المثمنات إلا الهدهدة بمعسول الخطابات، ولما لم يكن بالإمكان تصفية الآخر، ولا إقصاؤه، ولا الإيثار على النفس، فلا أقل من تجافي الأثره، ولم يبق - والحالة تلك - إلا التعاذر والتعايش والاحتفاظ بأدنى حد من الحق والخصوصية، والدخول على القضايا برؤية متوازنة تحفظ الحقوق، ولا تسيء للجار الجنب ولا للصاحب بالجنب. والإسلام الوسطي وجّه إلى العدل بمحكم التنزيل :-{ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} و{وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ}، و{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} فالقسط والعدل مع الأقربين والأبعدين مقتضى إسلامي، والعدول عنهما وقوع في الظلم من القادرين، واستعداء للآخر من العاجزين، وما أكثر المجازفين في القول العاجزين عن درء التعديات. والخطابات التهييجية والمزايدات الرخيصة واللعب بعواطف الدهماء تعودناها في ساقة المؤتمرات ومقدماتها، الأمر الذي يضطر ذوي الحلم والأناة إلى بذل أقصى الجهود لتفاديها: إما بالغياب، او المغالبة، او بالتمرير السلبي، وما أفقد القمم السابقة أهميتها إلا التعنّت، لكسب الرأي العام، والذين يعوّلون على المزايدة أو الاستفزاز لا يلوون على مثمنات، ولا يخشون عواقب الأمور، ولا يلتزمون بعهد، ولا يوفون بذمة، وهم في مزايداتهم واستفزازاتهم يخاتلون ذاكرة عربية مخروقة وغفلة معتقة. ولو أن الرأي العام يملك القدرة على الحفظ والاسترجاع، لكان أن أحبط اللعب وعرّى اللاعبين، وأصحاب المواقف المسؤولة لا يقبلون بالقرارات الحبرية التي تأخذ طريقها إلى رفوف الجامعة، كأي قرارات فوق الإمكان، وما قتل الأحرار إلا معرفة الحق والعجز عن إدراكه ومعرفة المبطل والعجز عن مواجهته. والتأجيل المفاجئ جاءت تداعياته في الشارع العربي متراوحة بين اللامبالاة، والمؤاخذة، والتبرير، والسخرية، واجترار ما سلف من قمم. لقد تداوله نقاد المنافي وحداد الألسنة وألدوا الخصام ومحترفو السياسة عبر آليات ومناهج ومقاصد متباينة، وأصحاب القضايا أكثر تخذيلاًَ. فالعراقيون قللوا الأهمية من الإمضاء أو الإلغاء، والشارع العراقي المنشق على نفسه جسد انشقاقه من خلال آرائه، فطائفة استدعت مواقف القمم السابقة من الشأن العراقي، ولم يكن الاستدعاء بريئاً، وإنما ارتبط بمواقف: ذاتية وحزبية وطائفية، ومن الصعب التعويل على شيء منها، لكونها وليدة انفعال تستدعيه الظروف السيئة التي يمر بها الشعب العراقي، وتماهى فلسطينيو: الشتات والداخل مع تشاؤم العراقيين، وتراوحت آراء من سواهم بين المثالية والواقعية والتفاؤل والتشاؤم، وبما أن القمة غير قادرة على اتخاذ موقف حاسم في الشأن العراقي فإن المواطن العراقي لا يجد بداً من النيل من المؤتمر في حال انعقاده أو تأجيله أو إلغائه. والشأن العراقي يشكل عقبة صعبة التطويع للمؤتمرين، كما القضية الفلسطينية، فما كان وليد ظرف طارئ، وإنما هو نتيجة تراكمات من الأخطاء والسلبيات على مدى ثلاثين عاماً، ولما لم يحسم شيء منها في حينه، فقد أصبحت فوق الطاقة، وتحميل قادة الأمة العربية للقضايا المستعصية فيه إجحاف، فالإنسان العراقي عليه كفل من ذلك، واللعب الكونية المحكمة الصنع على صانعيها ومنفذيها والضالعين والمدلسين كفل من ذلك، وإدانة الشاهد دون الغائب أبعد للتقوى، وعقلنة التصرف تستدعي تمحيص المواقف، وتحرير القضايا، وتحديد المسؤوليات. ووسط طوفان الآراء والمواقف لا أجد غضاضة من إرجاء القمة، لمزيد من المراجعات والمشاورات، وتلافي نقاط الاختلاف، والبأس كل البأس ألا تعقد القمة، أو أن تعقد ثم لا تفعّل التوصيات، والخرّاصون يجعلون إصلاح الشأن العربي وتجديد هيكل الجامعة بؤرة التوتر، إضافة الى الشأنين (العراقي) و(الفلسطيني)، والمهم هو الإسراع في اللقاء والوصول إلى صيغة