انقضت أسابيع على انعقاد قمة عمان، ولكن الجسم السياسي العربي لا يزال منشغلاً بتقويم ذلك الحدث وبتتبع نتائجه وتداعياته. ومثل كل حدث من الاحداث المهمة في المنطقة العربية، انقسم المعنيون به الى فرقاء متعددين لكل منهم مجموعة قيم يؤمن بها وتؤثر على تقويمه للقمة ونظرته اليها. ولهذه التقويمات أهمية احياناً ليس من حيث انها تلقي المزيد من الضوء على القمة، ولكن من حيث انها تلقي ضوءاً على بعض انماط التفكير المنتشرة في المجتمعات العربية، وعلى مواقف فرقاء من أهل الرأي والقرار في الدول العربية وخارجها. ومن مراجعة هذه التقويمات نجد ان القمة قوبلت خارج المنطقة العربية بالكثير من التجاهل، اما داخل المنطقة العربية فقد انقسم الذين ابدوا رأياً في القمة ونتائجها الى ثلاثة فرقاء: الأول أيد القمة من دون تحفظ، والثاني عارضها معارضة كاملة، والثالث جمع التحبيذ والنقد في موقفه منها. التجاهل الذي قوبلت به القمة في الخارج، في المجتمعات الغربية، لا يصح ان يكون معياراً لفشل القمة أو نجاحها، كما اعتبر في المنطقة العربية. صحيح ان الكثير من القوى ذات الأثر والنفوذ في المجتمعات الغربية لا ترتاح عموماً، ولأسباب ايديولوجية في حالات كثيرة، الى العمل العربي الجماعي، إلا انه ليس هذا هو السبب الرئيسي لضعف الاهتمام في الغرب بقمة عمان أو بالقمم العربية عموماً، ولأسباب ايديولوجية في حالات كثيرة، الى العمل العربي الجماعي، الا أنه ليس هذا هو السبب الرئيسي لضعف الاهتمام في الغرب بقمة عمان أو بالقمم العربية عموماً بل له أسباب متعددة اخرى. من هذه الأسباب ان القمم الاقليمية لم تعد تثير الاهتمام الكبير في المجتمعات الغربية، اذ انها تعددت وباتت احياناً حدثاً يومياً اذا ما تابع المرء اخبارها في اقاليم العالم. ففي اليوم نفسه الذي اجتمع فيه القادة العرب في عمان فانشغل الرأي العام العربي بهذا الاجتماع، كان قادة الاتحاد الأوروبي يجتمعون في ستوكهولم من دون ان يهتم الرأي العام الأوروبي اهتماماً كبيراً بهذا اللقاء. ولم تحظ القمة الأوروبية بالتعليق أو الاهتمام الا في معرض الحديث عن بعض الهموم الأوروبية مثل مشكلة المهاجرين وقضية الحمى القلاعية. بالمقارنة، أبدى العرب اهتماماً كبيراً بالقمة لأنها لا تزال وكأنها شيء غير مألوف ومفاجئ. في المنطقة العربية أيد بعضهم القمة تعبيراً عن تأييده النخب الحاكمة، والتزاماً بسياسة هذه النخب وموقفها من القمم العربية. وكان هذا البعض يعارض انعقاد القمة ويلتمس المبررات لتأجيلها ولصرف النظر عندما كانت النخب أو النخبة الحاكمة التي يؤيدها تعارض عقدها. وستبرز مثل هذه المعارضة للقمة مرة اخرى اذا عادت النخب العربية الحاكمة عن موافقتها وتحبيذها عقد القمة في المستقبل. وفي هذا الفريق ايضاً من يحكم على القمة من خلال مصلحة الدولة التي ينتمي اليها وحسب، فإذا فاز هذا البلد بما يريده من القمة يعطي المؤتمر علامة النجاح، أما اذا لم يحقق البلد ما يتوخاه من القمة من دعم مادي أو سياسي، فإنه يحكم عليها بالفشل. وغالباً ما يحدد هذا النوع من المعنيين بالسياسة العربية موقفهم من القمم ورأيهم في أدائها انطلاقاً من مصالح بلده الراهنة والداهمة من دون مراعاة المصالح البعيدة المدى لبلده. ان المصلحة البعيدة المدى للدول في أي تجمع اقليمي، مثل