كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إذا عَرَض له فكر مضطرب، أو رأي في الدين غير سديد.. يقول: (اللهم إيماناً كإيمان العجائز..). وهو لا يريد بذلك إيماناً غير مستند للقرآن والسنة، وإنما يريد الإيمان التسليمي بنصوص الوحيين.. دون شقشقة أو تأويلات متكلفة.. قد تصيب وقد تخطئ.. وفي ذلك مَزَلاتُ أقدام.ومن طبيعة العجائز المؤمنات أنهن يأخذن بظواهر النصوص الواضحة ويسلمن بمقتضاها تسليماً مطلقاً (عمر) لا يدعو إلى الأمية.. بل إلى (النفس المطمئنة).. *** سررت كما سُرّ غيري بكلمة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ المفتي العام ورئيس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية.. التي وجهها إلى اخوانه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.وقد نشرتها جميع الصحف والمجلات السعودية.. واقتطفت بعض الفضائيات فقرات منها.. ذلك يوم الجمعة 24 جمادى الآخرة 1424ه. والحق أن هذه (الكلمة) كما سمتها وسائل الإعلام، وكان الأوْلى أن يُعبّر عنها ب«البيان» فهو الوصف الأليق بها مع أن الكلمة في اللغة يُراد بها اللفظة الدالة على معنى مفرد، وقد يراد بها جنس الكلام عامة. أقول إنها بيان واضح شامل للموضوع الذي خلق البلبلة النفسية والاضطرابات الفكرية.. ليس في المملكة وحدها، بل في العالم الإسلامي والدولي.. *** ولي ملاحظة خفيفة أوردها قبل الدخول في صلب الموضوع، وهي استمرار كثير من علمائنا وولاة الأمر في القديم والحديث على استعمال عبارة «إلى من يراه» من إخواني المسلمين.. فأقول: أما آن لهذه العبارة أن تختفي.. ويُكتفى عنها بكلمة (إلى اخواني المسلمين) فحسب..؟ حيث أصبح الكلام في هذا الزمان ينقل على ثلاث وسائل: هي «المشاهدة» و«السماع» و«القراءة» فمن لَمْ يَرَ المتكلم فقد يسمعه.. ومن لم يسمعه فقد يقرؤه، والنصيحة توجه دائماً لجميع من يتوقع أن يستفيد منها، على الحالات الثلاث المذكورة.. فحبذا لو تركت عبارة (إلى من يراه) لأنها لم تعد ذات قيمة لغوية أو معنوية في هذا الزمان الذي اختلفت أساليب تعبيره عن الأزمنة الماضية إلى حد كبير. *** هذه الكلمة الحافلة ذات البيان الناصع من سماحة المفتي العام ورئيس هيئة كبار العلماء.. قد وفتْ وأوْفت بما في ذمة هذا العالم الجليل حول بعض أزمات (المسلمين) الحاضرة وليس (الإسلام) فالإسلام لا أزمة له، ولا فيه.. فهو دين الله الكامل لأهل الأرض الى يوم يبعثون..لا شك أن كلمة المفتي العام كانت واسعة التناول للمعضلات التي نعيشها ويعيشها معنا العالم الإسلامي الذي تسلطت عليه في السنوات الأخيرة ظاهرتان متضادتان، وإن لم تكونا جديدتين تجاه الديانات، والملل، والنحل، والمذاهب المحسوبة على هذا الدين، أو ذاك.. في قديم الناس وحديثهم.. وإنما تجدّدتا بفعل الغزو الفكري الأجنبي... المناوئ للدين الاسلامي الذي استطاع أن يستقطب ويحتطب في شباكه عدداً من المثقفين العرب.. الذين مهدوا لبروز الظاهرتين من جديد. وهما: الإيمان (الغالي) و(الالحاد) المستفز للنفوس المؤمنة.. والغلو في الدين.. كان في - الغالب - ردة فعل على الملاحدة.. والعلمانيين.. الذين استفزوا مشاعر المسلمين بمواقفهم من العقيدة والشريعة الإسلامية.. حيث أصبحنا نرى.. ونسمع.. ونقرأ.. طُعوناً في الدين، وتشكيكاً في صلاحيته لحياة العصر.. بل وادعاءً بأنه من معوقات اللحاق بالدول المتقدمة في ميادين الحياة المادية..! *** هذه المواقف المجترأة على الثوابت المقدسة للأمة.. أوجدت - في المقابل - مع دوافع سياسية، واجتماعية، واقتصادية، ما يمكن أن نسميه ثورة (خوارجية) بالغت في ردة أفعالها الى الخروج على الأمة.. بعلمائها وقادتها ومجتمعاتها.. وأصبح الجميع في نظر هؤلاء الغلاة، يعيشون (جاهلية القرن العشرين). *** إن مسؤولية هذا الانحراف الغالي، والجافي، تقع على عوائق العلماء والقادة.. في الدرجة الأولى.. من حيث مسؤولية العلماء في التوجيه والتبليغ.. ومسؤولية الملوك والرؤساء والقادة هي أن يحدُّوا من الحظوظ النفسية فيما يوسع الفجوة.. الى حد التناقض.. بين فئات المجتمع..كما يلزم العلماء والقادة في جميع أقطار الإسلام أن يحدُّوا من غلواء المتمردين على الدين الذين يظهرون (إلحادهم) علانية.. فلا يدعوهم ينشرون سمومهم الفكرية.. ويطعنون خاصرة الأمة في أعز وأغلى ما تملكه في هذه الحياة.. ولأنهم بذلك يخلقون تياراً مضاداً من المتشنجين والغلاة.. *** إن حرية الرأي لا بد أن تكون من أولويات قيم الحياة الكريمة.. لكل إنسان.. إلا أن الحرية هذه ليست مطلقة ولا مهملة لكل من يريد امتطاء صَهْوتها بحق أو بباطل.. بل لا بد من مراعاة الثوابت والقيم الاسلامية.. عند استعمالها.. فلا يصح أن تتاح حرية الطعن في دين الله.. بدعوى حرية المرء فيما يؤمن به ويعتقده..!! وحرية الفرد - في العقيدة والشريعة - محكومة بحق المجتمع للحفاظ على ثوابته وقيمه التي يؤمن ويعتز بها.. وحق المجتمع أقدس من حق الفرد.ومعروف أن لكل فعل رد فعل مقابل.