مناسبة للإصلاح الشامل ومواجهة معقولة للأحداث الجسام، والمتسرب من مداولات وزراء الخارجية حول الشأن العراقي لا يعد محرجاً، ولا مسيئاً لأحد، فالمتوقع ان المؤتمر سيرحب بالدستور العراقي، ويستنكر استهداف المنشآت العراقية والإنسان العراقي، ثم ان الدول العربية مقتنعة بحتمية الإصلاح الشامل، وهي مقبلة عليه، ولكنها محكومة بخصوصيات وإمكانيات وأولويات وأنساق ثقافية واجتماعية ودينية لا يمكن معها تجانس الأداء ولا توافق الإيقاع، كما ان القادرين على دفع الضرر لن يسلموا لكل تطلعات التحالف حول صيغة (شرق أوسطي كبير) لما تنطوي عليها من تمكين جائر لإسرائيل وتفعيل سريع للعولمة وتعميم شامل للعلمنة. ومما يرفع من درجة التوتر أن الناس ينظرون إلى المؤتمرين على أنهم قادرون على كل شيء، وأنهم أناس يختلفون عن سائر الأناسي، فكأن لهم عقولاً تختلف عن عقول العامة، وأفئدة تختلف عن أفئدة الخاصة، وأنهم يفعلون ما يقولون، ولا يُسألون عما يفعلون، وما علموا أنهم محكومون ب(استراتيجيات) عالمية، وأحلاف ثنائية، وظروف معقدة، وإمكانيات متواضعة، ولو أن العامة نظروا إلى كافة المسؤولين كما خلقهم الله، ما وهنوا، وما استكانوا، ولما استيأسوا من روح الله. ولقد كنت من قبل أحسب ان كل مسؤول يأتي على قدر من مسؤولياته، وأن كل بطل يولد على صهوة جواده، حتى إذا تمكنت من المتابعة والرصد والتقويم والوقوف على دخائل الأمور، تبين لي أن منهم من يقول ما لا يفعل ويدعي مالا يقدر عليه، ومع تلاحق الإحباطات يجيب ألا نيأس، وألا نبتئس، وألا نبخس الناس اشياءهم، فكم من رجل يعدل ألف رجل، وكم من مئة من الإبل لا تكاد تجد فيها راحلة، والشارع العربي معه بعض العذر، فالارتباك المعاش جاء من شدة الصدمة وتلاحق الإحباطات، ومن ثم راح الناس يتساءلون، ويلحون في التساؤل: هل قرار التأجيل جاء بإرادة عربية مدركة لتصرفها، مسبوقة بتنسيق مستعجل مع خاصة الخاصة، أم أنه جاء بالإكراه؟ المؤكد أن بوادر الفشل لاحت في الأفق في وقت مبكر، وكانت هناك تنبؤات لتعثر المؤتمر بسبب اعتذار بعض القادة من ذوي الوزن الثقيل، وأياً ما كان الأمر فإن إلغاء القمة أو تأجيلها لن يكون بدون أسباب جوهرية، وبدون ظروف ضاغطة لا يمكن احتمالها أو التغلب عليها، ولقد أحال المتنبئون إلى تخوفات (الرئيس الجزائري)، حيث وصف القمة بأنها تمر بحالة من الغموض المؤدي إلى تعثرها، ولم تشر هذه التخوفات إلى إلغائها أو تأجيلها، وإن أحيل التخوف إلى اعتذار البعض عن حضورها. وإرهاصات الفشل تبدّت في الجلسة الأخيرة التي امتدت خمس ساعات وارتفعت فيها حدة التلاسن بين ثنائيات عربية، ولقد كانت نقاط الاختلاف المتداولة تمس قضايا حساسة مثل: * الإصلاحات السياسية والدستورية والاجتماعية التي يلوح بها الغرب تمهيداً لشرق أوسطي كبير، تخترق فيه إسرائيل والعولمة والعلمنة اقتصاد العالم العربي ومؤسساته وثقافاته. * تفعيل دور المرأة العربية في مختلف الحقول الإجرائية. * قبول صيغة للديمقراطية المؤمركة. * إعادة هيكلة الجامعة العربية بشكل يؤثر على السيادة الإقليمية. على أن التفاعل مع الطرح الأمريكي يشكل حساسية مفرطة بسبب فجوات الاختلاف الواسعة، فمن (مرتمين) في الأحضان، إلى (متمنعين) مبقين على التواصل، إلى (متأبين) لكل طرح. ومستويات الموافقة المطلقة، والوسطية المتوازنة، والرفض العنيف لكل الطرح الأمريكي ربما كانت من (محفزات) الفشل. وفوق كل ذلك فقد لعب بعض المؤتمرين دوراً تحريضياً استفزازياً لتأزيم المواقف والحيلولة دون الوفاق، ومن يدري فكم تحت السواهي من دواهٍ والسياسة فن الممكن، كما أن بعض الوزراء المجهِّزين للقمة لم يفسح لهم في الوقت لمزيد من التقريب بين وجهات النظر، فيما لم تستغل طائفة منهم القواسم المشتركة، حتى إذا ضاق عطنهم عن احتمال