عادة ما يفضل علماء الاجتماع والفلسفة استخدام مصطلح الاستلاب السياسي، للتدليل على حالة الضعف الفكري العام التي يعيشها البعض، وتفسيره السوسيولوجي يعني (انحلال الرابطة بين الفرد والآخرين)، أما التخلف السياسي، فهو النتاج الطبيعي للتخلف الاجتماعي، أي جزء لا يتجزأ منه وليس العكس هو الصحيح. ويرجىء العلماء ذلك إلى أسباب عديدة، من أهمها تهميش النخب داخل مجتمعاتها، ففي مطلع القرن العشرين وتحديدا عام 19891919م بدأت حركة نشطة من النخب العربية سميت بجيل الاستنارة العربية، كانت تحمل معها الكثير من الأحلام والآمال الكبيرة لشعوبنا، لكن اليوم نرى صورا قاتمة، ومخيبة للآمال الكبيرة، التي كانت تحلم بها تلك الشعوب. وتحمل النخب المستنيرة في عالمنا العربي اليوم من كانوا يتحدثون عن الثقافة القومية ويرفعون شعاراتها في السابق، مسؤولية تحويل ثقافة العرب المعاصرة إلى ثقافة ميليشيات وانقسامات متناحرة، وتشهد على ذلك الكثير من الاقطار العربية، وأنهم ساعدوا على انتشار نوع من الشعارات الأيديولوجية التي تؤجج العواطف وتميت المضامين لأنها شعارات خاوية من الإيجابيات وخالية من الأساسيات، كما يحملون العرب والمسلمين معا مسؤولية حشر أنفسهم داخل قوالب ذهنية وتقييدات أيديولوجية وأفكار سياسية تربوا عليها في القرن الماضي، في أحضان التجزئة والتشرذمات العربية وتلك الأمور مجتمعة أضرت بهم كثيرا، واستلبت منهم الوعي بالآخر، وأثرت سلباً على فكرهم، وإدراكهم لقضاياهم المصيرية، فلم يؤسسوا ثوابت فكرية وفلسفية تربط بينهم من اجل مواجهة متغيرات العصر الجديد وتحديات المستقبل، ولذلك دخل العرب القرن الواحد والعشرين بسياسة هزيلة وبثقافة انقسامية مفككة غير موحدة مليئة بالتناقضات والسلبيات والازدواجيات. كما تتهم شعوبنا، النخب في أمتنا، بالتقصير في أداء واجبها، والتقصير في وضع الحلول والعمل على إخراج هذه الأمة من أزماتها بنحو أو بآخر.. لكن هل النخب لديها السلطة والإمكانيات الكاملة التي تخولها بالقيام بدورها على أكمل وجه؟ أليست هي الأخرى مقيدة بشكل أو بآخر ومشلولة الفاعلية؟ لقد عاش العرب سياسياً وثقافيا في نهاية القرن الماضي الميلادي ضحايا لتلفيقات الرأي العام التي كانت تساير حجم التنازلات الباهظة التي قدمها البعض في حق قضايا مصيرية للأمة، فقتل العرب بشكل أو بآخر زمنهم وفاعليتهم وفكرهم ومنجزاتهم النهضوية، فتراجعت قوتهم وخمد صوتهم وخاصة في صناعة القرار داخل الهيئات والمؤسسات الهامة والحيوية في العالم، بينما الصهاينة علا صوتهم واشتدت فاعليتهم داخل تلك المؤسسات.. وغرقت الساحة السياسية العربية في مجموعة مريعة من التناقضات الصارخة والداكنة نتيجة خلط عشوائي بين مفاهيم ومصطلحات قديمة وبين مفاهيم ومصطلحات حديثة دون أن تجد مخرجاً لذلك النخب المثقفة من خلال اطروحاتها الفكرية أو أدوارها المدنية مثل مفاهيم (السلطة، الدولة، الحرية، الشورى، الديمقراطية، الدستور، الوطن، الأمة.. إلى