أحمد عرابي 18411911م زعيم مصري، قلّما جاد الزمان بمثله, فهو رغم نشأته البسيطة كفلاح مصري بسيط في محافظة الشرقية إلا أن طموحه الكبير للخروج بمصر من عهد الاستعمار الخارجي والحكم المستبد، جعله يكتب صفحة مشرقة من تاريخ مصر، انتهت بمحاكمته من قبل القوي المستبدة في واحدة من أشهر وأسوأ المحاكمات التي عرفها التاريخ المصري الحديث.ولد أحمد عرابي في 31 مارس سنة 1841م في قرية هرية رزنة بمحافظة الشرقية بمصر، وكان أبوه شيخ البلد وهو من عائلة بدوية استوطنت تلك القرية في عهد جد عرابي، وحرص أبوه علي أن يعلمه القراءة والكتابة ويحفظه القرآن الكريم، ثم ارسله إلى الجامع الأزهر وعمره ثماني سنوات لطلب العلم، ومكث فيه أربع سنوات اتم خلالها حفظ القرآن الكريم وتلقى شيئا من اللغة والفقه والتفسير.عاد الشاب عرابي إلى قريته دون أن يتم دراسته في الأزهر، والتحق بالجيش المصري جنديا بسيطا رقي بعدها بأربعة سنوات فقط إلى مرتبة الضباط نظرا لكفاءته وهو بعد في السابعة عشر, وتوالت الترقيات حتى وصل إلى رتبة قائم مقام في عام 1860م.إرهاصات الثورةفي أوائل عهد اسماعيل وقعت خصومة بين عرابي ولواء شركسي في الجيش اسمه خسرو باشا أدت إلى تقديمه إلى مجلس عسكري والحكم عليه بالسجن واحدا وعشرين يوما، الغي لكن الواقعة أدت إلى فصل عرابي من الجيش,, وأورثته هذه الحادثة بغضا شديدا للشراكسة, ورفع عرابي تظلما من القرار إلى الخديوي اسماعيل وظل هذا التظلم بين النظر والاهمال ثلاث سنوات, التحق بعدها بوظيفة في دائرة الحلمية، وفي هذا الحين تزوج من كريمة مرضعة الأمير الهامي باشا وهي اخت حرم الخديوي توفيق من الرضاعة، وتوصل بذلك إلى استصدار أمر من الخديوي اسماعيل بالعفو عنه واعادته إلى الجيش برتبته العسكرية.ومن ذلك الحين أخذ عرابي يبث في نفوس الضباط الوطنيين فكرة الاتحاد والمطالبة بحقوقهم وكان للباقته وفصاحته في الكلام واستناده إلى بعض الأحاديث الشريفة النبوية تأثير كبير في نفوس الضباط، فيمكن اعتبار سنة 1875 بدء دعوة عرابي الوطنية وكان ذلك في عهد الخديوي إسماعيل, ولما تولى توفيق باشا الخديوية رقي عرابي إلى رتبة امير الاي عام 1879م وظل يشغل هذا المنصب حتى نشوب الثورة 1881م.الثورةتوصف ثورة عرابي أنها ثورة عسكرية، وهذا صحيح لأن زعيمها والقائمين بها ضباط الجيش, لكنها أيضا ثورة قومية اشتركت فيها طبقات الأمة كافة، وللثورة نوعان من الأسباب، أسباب عامة وهي تتعلق بحالة الشعب والعوامل التي دفعته إلى مناصرة الثورة وتأييدها وأسباب خاصة مباشرة وهي المرتبطة بطبقة الضباط والجند وموقفهم من الحكومة.فقد تذمر الضباط الوطنيون من سوء معاملة رؤسائهم خاصة عثمان رفقي الشركسي الاصل، الذي كان يمثل طبقة الرؤساء العسكريين المنحدرين من سلالة الترك والشراكسة وفي عام 1882م تزعم )عرابي( الجيش المصري للقيام بثورة على كل الأوضاع الظالمة للمصريين آنذاك، في ثورة عدها المؤرخون من أهم الثورات التي قام بها المصريون وكان الهدف الواضح أمامه هو القضاء على النفوذ الأجنبي في البلاد, وعندها استعان الخديوي بالإنجليز, فنشبت الحرب بين العرابيين والإنجليز, وقتها لم تكن القوى الشعبية المصرية فقط من ساند عرابي لكن أيضا كثير من القوى المحبة للسلام فابن الزعيم الإيطالي غاريبالدي استعد لإرسال متطوعين إلى مصر لمحاربة الانجليز.