الغلو ليس انحرافا فكريا يحدث تلقائيا أو بصورة عشوائية، بل إن له أسبابا ودوافع نفسية واجتماعية منها الفراغ والبطالة أو ضعف المستوى التعليمي والجهل بالعلوم الشرعية.. واغلاق الباب أمام الغلو يكون بازالة أسبابه وسد الطرق المؤدية اليه.في هذا التحقيق يطرح عدد من المشايخ رؤاهم لمفهوم الغلو وأسبابه وعلاج الأخطاء المسببة له مستفيدين من هدي القرآن الكريم والسنة المطهرة. مفهوم الغلو بداية يقول د. طارق الخويطر عضو هيئة التدريس بمعهد القرآن الكريم بالحرس الوطني: لقد نهى الله جل وعلا في كتابه العزيز عن الغلو في الدين فقال: {يّا أّهًلّ الكٌتّابٌ لا تّغًلٍوا فٌي دٌينٌكٍمً وّلا تّقٍولٍوا عّلّى اللَّهٌ إلاَّ الحّقَّ إنَّمّا المّسٌيحٍ عٌيسّى ابًنٍ مّرًيّمّ رّسٍولٍ اللَّهٌ وّكّلٌمّتٍهٍ أّلًقّاهّا إلّى" مّرًيّمّ وّرٍوحِ مٌَنًهٍ} . والغلو هو الإفراط في التعظيم بالقول والاعتقاد، وفي الآية يعني ألا ترفعوا المخلوق عن منزلته التي أنزله الله فتنزلوه المنزلة التي لا تنبغي إلا لله، والخطاب وإن كان لأهل الكتاب فإنه عام يتناول الأمة بأسرها. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«هلك المتنطعون» قالها ثلاثاً. قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: والمتنطع هو الغالي المتشدد المتكلف الذي يزيد في الأمور ولا يتقيد بالحد المحدود، وأصله في الكلام بأقصى حلقه، والتكلف في الكلام، وهكذا كل غال في كل شيء يقال له متنطع. ويضيف د. الخويطر: ومن أسباب الغلو عدم الفهم الصحيح للأدلة من القرآن الكريم والسنة المطهرة، وعدم الرجوع الى العلماء وسؤالهم والتعلم على أيديهم، فإذا انفرد الشخص بالقراءة والفهم حصل له من الانحراف بقدر قراءته الفردية، ومن الأسباب أيضا ما يقوم به أهل الباطل من مهاجمة الدين وأهله والاستهزاء بهم عبر الصحف والمجلات والاذاعات في حين لا يسمح لأهل الحق أن يدافعوا عن أنفسهم وعن دينهم عبر هذه القنوات التي يستخدمها أهل الباطل. وعلاج الغلو أياً كانت أسبابه في العودة الصادقة للكتاب والسنة النبوية، فقد وردت الآيات في التحذير من الغلو، وفي السنة النبوية أيضا أحاديث تحث على الاعتدال في العمل والقول، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن تحمل الإنسان مالا يطيق، وأمر بالتيسير ووصف صلى الله عليه وسلم أنه ما عرض عليه أمران إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، وقال بشروا ولا تنفروا، وحث على الرفق في المعاملة والتوجيه والنصح، فالواجب على المسلم أن يتحلى بهذه الصفات ويسلك مسلك التيسير للمسلمين ما لم يكن إثماً. من جانبه يقول د. عبدالله بن علي بصفر أستاذ الثقافة الاسلامية بجامعة الملك عبدالعزيز: الغلو من الظواهر السيئة، والغلو في الدين أو التنطع كما سماه الشارع الحكيم يقابله ما اتصف به هذا الدين العظيم من التيسير ومن السهولة والسماحة كما نص على ذلك أيضاً الشارع الحكيم ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة