في كتابه "ثقافة في الأسر، نحو تفكيك المقولات النهضوية العربية" الصادر أخيراً عن "دار الفكر" في دمشق، يسعى الدكتور محمد عادل شريح الى الوقوف على أزمة الثقافة العربية المعاصرة من جهة، وتفكيك مقولاتها النهضوية من جهة ثانية، ومن دون أن يلتزم بإتباع تسلسل زمني للمدارس والتيارات الفكرية المتعددة التي برزت في الساحة الثقافية العربية الحديثة، من جهة ثالثة. وعلى رغم أن مفهوم الثقافة يعد مفهوماً شاملاً ولا يقتصر على النصوص المخطوطة أو المطبوعة، وضع المؤلف في بداية كتابه إطاراً محدداً لنوعية الثقافة التي سيحللها، مؤكداً:"حين نتحدث عن الثقافة العربية المعاصرة، نحيل بالضرورة إلى واقع ثقافي وتاريخي له سماته ومميزاته الخاصة في القرنين الأخيرين. أما عندما نتحدث عن الثقافة الإسلامية، فإننا نحيل بدورنا إلى هوية هذه الثقافة وآليات تشكلها التاريخي والمعرفي على وجه الخصوص". ولأجل التفرقة ما بين الثقافتين، يسوق المؤلف مجموعة من الحقائق الأولية لبيان طبيعة الأسباب التي دفعته للحديث عن الثقافة العربية الحديثة وليس الثقافة الإسلامية المعاصرة. ويحدد المؤلف المقصود بالثقافة العربية الحديثة بأنها:"الثقافة التي نشأت بعد احتكاك العالم الإسلامي بالغرب وتأثرت به أشد التأثر، إلى حد اختلاط المنظورات الثقافية والأصول المعرفية". كما يؤكد أن هذه الحال من الاختلاط لا تقتصر على الثقافة العربية - الإسلامية، وإنما هي بمثابة ظاهرة كونية في مختلف الثقافات المعاصرة للشعوب المتباينة. والسبب في ذلك يعود إلى طبيعة الحضارة الغربية ذاتها وبنيتها الفكرية الأحادية المنظور المركزية الأوربية، حيث لا تكتفي الحضارة الغربية بهذه الرؤية كمنظور تأويلي، وإنما تعمل على تغيير العالم بما يتناسب مع، ويعزز من، رؤيتها هذه ضمن استراتيجية تحولات فكرية واجتماعية وسياسية كونية شاملة. وبحسب المؤلف، تعود نشأة الثقافة العربية المعاصرة إلى القرن التاسع عشر، تحديداً مع بدء الحملة الفرنسية على مصر والتي أسست"ثقافة عصر النهضة العربية". يدور الحديث هنا عن الثقافة العربية وليس الإسلامية لأسباب عدة من بينها: أن الثقافة العربية في جوهرها وحقيقتها ثقافة إسلامية، فضلاً عن أن المقصود بها، وبالدرجة الأولى، هذا الامتداد اللغوي والجغرافي الذي يحدد مساحة البحث، بالإضافة إلى صعوبة رصد الحراك الثقافي في الدائرة الإسلامية لزخمه واتساعه. كما أن من الصعوبة بمكان إنكار التداخل الكائن ما بين الثقافتين، والذي ساهم في تعزيزه بعض الرموز المهمة كجمال الدين الأفغاني، وأبي الأعلى المودودي الباكستاني، ومصطفى صبري التركي، وغيرهم. ينحو المؤلف في الفصل الأول من كتابه إلى سرد مجموعة من التعريفات المتداولة لمفهوم الثقافة باعتبار ذلك ضرورة تفرضها الأسس العلمية ما دامت اللفظة واردة في ثنايا عنوان الكتاب!!. وفي الواقع كان عليه أن يكتفي بإحالة القارئ الى مؤلفات أخرى بدلاً من الاستغراق اللامجدي في سرد هذا الكم الهائل من التعريفات الغربية لمفهوم الثقافة، والتي لا تنطبق بدورها ولا يمكن إسقاطها على الثقافة العربية. خصوصاً أن معنى المفهوم في الحضارة الغربية يختلف اختلافاً جذرياً عنه في الحضارة العربية - الإسلامية. بل إنه ارتكب خطأً تاريخيا مماثلاً بتقريره أن مفهوم الثقافة إنما دخل إلى حيز التداول في اللغة العربية خلال القرن العشرين