إن السوق من الأماكن التي يتردد عليها الناس باستمرار، وهذا لشدة حاجتهم للسلع المعروضة، وخاصة المعيشية. لذا فإن مراقبة أسعار السلع المعروضة في السوق والحيلولة دون ارتفاعها فوق سعر المثل، وتعيين سعر لها وفرضه على التجار إن دعت الحاجة إقامة للعدل، وتحقيق للرخاء، ومنع للظلم. إن تحريم الإسلام للتلاعب بالأسعار، وتحريمه التأثير على المنتجين بتلقيهم قبل الأسواق، للتحكُّم في أسعار منتجاتهم، واهتمامه بأن تكون السوق حرة مفتوحة تتحكم فيها قوانين العرض والطلب الفطرية العادية، ثم تحريمه الاحتكار بكل أنواعه يُعطي وليَّ الأمر الحق في مراقبة السوق وطريقة سيرها ومعدلات الأسعار فيها؛ إقامةً للعدل الذي أمره الله أن يقيمه بين الناس {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (25) سورة الحديد. والإسلام يهتم بأن يكون كسب التاجر طيِّباً حلالاً، أخذه بالمعروف والعادل من الأسعار، وابتعد فيه عن استغلال حاجة المحتاج، وأخذ ثمن السلعة أضعافاً مضاعفة. فإذا تحوَّل التاجر من السعر العادل الذي يقتضيه العرف الطيِّب للأسعار فقد خرج عن دائرة الحق، وأصبح مضاراً للمجتمع ظالماً له، ومن ثَمَّ وجب الأخذ على يده، وإلزامه حدود القسط والعدل، ومنع إضراره بالناس، وذلك أن تُسَعَّر السلعة بسعر المثل، والوسائل لمعرفة ما تتكلَّفه السلعة وما ينبغي أن تُباع به سهلة ميسَّرة لأهل الخبرة والمعرفة. أما ما ورد عن أنس رضي الله عنه قال: غلا السعر في المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: يا رسول الله، غلا السعر، فسعِّر لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله هو المُسَعِّر القابض الباسط الرازق. إني لأرجو أن ألقى الله وليس أحدٌ منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال). ومعنى هذا أن الغلاء كان حالةً طارئةً، وأن أسبابه كانت معروفة، وأن استغلال الحالة من جانب التُّجَّار كان قليلاً، وأن عدم التدخل كان أولى، وأنه صلى الله عليه وسلم وَكَلَهُم إلى أخلاقهم وضمائرهم، وترك القضية حسب العرض والطلب. هذا هو الأولى أن تُترك الأسواق حرَّة، وتُهَيَّأ كل الأسباب لعدم التأثير فيها، فتكفل جميع الوسائل التي تُيَسِّر إحضار السلع، ويُحال دون تكتُّل المؤسسات الاحتكارية.. إلخ. أما إذا تبيَّن ظلم التُّجَّار للناس وجشعهم ومحاولتهم الكسب أضعافاً مضاعفة، فقد لزم التسعير ووجب. وعلى ذلك رأي الإمام مالك؛ فقد قال بجواز التسعير في الأقوات. وقال المهدي: إنه استحسن الأئمة المتأخرون تسعير ما عدا القُوتَيْنِ؛ كاللحم والسمن؛ رعايةً لمصحلة الناس ودفع الضرر عنهم. وأوجب ابن تيمية -عليه رحمة الله- التسعير في البضائع والصنائع التي يحتاجها الناس وتشحُّ عليهم، ويمتنع منها أربابها، والله أعلم.