من البديهي، والبشرية تودع زمناً من عمرها المديد وتدخل الى ألفية جديدة، أن تقوم بجردة حساب لمكاسبها وخسائرها عبر هذه الفترة التي شهدت فيها من تجارب الظلام والبؤس والدمار ربما مقدار ما شهدت من تجارب النور والبهجة والازدهار، التي كونت معاً تلك الحصيلة المدهشة للنوع البشري من خلال قدرته على تجاوز حماقاته وساديته وكراهيته ورغبته في التدمير الذاتي، الى البحث المضني عن كل ما يفضي إلى الحوار والتعاون والتسامح والإبداع والتعبير عن إرادة العيش المشترك على كوكب واحد. علينا الإقرار بأن المعجزة المنتظرة بأن يكون عالمنا ذلك الفردوس الموعود لم تتحقق بعد وربما سيطول انتظارنا لها، لكن يمكننا القول وفقاً للمعايير العملية والموضوعية إن البشرية وضعت قدمها فعلاً على المسار الذي لابد أن يحملها الى المصاف الذي تنتصر فيه أحلامها وإرادتها وضميرها الأخلاقي ويتبدد فيه عجزها ومخاوفها ونزعات الشر المترسبة من أزمنة الكهوف والخرافة. ولعل السؤال أين نحن العرب من كل هذه الانجازات الانسانية الكبرى التي تحققت والسبل التي فتحتها لصنع المستقبل - ونحن ندخل مع اقراننا من بني البشر ألفية جديدة وقرناً جديداً - يستدعي منا وقفة تأمل وجردة حساب موضوعية أيضاً لانجازاتنا واخفاقاتنا بعيداً عن التصور الاسطوري للذات وأوهام العزة والأمجاد الزائفة التي طبل لها البعض زمناً طويلاً. هذا اذا أردنا فعلاً أن يكون لاحتفالنا بقدوم الألفية الثالثة معنى وقيمة ضمن الاسهامات البشرية لا مجرد مجاراة عمياء لأولئك الذين يحتفلون اليوم - عن جدارة بزمن يرون أنهم صانعوه ومبدعو قيمه وحضارته؟ كان القرن الأخير من عصر البشرية متميزاً حقاً، في إنجازاته في حقول العلوم والثقافة والفكر والاقتصاد والسياسة، ما يجعلنا نتساءل عن نصيب العرب في كل ذلك وعن حجم التحديث الذي أصاب مجتمعاتنا العربية وإن كان ذلك عكس فعلاً الدور المتوقع أن يلعبه العرب كأمة تحتل هذا الحيز التاريخي والجغرافي الواسع على خريطة العالم وباعتبارهم أيضاً، شأنهم شأن الشعوب الفاعلة الأخرى، شركاء في بناء الحضارة الإنسانية. الأهم من ذلك كله هل ان هذا الدور يلبي تطلعاتهم وحاجاتهم المستقبلية في عالم تضيق فيه الخيارات والفرص وتتسع الهوة بين مراكز النظام العالمي المسيطرة على المنجزات والمهيمنة على معايير تصريفها على الأطراف المستهلكة والتابعة وفق اشتراطاتها وطريقة إدارتها لهذا النظام؟ إن ما يجيب عن هذا السؤال هو تقويم المسيرة التي قطعها العرب كأمة وكمجتمعات خلال القرن المنصرم، وإذا ما كانت محصلتها التاريخية على قدر يوازي في الأهمية الإنجاز العالمي، أي بمعنى آخر إذا كانت تمخضت عن مشروع حداثتها ونموذجها في التقدم والبناء الخاصين بها. اذا أردنا اختيار أي نموذج مقارب فإن المقياس الحقيقي للتقدم هو بلا شك مؤشرات التنمية البشرية التي تحدد قدرة أي مجتمع على قهر التخلف والنهوض بالواقع المعاش لأفراده نحو الرخاء المادي والروحي من خلال نمو اقتصادي مستديم وتطوير مستمر لأوضاعه الاجتماعية والصحية والتعليمية من دون قلق وخوف مما قد يصيبه من جراء تعثر عملية التغير الدائمة هذه أو ارتدادها. فهل كانت مؤشرات التنمية العربية بمستوى الآمال المرجوة وحتى الطاقات والموارد المتوافرة؟ يمكن لأي تقرير اقتصادي أن يوضح بالأرقام كيف أن انجازات المجتمعات العربية على هذه المستويات كانت متواضعة، بل شديدة التواضع، قياساً بمجتمعات أقل خبرة تاريخية منها وأقل حظاً في مواردها المادية والبشرية. ولو تطلعنا من المحيط الى الخليج، وبخاصة خارج مراكز الوسط التجاري والحكومي للعواصم العربية، لبانت لنا مشاهد شديدة القتامة عن التطور العمراني والحضاري للمدن والأرياف العربية تعكس، حتى في دول النفط الغنية، بانوراما حقيقية عن حجم التخلف الذي يعيش فيه ملايين من الناس، ويتجلى في بؤس الواقع المعاش وانحطاط الخدمات الصحية وتدهور العملية التعليمية وتردي الرعاية الاجتماعية. كل هذا في ظل ارتفاع وتيرة معدلات النمو السكاني وتقلص الموارد والتحديات المتصاعدة التي تواجهها عملية التنمية. أن الحكم الموضوعي على نتائج قرن من مسيرة التحولات الاقتصادية والاجتماعية في عالمنا العربي يمكن أن يتجلى من جهة في هذه الفجوة الهائلة بين طموحات الناس المشروعة وبين النتائج الضئيلة لما حققته الأنظمة، ومن جهة أخرى في تلك الهوة العميقة التي تتسع بيننا وبين العالم من حولنا. ينبغي عدم التفاخر ببعض النجاحات العابرة وإعلاء شأن بعض النماذج الفردية، بل ينبغي دوماً النظر الى التجربة الكلية، سواء داخل كل بلد عربي أو على المستوى القومي، في نواحيها السياسية والاقتصادية والثقافية بل الاخلاقية التي بإمكانها وحدها أن توفر معايير النجاح. إن ما هو متوفر من شواهد يدل على أزمات وإشكاليات متعددة تعاني منها التجارب التنموية العربية بمختلف توجهاتها الفكرية، وتحديات تفضح هشاشتها في عالم قاس يسوده التنافس والتزاحم من أجل الكسب والحصول على مواقع الهيمنة والنفوذ. إن التنمية المشوهة التي خاض غمارها معظم المجتمعات العربية لم تؤتِ كل ثمارها المرّة بعد. وكما هو واضح من إرهاصات التجارب التي نراها أمامنا فإن المستقبل محفوف بمخاطر قد تتعدى حال التنافر الاجتماعي التي تخلقها الاختلالات الهيكلية الاقتصادية الى الرفض وربما الى الثورة ليس فقط من جانب جحافل العاطلين والمهمشين والمقهورين الذين تلفظ بهم أحزمة الفقر المحيطة بمدن التناقضات والمعجزات الوهمية بل أيضاً من جانب الذين بدأوا يلتحقون بهم من ابناء الطبقة الوسطى التي يجري تدميرها لمصلحة التحالف المتنامي لأثرياء العولمة ونخب التبعية وبيروقراطييها. وإذا ما كانت النتائج المتواضعة للبرامج الاقتصادية والاجتماعية هي تكريس للفشل فقد كانت النتائج التي ترتبت على البرامج السياسية والثقافية للأنظمة والنخب المتحالفة معها هي الكارثة بعينها. ولعل الدليل على ذلك يكمن في المقارنة بين حجم أحلامنا وآمالنا التي مثلتها المحاولات النهضوية الأولى التي بدأت نهاية القرن الماضي مستهدفة الوحدة القومية والعربية والخروج من حالة البؤس والتخلف وإزالة الأوهام وبين ما نحن عليه من واقع ربما سيكون من باب التواضع القول فيه إنه لم يتجاوز في محاولات نهوضه نقطة انطلاقه إلا بقليل. لقد جادلت مشاريع النهضة، رغم تواضع قواعدها الفكرية وضعف الأطر الاجتماعية التي التفت حولها، منذ وقت مبكر على أن صيانة أسباب البقاء في مواجهة مختلف