جمع:«هل القط لي الحصى» فلقطت له حصيات من حصى الخذف، فلما وضعتهن في يده قال:«نعم بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» وهذا الحديث الصحيح يحذرنا من الغلو في الدين، ويبين أنه من أسباب الهلاك، وأن الأمم السابقة إنما أهلكها الغلو. قال تعالى في أهل الكتاب: {يّا أّهًلّ الكٌتّابٌ لا تّغًلٍوا فٌي دٌينٌكٍمً وّلا تّقٍولٍوا عّلّى اللَّهٌ إلاَّ الحّقَّ إنَّمّا المّسٌيحٍ عٌيسّى ابًنٍ مّرًيّمّ رّسٍولٍ اللَّهٌ وّكّلٌمّتٍهٍ أّلًقّاهّا إلّى" مّرًيّمّ وّرٍوحِ مٌَنًهٍ فّآمٌنٍوا بٌاللَّهٌ وّرٍسٍلٌهٌ وّلا تّقٍولٍوا ثّلاثّةِ}.قال الإمام المناوي رحمه الله:«الغلو هو المجاوزة في الحد، والغلو في الدين: التصلب والتشدد فيه». وقال شيخ الاسلام رحمه الله:«نهى الشارع عن الغلو والتشدد نهياً عاماً في الاعتقادات والأعمال». تأمل قول الرسول:«يحمل هذا العلم من كل خلف عُدولُه ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين» وهذا الحدث يبين فيه النبي أنه يحمل هذا العلم من كل خلف «يعني من الذين يأتون بعد النبي» عدوله: المعتدلون الذين يفهمونه بالاعتدال والوسطية، فجاء ديننا عدلاً وسطاً ثم قال:«ينفون عنه تحريف الغالين» فكأن الغلو يقود الى الانحراف، وكأن الغلو تحريف للقرآن الكريم والسنة وتغيير وتبديل، فالعلماء هم الذين ينفون هذا التحريف، ينفون عنه تحريف الغالين الذين يغالون ويبالغون في دين الله عزوجل بما لم يأمرهم الله به، وما لم يكلفهم وما لم يطلب منهم «وانتحال المبطلين» والعياذ بالله عزوجل الذين ينتحلون ويفترون ويكذبون «وتأويل الجاهلين» جاهل لم يتعلم ولم يجلس في مجالس العلماء، ولم يقرأ الكتب، ولم يسهر الليالي ثم بعد ذلك يفسر القرآن على هواه، ويفسر حديث النبي برأيه. وعن أبي هريرة رضي الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا». قال ابن حجر رحمه الله في معنى قوله:«ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه» قال: والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فينغلب بعد ذلك. والتشدد قد يكون دافعه الرغبة في المزيد من الطاعات لذا يجب التدرج في الطاعة فمتى يسر على الداخل في الطاعة أو المريد للدخول فيها سهلت عليه وكانت عاقبته التزايد منها ومتى عسرت عليه أوشك ألا يدخل فيها وإن دخل أوشك ألا يدوم أو لا يستحيلها والتيسير أصل من أصول الاسلام.. ومن يسير على التيسير فإنما يسير على هدى النبي صلى الله عليه وسلم. ويشير د. بصفر الى مسؤولية العلماء، فيقول الواجب علينا كما ذكر الامام النووي التدرج مع الصبيان والصغار وحديثي التوبة وأن يتم التلطف معهم، حتى يتمكنوا في الدين شيئاً فشيئاً، دون تشديد أو مبالغة.. من شأنه أن ينفر الناس من الطاعات أو يدفعهم للانقطاع عنها. منهج وسط من ناحيته يقول فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله العمار وكيل وزارة الشؤون الاسلامية لشؤون المساجد والدعوة والارشاد: ترسيخ الوسطية هو أفضل الوسائل للقضاء على الغلو وأسبابه والوسطية التي لا يفهمها الغلاة لا تعني التساهل أو التفريط في أصول الدين وثوابته وحدوده، لكن تعني التيسير في أداء الطاعات، فمنهج أهل السنة والجماعة منهج وسط بين الأمم والفرق الغالية ووسط بين المتساهلين والمشددين، والوسطية التزام بالدين وليس تفريطا فيه، قال تعالى: {وّكّذّلٌكّ جّعّلًنّاكٍمً أٍمَّةْ وّسّطْا لٌَتّكٍونٍوا شٍهّدّّاءّّ عّلّى النَّاسٌ}. فالله سبحانه وتعالى يدعونا الى الوسطية والتمسك بالكتاب والسنة. فلا غلو ولا جفاء. والحضارة الاسلامية لم تصل الى مستواها الراقي إلا بالتسامح والوسطية والحوار، وقد عاشت الأمم والثقافات داخل الأمة الاسلامية وقبلتها واستفادت منها دون أن يكون هناك تغيير في الثوابت، وأي حضارة من الحضارات لا يمكن أن يكون لها تقدم إلا حينما تقبل الرأي الآخر. ويضيف الشيخ العمار: والاسلام يحذر من الغلو، وتتابعت النصوص القرآنية والتوجيهات النبوية بتحذير أمة الاسلام من الغلو في جوانب الشريعة كافة، فخطورة الغلو في أنه يؤدي الى الشرك أو ذريعة له، كما أنه يؤدي الى العدوان والظلم أو ما يسمى الآن بالارهاب والتطرف. ومردوده مردود التفريط والجفاء، ووجود الغلو سبب عرقلة الدعوة الاسلامية. ومن آثاره الخطيرة استثمار تلك المواقف المتطرفة والأحداث الغالي لتبرير ضرب العمل الاسلامي كله، وتشويه صورته أمام الناس، وتصوير الجماعات الاسلامية بصورة الارهابيين، وحضارتنا الاسلامية العظيمة لم تنشر إلا بالتسامح فالاسلام دين يسر وتسامح.وإذا أردنا أن نواجه الغلو فلابد أن نتعرف على أسبابه، ومنها الجهل بدين الله والاعتماد على مصادر غير اسلامية والزام الناس بما لم يلزمهم الله به، مثل التزام التشديد دائما مع قيام موجبات التيسير، فالمسلم قد يقبل التشديد على نفسه ولكن لا يقبل أن يلزم جمهور الناس به قال تعالى: {يٍحٌلٍَ لّهٍمٍ الطَّيٌَبّاتٌ وّيٍحّرٌَمٍ عّلّيًهٌمٍ الخّبّائٌثّ وّيّضّعٍ عّنًهٍمً إصًرّهٍمً وّالأّغًلالّ پَّتٌي كّانّتً عّلّيًهٌمً}، ومن هذه الأسباب التعصب الأعمى للرأي وعدم الاعتراف بالرأي الآخر، والغرور والكبر، كما أن من أقوى الأسباب التعصب الأعمى للرجال أو المبادئ أو الأحزاب، والاسلام حذر من الغلو وذمه وأمر بالتوسط قال سبحانه وتعالى: {وّأّنَّ هّذّا صٌرّاطٌي مٍسًتّقٌيمْا فّاتَّبٌعٍوهٍ وّلا تّتَّبٌعٍوا السٍَبٍلّ فّتّفّرَّقّ بٌكٍمً عّن سّبٌيلٌهٌ ذّلٌكٍمً وّصَّاكٍم بٌهٌ لّعّلَّكٍمً تّتَّقٍونّ}. ومن أسباب الغلو التشديد في غير محله وعدم مراعاة أولويات الدين فيبدأ بالجزئيات قبل الكليات وبالفروع قبل الأصول، ومنها كذلك الغلظة والخشونة وسوء الظن بالناس.