الأسرة العربية، هي في توطيد هذا التجمع وترسيخ مؤسساته وفاعليته الاقليمية والدولية. والدولة العربية، اية دولة، قد توفق في مؤتمر من المؤتمرات، وقد تستجيب الدول الأخرى الى مطالبها واقتراحاتها في وقت من الأوقات، وقد يخيب مسعاها في ظرف آخر ولا تلقى مشاريعها واقتراحاتها تجاوباً من الآخرين. ولكن في مطلق الحالات، لهذا البلد مصلحة في استمرار ذلك التجمع الاقليمي وفي تعزيز كيانه ومؤسساته حتى يتمكن من مواصلة العمل على اقناع الدول العربية الاخرى في الغد بما لم تقبل به في الأمس، أو لأن بينه وبينها العديد من القضايا التي تستحق العمل الجماعي، فإذا لم يستفد من موقفها في واحدة من هذه القضايا لأفاد من عملها كمجموعة اقليمية في العديد من القضايا الأخرى. هذه المزايا التي تسم العمل في اطار التجمعات الاقليمية تغيب عن بعض نقاد القمم العربية ومؤسسات العمل العربي المشترك الذين يحاسبون هذه القمم والمؤسسات على موقفها من قضية واحدة راهنة فحسب تخص بلدهم لا غير، فإذا لم ترضخ القيادات العربية لإرادة هذا البلد بالذات وفي تلك القضية المحددة، يصب أولئك النقاد غضبهم على كل ما يمت الى العمل العربي المشترك بصلة ويتصرفون تصرف المناهضين له جملة وتفصيلاً. مقابل الذي يؤيد القمة لأنه يؤيد النخب الحاكمة، أو نخبة حاكمة معينة، نجد من يعارض القمة لأنه يعارض النخب الحاكمة العربية، أو لأنه يعارض النخبة الحاكمة في بلده، فنراه يناهض ويعارض الوضع الراهن العربي معارضة ومناهضة وصلت الى حدود القطيعة التي لا رجعة فيها. تأسيساً على ذلك، لا يعارض هذا الفريق من المواطنين وأهل الرأي القمة لنقص فيها أو لأنها تسبب ضرراً لبلد معين أو للأسرة العربية بصورة عامة، ولكنه يعارضها لأنها قد تعود على النخبة الحاكمة التي يناهضها بشيء من الصدقية والتعاطف الشعبي. وحيث ان هذه الصدقية لا تتأثر بعامل انعقاد القمة - علماً بأنه عامل يؤثر على المواطنين الذين يميلون الى فكرة التعاون العربي - وانما ايضاً بعامل نجاح أو فشل القمة، فإن الذين يعارضون النخب الحاكمة معارضة عنيفة، يبذلون كل جهد من اجل اقناع المواطنين بأن القمة فشلت فشلاً ذريعاً وبأنها لم تحقق أي هدف من الاهداف المتوخاة منها. وبين الذين يقفون موقف السلب من القمم العربية، ومنها قمة عمان الأخيرة، من يفعل ذلك لأنه يقف اساساً ضد الفكرة العربية، ويجد في استمرارها، في أي شكل وعلى اي مستوى من المستويات، ضرراً كبيراً يصيب المجتمع الدولي أو شعوب المنطقة أو الجماعة التي ينتمي اليها أو النظرة السياسية التي يعتنقها. والقمة العربية، بصرف النظر عن مواقف تتخذها هذه الحكومة أو تلك من القضايا العربية أو المحلية، هي من تجليات الفكرة العربية. ولو لم تكن للفكرة العربية من تأثير على الرأي العام، لما اهتم المسؤول العربي بتمثيل بلاده في القمة، ولما بذل جهداً في اقناع المواطن انه ساهم في انجاح أعمالها. وقمتا القاهرة في تشرين الأول اكتوبر الفائت وعمان انعقدتا في أجواء انتعاش الفكرة العربية. واذا كانت القمة هي من تجليات هذه الفكرة، فمن الطبيعي ان الفريق الذي يناهض هذه الفكرة يعارض القمة، وهي معارضة تتخذ شكلين: 1- توجيه أشد انواع النقد ضد النخب الحاكمة العربية، كنوع من "العقاب" لها لأنها استجابت الى ضغوط المتعاطفين مع