قرون التخلف والتحديات التي طرحتها مسيرة الاندماج العالمي تقتضي أولاً نفض الغبار عن التراث العربي والإسلامي الذي راكمته الفترة الظلامية والعودة به إلى جوهره السامي ومن ثم الانطلاق باستراتيجية نهوض المجتمعات العربية واستعادة عزتها القومية من خلال رفض ومقاومة السيطرة الأجنبية الاستعمارية وأخذاًَ بالحريات السياسية والعدالة والديموقراطية ومحاربة التسلط والاستبداد والدعوة الى التنمية والتقدم من خلال نشر التعليم والمفاهيم العلمية والتقنية وتحرير المرأة وغير ذلك من أسباب التطور والتحديث. لكن مقابل كل هذه التطلعات المطرحة فإن حصاد القرن بكامله لا يكشف إلا إخفاقاً مريعاً في مشاريع النهضة تلك بل وأحياناً ارتداد سافر عن أفكارها وغاياتها. فبدل الإحياء الإسلامي الذي بدأ مشروعاً للانبعاث الحضاري الاسلامي ومحاولة للتوافق بين جوهر الدين ومتطلبات العصر وتحدياته حصل تحول دراماتيكي ظهرت فيه عند منعطف نهاية القرن تيارات كانت بأفكارها وممارساتها تمثل قطيعة نهائية ليس مع مفهوم النهضة وغاياتها بل أحياناً مع غايات الإسلام نفسه. ولم يكن نصيب مشروع البعث القومي أقل حظاً على مستويات الوحدة والتحرر السياسي والاقتصادي والثقافي حيث لم تتوقف الاشكالية على عجز المشروع القومي عن إنجاز أي منهما كشرط أساسي لاستعادة الهوية الحضارية ومواجهة تحديات الهوية والاستلاب بل إنكفاء المشروع ذاته والأسوأ ارتداده في حالة التمزق التي تعيشها الأمة والخصومات التي ترتع بها وانهزامها أمام المشاريع المضادة وعلى رأسها المشروع الصهيوني وكذلك عجزها للوقوف أمام محاولات فرض نماذج التبعية والهيمنة الأمر الذي جعل العرب اليوم يقفون مهمشين على المسرح الدولي ومكشوفين أمام تحديات العولمة ومخاطرها واحتمالاتها. وفي هذا الإطار أيضاً يسجل التخبط والعجز في ميدان البناء السياسي الداخلي وخصوصاً الإخفاق في عملية التحول الديموقراطي الحقيقية التي هي أساس أي مشروع تحديثي أثبتت التجربة التاريخية الإنسانية عدم إمكان تحقيقه من دون توفير شروطه في احترام حق المواطنة والإرادة الجماعية وفي المشاركة الشعبية الفاعلة وتأصيل لتعبيراته في تحقيق الحرية والعدالة والمساواة والشفافية وفقاً لثقافة وآليات تجعل من الديموقراطية ممارسة حياتية في البيت والمجتمع مثلما هي في السلطة. إن صورة العالم العربي وهو يدخل عصراً جديداً تختفي منها تلك الملامح الواعدة وتحل محلها أشكال هلامية أو أحزاب شمولية أو وعود سرابية، كل ذلك مؤطراً بخطاب شديد الغرور والسذاجة عن مهمات رسولية تضطلع بها السلط والنخب المهيمنة. حقاً إنه ليس هناك مشروع قومي للنهوض حقق كل أهدافه في أي بقعة في العالم أو تخطى كل تحدياته لكن الواقع الذي نعيشه لا يشير الى ما جناه العرب من مشاريعهم خلال القرن العشرين سوى عن محصلة تافهة سياسياً واقتصادياً وثقافياً مما يطرح سؤالاً أساسياً عما إذا كان هناك فعلاً مشروع نهضوي جاد وأصيل استهدف القطيعة مع عصور التخلف والتصدي للتبعية ووضع لبنّة واقع جديد يواجه معضلات وأزمات القرن القادم أم أن الأمر يتطلب تأسيس مشروع جديد للنهضة يتعامل مع تحديات المستقبل بجدية بعيداً عن إحباطات الماضي وبؤسه. * كاتب عراقي.