ونجد ان الاسلام قد عالج موضوع الغلو وواجهه، من خلال التركيز على جذور الغلو لتكون معالجة فعالة ولتقطع المشكلة من أساسها فتجف آبارها وتغور منابعها، وأقول إننا لا نسارع الى نسبته الى الدين ونصرفهم بهذا الترهيب عن التدين مع أنه في ذاته عصمة من الزلل وطاعة الله ونزول على حكمه، وقد أغلق الاسلام جميع السبل المؤدية الى التطرف والغلو، وقد سلك طرقاً متعددة واستعمل أساليب متنوعة لذلك، وتطهير حياة المسلمين من آثاره وأخطاره. مخاطر الغلو ويؤكد الشيخ العمار انه لعلاج الغلو لابد من نشر عقيدة السلف الصالح لأنه إذا انتشرت بعدت الأمة عن الغلو، والاعتصام بكتاب الله والسنة الصحيحة عملاً وقولاً واعتقاداً على علم وبصيرة، والتزود بالعلم الشرعي الصحيح الآخذ بمنهج الوسطية والاعتدال في شؤون الحياة كلها لأنها من أبرز خصائص الإسلام، وسلوك منهج السلف الصالح ولزوم جماعة المسلمين، والتربية الايمانية الصحيحة على منهج القرآن والدعوة الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وترك الجرأة في الحديث عن العلم والسماح بالحوار الصادق الهادئ الناشد للحق مع الآخرين، وذم الجدل، والتحاكم في الأفكار والمناهج والأعمال الى الكتاب والسنة الصحيحة، وقيام العلماء والأئمة بواجبهم وبدورهم برفع الجهل عن الناس وأن يكونوا قدوة لهم وترك ما يكون بينهم من خلاف والنزول عند الحق وعدم تهويل الأمور.لقد أمر الاسلام بأفعال متفاوتة المراتب مثل الفرض والسنة، أو الواجب والمستحب ومنها المباح، ونهى عن أشياء متفاوتة المراتب أيضا منها الحرام والمكروه، يضاف الى ذلك عدم الاستبداد بالرأي: التعصب للرأي، وعدم الاعتراف برأي الغير، وانكار ما عنده من الحق ما دام خالفه في الرأي، وقد يبالغ بعضهم في تجاوز حد تسفيه رأي الغير الى رميه بالضلال والزيغ ثم الكفر! وهذا من أبرز معالم الغلو، ومن أسبابه: قلة العلم، والاعجاب بالرأي، واتباع الهوى، ومصادفة الرأي لذهن خال فيعكف صاحبه عليه بشدة دون تبصر، والاسلام لا يقر التعصب للرأي والاستبداد به، وقد دل على ذلك منهج الرسول، وسلوك أصحابه الكرام رضي الله عنهم وأقوال علماء الاسلام الفضلاء. ومن مخاطر الغلو والأسباب المؤدية اليه سوء الظن ولقد استشرى ضرر هذا المرض في عصرنا فصار أداة فتك وتدمير، ووسيلة هدم وتخريب، ولذا كان الاسلام موقفه الحاسم تجاه هذه الآفة المتمثلة في التنفير منها والزجر عنها والتوعد عليها. وعلاج الغلو يكون بطاعة ولي الأمر: فأولو الأمر لهم منزلة عظيمة عند الله. والالتفاف حول العلماء والبعد عن الطعن فيهم: فالعلماء لهم منزلة عظيمة ليست لغيرهم من الناس جعلها الله لهم فقد جعلهم الله سبحانه وتعالى أدلاء للناس على أحكامه، وهذا الاعتبار للعلماء اعتبار شرعي والعلماء هم دائما قادة الأمة وموجهوها، وهم نجاتها إذا حزبهم أمر، وملاذها عند الفزع. مع الوضع في الاعتبار أهمية الحوار في مواجهة دعاوى الغلو فالحوار أحد المبادئ الفطرية التي أوجدها الله سبحانه وتعالى في الانسان والشريعة الاسلامية - من سنن الله - لا تصطدم مع الفطرة أولت للحوار أهمية كبيرة كوسيلة للتعبير عن الرأي وعن ما يدور في مخيلة الفرد، لتحقيق الأهداف والمصالح الاسلامية. ومن تلك الأهداف والمصالح: الدعوة الى الله والوصول الى الحق وبيان الباطل.