والمستر بلنت وبضع أنصار الحرية من الإنجليز وقفوا بجانب الثورة، وبالفعل نجح عرابي في بعض معاركه الأولى ضد الإنجليز, إلا أن الخيانة تسربت إلى صفوفه, وكانت المحاكمة أو المهزلة.مهزلة المحاكمةبعد اعتقال عرابي واعمال ثورته تم اعتقال كثيرين من الضباط وبلغ المقبوض عليهم أكثر من 39 ألف شخص واستقر رأي الإنجليز على أن يقدم عرابي ومن معه امام محكمة عسكرية، واختار عرابي أن يدافع عنه أحد المحامين المصريين وهو عبدالكريم ناجي ، ولكن هذا المحامي رفض الدفاع عن عرابي خشية بطش الخديوية، عندما اختار له المستر )ولفرد بنت( ذلك المستشرق الإنجليزي الذي ناصره منذ البداية، اثنين من المحامين الإنجليز هما المستر برودلي والمستر نابيه, وتم استبعاد تهمة مذبحة الاسكندرية وتهمة احراقها, من قائمة الاتهامات الموجهة لعرابي ومن معه.على أن يعترفوا بجرمهم وأن يستبدل الخديو بحكم الإعدام النفي المؤبد وان يصدر بعد ذلك مرسوم بمصادرة أملاكهم مع عدم المساس باملاك زوجاتهم وان تقرر الحكومة لكل منهم معاشا يعني بحاجتهم مع حرمانهم رتبهم والقابهم، فارتضي العرابيون هذا المصير، وعلى ذلك جاءت المحاكمة التي لم تدم سوى يوم واحد,, وانعقدت برئاسة محمد رؤوف باشا يوم 3 ديسمبر سنة 1882م بوزارة الاشغال بقاعة مجلس الشيوخ السابق، الساعة التاسعة والنصف صباحا لمحاكمة عرابي أولا، ولم يكن الجمهور يعلم بالموعد المحدد لانعقادها، فلم يحضر الجلسة سوى نحو أربعين من النظارة، منهم عشرون من مراسلي الصحف، وكان مقررا أن يتولى الاتهام امام المحكمة العسكرية المسيو بورسيللي رئيس قسم قضايا الحكومة، ولكنه تنحى عن الجلوس في مركز الراعي العمومي، إذ رأى أن المحاكمة مهزلة متفق عليها من قبل، فجلس بدلا منه قومندان الحامية الإنجليزية في التحقيق، وأخذ مجلسه قريبا من المكان الذي أعد لعرابي وبعد أن أخذ أعضاء المحكمة مجالسهم جيء بعرابي من السجن.وكان قبل مجيئه قد وقع على وثيقتين,, الأولى يعترف فيها بارتكابه جريمة العصيان، ويتعهد في الثانية بأن لا يبرح الجهة التي تعينها الحكومة الإنجليزية لمنفاه.دخل عرابي قاعة الجلسة مرتديا بدلة عادية وجلس في المقعد الذي خصص له، وجلس محامياه إلى جواره,, فتلا عليه رؤوف باشا رئيس المحكمة ورقة الاتهام، فاجابه عرابي أن محاميّ سيجيبان بالنيابة عني, فتلا المستر برودلي بالفرنسية ورقة أمضاها عرابي وفيها يعترف بجريمة العصيان, واستغرقت تلاوة الحكم وأمر الخديو بتعديله عشر دقائق ثم انفضت الجلسة.وحوكم زملاء عرابي الستة وهم: محمود باشا سامي البارودي ومحمود باشا فهمي ويعقوب سامي باشا وعبدالعالي حلمي باشا وعلي باشا فهمي الديب وطلبة باشا عصمت.وأعيد عرابي إلى السجن ليبقى فيه ريثما ينفذ الحكم, وكان أول شيء فعله عرابي بعد عودته إلى سجنه أن صلى لله وأطال سجوده شكرا له سبحانه.ولذا قضت هذه المحاكمة المهزلة أن يعيش غريبا منفيا تسعة عشر عاما، ثم يعود غريبا في وطنه عشرة أعوام كاملة حتى توفي عام 1911م بالقاهرة بعد سبعين عاما في الحياة قضى ثلاثين منها منفيا خارج وطنه تارة، وداخل وطنه تارة أخرى.