بتأثير بيّن للغات الأوربية والفكر الغربي عامة!! على رغم تأكيده لاحقاً وجود مصدر اشتقاق للمفهوم في اللغة العربية، ما اضطره إلى العودة الى هذا الاشتقاق بعد أن شعر بعدم تطابق المفهوم، وفق إحالاته الغربية، أو إمكان إسقاطة على الثقافة العربية. وفي كل الأحوال، يخلص المؤلف إلى تعريف الثقافة في سياقها العربي بأنها تعني:"النشاط الواعي والمتقن الهادف إلى المعالجة والتقويم، أي التثقيف... وأنها فعل يمثل مبدأ الحركة في إطار المنظومة الأشمل والأكبر، الوحدة الحضارية المعينة، والتي تبدو أكثر ثباتاً ورسوخاً في التاريخ". وبحسبه، تشتمل كل الحضارات الإنسانية على مستويات/ مكونات أربعة، وهي: ما يفيد المعنى الوجودي وغايته - ما ينبثق عن هذا المعنى من منظومات قيم حقوقية، وأخلاقية، وجمالية، واجتماعية، وسياسية - ما ينبثق من منظومات القيم هذه من مؤسسات فكرية علوم ومعارف، واجتماعية كالأسرة والقبيلة، وسياسية كأنماط الحكم المختلفة، وأخلاقية كمحددات للسلوك الإنساني، وجمالية كالتعبيرات الفنية المختلفة - وأخيراً هناك مستوى اللحظة الآنية، مستوى الفعل والبناء، والذي تندرج ضمنه"الثقافة"بطبيعة الحال. يتابع المؤلف بعد ذلك تحليله لما أسماه التنظير"الثقافوي"في الفكر العربي المعاصر، وبصفة خاصة عند كل من مالك بن نبي ومحمود شاكر. لينتقل بعد ذلك لبحث إشكالية"المثقف"معولاً في ذلك على أعمال محمد أركون الجزائري، وإدوارد سعيد الفلسطيني، وداريوس شايغان الإيراني. ويخلص بعد استعراضه هذا إلى القول بأن المثقفين العرب طوروا رؤيتهم للمثقف ودوره استناداً إلى التراث الفكري الغربي، بدءاً من عصر النهضة/ التنوير حتى عصر العولمة الحالي. وإنه فيما يتكئُ أركون على كل من سارتر وماكس فيبر مؤكداً أن المثقف هو نتاج حداثي وليس ممكناً أن يولد إلا في بيئة حداثية، لا يرى تركي الحمد المثقف إلا في سياق حتميات معرفية واجتماعية ووظيفية تمليها حركة العولمة وتوجهاتها. أما داريوس شايغان، فيشمل تحليله للمثقف شخصيات ذات مرجعية ثنائية، غربية وإسلامية، كالأفغاني، والكواكبي، ومحمد عبده، ومحمد إقبال وغيرهم. وعلى رغم أنه يتبنى التقسيم ذاته الذي يقيمه أركون ما بين الثورة والنهضة، إلا أنه يتحدث عما أسماه"المثقف المسلم"عبر محاور خمسة هي: تقويم أيديولوجية الثورة والنهضة - طاقة المثقف وموقعه الاجتماعي - المبدع والمثقف - المضمون الفعلي/ الجوهري للمثقف - الصورة العامة للمثقف في مخيال الجمهور. وبالنسبة الى العنصر الأول، يذهب شايغان إلى القول بأن الثقافة الإسلامية في إيديولوجية النهضة قد تمحورت حول مقولة مضللة وتشخيص خاطئ للواقع مفادها أن الإسلام صحيح لكن العيب في المسلمين!!. مؤكداً أن هذا التصور غير مدرك أن الإسلام، الصحيح وغير الصحيح على حد سواء، لم يعد يصلح أساساً للنهضة والبناء الاجتماعي وأنه صار متأخراً لدرجة بات يصعب معها أن يصلح لبناء الدولة والمجتمع في آن!!. وفي الواقع، تطرح هذه الرؤى مجموعة من المسلمات القابلة للجدال انطلاقاً من قناعتها الخاصة والمطلقة بحتمية الحداثة الغربية، بافتراض أن التاريخ يمضي باتجاه نقطة واحدة هي النموذج الغربي الحداثي ومن ورائه نهاية التاريخ!! ومن بين هذه المسلمات: القول بأن الإسلام ليس إلا أيديولوجية ماضية انتهى أجلها ومضت مدة صلاحيتها، والقول بأن المثقف المسلم، ولكي يصبح مثقفاً، عليه