الفكرة العربية، وسعت، بموافقتها على المشاركة في أعمال القمة، الى استرضاء هؤلاء وتوسيع دائرة مشاركتهم في الحياة العامة. وفي تقدير مناهضي الفكرة العربية ان الموقف الصحيح الذي يجب ان تتخذه النخب الحاكمة في المنطقة هو التخلي النهائي عن فكرة التعاون العربي عن طريق الامتناع عن الاشتراك في اي مؤسسة من مؤسساتها او عمل يتصل بها مباشرة او مداورة. فاذا لم تقف النخب العربية الحاكمة مثل هذا الموقف، واذا اقدمت على عمل يخرج عن هذا المسار، فانه ينبغي "تأديبها" حتى لا تكرر مثل هذا السلوك ولتتراجع عنه بسرعة حتى تتقاطع القمم المقبلة وتعمل بكل وسيلة على اجهاض مقررات القمة الماضية. 2- تبخيس اهمية الحدث، والحكم عليه بالفشل وتجاهل اية مزية او اثر ايجابي له بحيث تنقلب نتائج القمة مزيداً من الاحباط في اوساط الرأي العام. ويسود هذه الاوساط اعتقاد بأن العروبة، وتجلياتها السياسية على المستويين الرسمي والشعبي، فكرة مستحيلة ومشروع طوباوي. الفريق الثالث من النقاد والذين أبدوا رأيهم في نتائج القمة ونتائجها فعل ذلك منطلقاً وفي ذهنه معطيات السياسة العربية والدولية، ومحدودية دور القمم بخاصة في منظومة اقليمية لم تعرف الاستقرار مثل النظام الاقليمي العربي. ان القمم لا تخلق، في تقدير هذا الفريق، واقعاً مغايراً لما سبقها. فالذين يحضرون هذه القمم هم انفسهم قادة الدول التي تتقاسم الاقليم العربي او غيره من الاقاليم. وكل واحد من هؤلاء يحضر القمة حاملاً معه مصالح النخبة التي يمثلها ويرعاها والبلد الذي يتزعمه ونظرته الى العلاقات العربية والدولية. وهذه المعطيات لا تتغير لمجرد حضور القادة العرب مؤتمرات القمة بخاصة القمم العربية التي تضم 22 دولة. من هنا، فان هذا الفريق الثالث من المحللين والنقاد يحكم على القمة بمعايير نسبية وواقعية، بحيث يكون السؤال هو: هل اضافت القمة شيئاً الى السياسة العربية؟ هل حسّنت الواقع العربي وعزّزت قدرة الحكومات العربية على التعامل مع التحديات التي تواجه المنطقة؟ هذا الفريق الثالث من النقاد والمحللين يقدّم اجابة صحيحة على هذه الاسئلة عندما يلاحظ ان القمة العربية، مثل القمم الدولية والاقليمية عادة، تخدم مصالح الدول المشتركة فيها، كدول مستقلة وكمجموعات. تخطئ الحكومات العربية عندما تدير ظهرها للعمل العربي الجماعي، وتعرقل عمل مؤسسات ومشاريع العمل العربي المشترك. ولكن عندما تبدي هذه الحكومات اهتماماً بهذه المؤسسات والمشاريع فتحضر القمة وتتخذ نحو تسعة عشر قراراً بتطوير مؤسسات العمل العربي المشترك، وهو حدث غير مسبوق في تاريخ القمم، فإنه من الانصاف ان يشار الى هذا الانجاز، وان يعتبر علامة تطور في الوضع العربي، وهذا التطور، كما قال بعض الزعماء العرب، جاء استجابة لتحرك شعبي واسع ومحاولة لملاقات النداءات التي صدرت عن الاوساط الاهلية العربية في اعقاب الانتفاضة الفلسطينية. وبعد القمم، هناك المسألة الجديرة بالمراقبة بل بالمواكبة الشعبية والاهلية، هي السعي الى الزام الحكومات العربية بما اتخذته من قرارات. هذا ما يدور في خلد الكثيرين من المعنيين بالشأن العربي، اما الذين يرون في الفكرة العربية الضرر والأذى فإن همّهم هو عكس ذلك، اي الغاء اي اثر او قرار ايجابي خلفته القمة مهما كان محدوداً ومتواضعاً. * كاتب وباحث لبناني.