آخره من المفاهيم التي لا بد أن نزيل عنها التناقضات الصارخة) وتنظر الكثير من النخب السياسية المستنيرة الآن لبعض الثورات التي قد حدثت في المنطقة العربية على أنها تفجرت سياسيا بينما انهارت اجتماعيا، نتيجة عنف ثوري لم يستند على أساس سياسي بناء وهم لم يجدوا في تلك الانقلابات العسكرية العربية إلا تجارب فاشلة أخرى في الحياة السياسية الاجتماعية العربية، نفذها ضباط خانوا ما اؤتمنوا عليه، وكانت لديهم ثقافة سياسية هزيلة المحتوى، وكانت لهم تجارب اجتماعية رديئة التطبيق، كانوا متحمسين ألهبوا عواطف جماهيرهم بدغدغتها بشعارات سياسية مبهرة استعملوها شعارات فقط، ولم يطبقوها، وما زالت ليومنا هذا في الساحة العربية الكثير من الشعارات الاستهلاكية والفضفاضة.. فهل نملك الشجاعة الأدبية الكافية اليوم لنعترف ونقول دون مواربة، بأننا لم نر حالياً فكراً سياسياً عربياً حديثاً يوازي ما لدينا من عقيدة وتاريخ وفكر، كما كنا منذ عصور خلت، ولا يوازي في نهجه حجم التحديات التي تواجهنا ولا يوازي الفكر السياسي الغربي. وإننا في وضع متأزم سياسيا بالفعل، وفي أمس الحاجة لمخرج، لحل المشاكل التاريخية المعاصرة حتى لا تبقى تواجه أمتنا على امتداد الزمن القادم وتستنفد طاقاتها وثرواتها، ولا بد من إعطاء النخب الحق في ممارسة دورها داخل مجتمعاتها، فلقدعاشت تلك النخب عقودا من الزمن تحمل هموم الأمة وهموم تلك المجتمعات، بمشكلاتها المركبة وبتوهماتها وبتناقضاتها وبازدواجيتها وبنرجسية البعض، وبدكتاتورية البعض الآخر، فما زلنا نعاني في أمتنا من لغة المطلقات والأحكام العامة وغياب النقد البناء من جهة، وغياب لغة الحوار من جهة أخرى، إننا بالفعل لا نخطط لشيء..، ونتجاهل أخطار العولمة من جهة وعدم التهيئة والاستعداد لها من جهة أخرى، بالرغم من أنها تنفذ من كل باب، إعلام كان أم ثقافة أم اقتصاد.. وندرك أن هناك غياباً كبيراً للدور المنتظر من المؤسسات الحيوية داخل مجتمعاتنا العربية للمحافظة على المصالح التاريخية والمنجزات النهضوية للأمة، لتحقيق واقع جديد يستطيع مواجهة المستقبل والصمود امام التهديدات والتحديات التي تواجهنا، والذي يتطلب تغيير بعض القناعات، مع الحفاظ على الثوابت لدينا لخلق بدائل أساسية في المجتمع من أهمها الارتقاء بالوعي الفردي والجماعي، لتحقيق واقع جديد يستطيع أن يخرجنا من ازماتنا فتجاهل دور النخب وتجميد فاعليتها داخل المجتمع من جهة وتراكم المشكلات واستمراريتها من جهة أخرى ينبئ بحدوث كارثة.. من شأنها تفتيت البنى الفكرية للنخب المثقفة نفسها. وبالرغم من معاصرتنا لأحداث متتالية ورهيبة حدثت في عالمنا العربي والإسلامي لم توحد أمتنا صفوفها وكلمتها بعد ولم نجد أي بشائر تنذر بموقف سياسي موحد قريبا في مواجهة مشكلات وقضايا على درجة قصوى من الأهمية والخطورة. فماذا نسمي الوضع الذي تعيشه أمتنا اليوم؟ استلاب سياسي أم تخلف سياسي؟