ألا ينتمي فكرياً إلى ثقافته الإسلامية وإنما يتعين عليه أن ينتمي إلى الثقافة الغربية الحداثية، والقول بأن المثقف العضوي، هذا الذي تغنى به طويلاً غرامشي، ليس مثقفاً بالمعنى الحقيقي، وإنما هو ممثل لنخبة انقرضت هي الأخرى تاريخياً. يُضمِّنْ المؤلف كل المدارس والتيارات الفكرية العربية في ثلاثة فقط رئيسية وهي: الفكر النهضوي، والفكر التأصيلي، والفكر السلفي. ويؤكد، في السياق ذاته، أن التيار النهضوي يمثل تياراً أساسياً في الثقافة العربية الحديثة على رغم أنه بقي تياراً انعزالياً، أو نخبوياً، محصوراً في دوائر المثقفين الذين لم يستطيعوا أن يحولوه بدورهم إلى ثقافة اجتماعية كاسحة. وظل الفكر النهضوي يعبر طوال قرنين من الزمان عن ثقافة انقطاعية ويضم في جعبته كل التيارات التقدمية التي نشأت تاريخياً بعد صدمة الحداثة. وبحسب المؤلف، يتمتع هذا التيار بمجموعة من الخصائص أو السمات العامة يأتي على رأسها: الاستلاب الحضاري - تغييب الهوية ? التحريفية - ولادة مشاريع بديلة - وأخيراً، ما يطلق عليه المؤلف"تسرطن الثقافة النهضوية"!!. ثم يعرض بعد ذلك بعض النماذج التاريخية للفكر النهضوي التقدمي، كالمدرسة الإصلاحية والفكر القومي العربي. مؤكداً أن المدرسة الإصلاحية كانت بمثابة التجليات الأولى للفكر النهضوي، كما عبرت في الوقت نفسه عن ازدواجية في ما يتعلق بكل من المرجعية والتصنيف. ومن أهم رواد الإصلاحية الدينية جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وكلاهما، كما يؤكد المؤلف، كانا مرتبطين بالماسونية!!، كما كان محمد عبده يستخف بالأديان، فيما وافق الأفغانيُ إرنستَ رينان على أغلب رأيه في الإسلام... إلخ!!. وفي معرض حديثه عن البنية الفكرية للمدرسة الإصلاحية، عبر تحليل ثلاثة مفاهيم مركزية تطورت من خلالهما الرؤية الإصلاحية وهي:"المصلحة"و"السنن"و"العقل"، يؤكد المؤلف أن المدرسة الإصلاحية انطلقت من قناعة أولية مفادها الإيمان بتفوق الأنموذج الحضاري الغربي وأفضليته، بل وحتميته أيضاً. ودفعت هذه القناعة التقدمية بحتمية النموذج الحداثي الغربي رواد هذه المدرسة للبحث عن وسائل النجاة من الطوفان فانتهت بإلباس الحداثة ثوباً إسلامياً!!. انتقل المؤلف بعد ذلك الى بحث تيار الفكر السلفي وموقعه في الثقافة العربية المعاصرة، مؤكداً أن هذا الفكر لا يمتُّ إلى الثقافة التقدمية بصلة، وإنما يقف على طرف نقيض من الزمن التقدمي. كما أنه لا يمثل، في الوقت نفسه، الثقافة العربية وإن ظل ينتمي إلى بعض مكوناتها. فقد عمل الفكر السلفي على إنهاء الحال الفكرية التعددية المميزة للنظام المعرفي الإسلامي، والتي جعلت منه نظاماً حياً متعدد الأوجه والمجالات. حيث ألغت الرؤية السلفية إمكان التعدد في الرؤى والمواقف ومن ثم، نمت في إطارها أدبيات المذاهب والفرق، وتحول مبدأ الولاء والبراء إلى ناظم لعلاقة المسلمين بعضهم ببعض ليُحارَب من خلاله ما يسمى بالفرق الضالة...إلخ. ويدعو المؤلف في نهاية كتابه إلى الخروج من أزمة الثقافة العربية المعاصرة، الأمر الذي يتطلب القيام بمجموعة من التحولات المفصلية من بينها: ربط مفهوم النهضة بمفهوم الحداثة، وحل إشكالية المثقف وانقسام النخبة بالعودة إلى أنموذج المثقف المسلم، وتحرير الثقافة العربية من أسر القول بالحتمية التقدمية الناتجة من غياب الرؤية التاريخية. * كاتب مصري