الاختلاف تمخض الموقف عن التأجيل، ولربما تصور المضيف إن اختلاف الوزراء سيحول دون تجهيز صيغة توفيقية لخروج القمة بتوصيات مناسبة، ولقد قيل بأن (الأجندة) الإقليمية والعربية شارفت على النهاية، واتجهت صوب الاتفاق او التوفيق، ومن ثم جاء قرار التأجيل صدمة مذهلة للمؤتمرين أنفسهم، الذين لم يدر بخلد أحد منهم أن الأمر سيصل إلى هذا الحد. ولربما كانت هناك أوراق عمل وفد بها أصحابها لم تكن في الحسبان حدت بالزعيم التونسي لاتخاذ قرار التأجيل، وهو قرار أسخط الناس جميعاً، وحمّل تونس كل التبعات، ومع كل ما سبق فإنه لا يمكن العدول عن مناقشة التأجيل بحكمة وروية، فالحكم المطلق عليه قد يعمق الإشكالية، وتونس دولة مضيفة، ومن حقها تفادي الصدام أو الفشل، ولعلها لم تر أفضل من الإرجاء لمزيد من الدراسات، فما عاد الشارع العربي يقبل بالتمييع أو بالتنابز، والتأجيل فيما أرى افضل بكثير من الصدامات والسلبيات، فما عدنا نحتمل المزيد من الأخطاء والمزيد من العجز عن مواجهة الظروف العصيبة. ولتصعيد النيل قيل: بأن الزعيم التونسي انفرد باتخاذ القرار بناء على توصية من امريكا، ولاسيما أنه عائد منها قبل القمة، وقد تحال تلك المقولة إلى عقدة التآمر، والتآمر والغزو قائمان، ولكنهما ليسا بهذه العمومية، ويحول دون صدقية هذا التوقع - فيما أرى - إسراع الدول الأكثر وسطية والأكثر تفاهماً مع أمريكا إلى التعجيل بعقد القمة في أقرب فرصة، ولو أن امريكا وراء الإلغاء لكان أن مارست ضغوطاً مماثلة على الدول القوية والمؤثرة في المنطقة، ولو أن امريكا حريصة على الإصلاح السياسي والاجتماعي كما يشاع لكان تنفيذ المؤتمر تعجيلا للإصلاح الذي تريد. وفي هذه الظروف العصيبة التي تداعت فيها أيدي الأكلة على قصعة الأمة يجب على المتابع السعودي، وقد هيأ الله له أجواء ملائمة لرصد التقلبات السياسية أن يمارس الحياد الإيجابي، بحيث يتقي التأثر السلبي بالمتغيرات المفاجئة، إذ كل من تمكن من الرصد السليم للتحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية يود أن بينه وبينها امداً بعيداً. وليس في الحياد الإيجابي إلغاء للذات والأثر والتحرف للأفضل، فما من عاقل رشيد إلا وعليه كفل من نوازل الأمة، وإن لم ينفر المقتدرون لسد الثغور وحماية المكتسبات فإنه سينزل بساحاتهم ما يقض مضاجعهم، والإحجام والإقدام إن لم يُقدّرا يزيدان في الارتكاس، ولأن الواقع العربي والعالمي بلغ من التعقيد والتوتر حداً لا مزيد عليه فإن على أهل الحل والعقد التريث في المواجهة والاستشارة والاستخارة والمقاربة الرفيقة، فما عاد بالإمكان احتمال مزيد من المغامرات، ومع أن التعنت الأمريكي والاعتداء الإسرائيلي لا يحتملان، إلا أن بالإمكان احتمال الأذى والصبر والمصابرة والمرابطة والانحناء للريح الهوجاء لتمر بسلام، ومؤتمر القمة وإن استجاب لكل (الأجندة) فإنه لن يخرج بقرارات مصيرية، ذلك أنه يواجه ب(الاستراتيجية) الإسرائيلية التي لا تطاق وبمقتضيات احتلال دول التحالف التي لا تحتمل، وبالضعف والهوان، وبالتردد العربي في تحقيق الإصلاحات السياسية كما يريدها الغرب. وصفوة القول: إن الذين يحرّضون على تقحم المشاكل دون النظر في الظروف والملابسات والإمكانيات وعواقب الأمور، يعرّضون مكتسبات الأمة لمزيد من الضياع، والمثبّطون الوجلون السلبيون الذين لا يهتمون بأمور أمتهم، ولا ينهضون بمهماتهم على وجهها، يتركون ثنياتهم للمترصدين والمتربصين، والمستغربون أدلاء كما الأغربة، وما أضاع الأمة إلا المغامرون الذين ينكبُّون عن ذكر العواقب جانباً، وإلا الهيابون الوجلون الذين لا يزيدون أهلهم في ساعات العسرة إلا خبالا، وإذا كان للصعود في سلّم المجد ناموسه فإن للانحدار في درك الضعف اسبابه، وجهل النواميس والأسباب مؤذن بمزيد من الانكسارات.