* عبدالرحمن بن عثمان آل ملا * 204 صفحات من القطع المتوسط كل شاعر يستمد أخيلته وصوره من البيئة التي عاش فيها.. وأحيانا من القرية التي ترعرع فيها.. وأحيانا ثالثة من فضاءات خيمته.. من الصحراء.. ومضارب البدو.. والحدو الذي يرافق إبله أو قطيع أغنامه.. إلا أن أغاريد الحب تبقى القاسم المشترك بين هؤلاء.. حب الصبا. والجمال.. حب الوفاق والرفاق.. حب الطبيعة.. والطبع.. من هؤلاء تغنى شاعرنا آل ملا بخليجه.. كيف لا وهو الكريم لأهله بذهبه الأسود.. وبلؤلؤه الأبيض.. وبمخزونه الذي يشبع الأفواه بهاموره.. وكنعده.. انه حري حري بالأهازيج.. أليس هو الخليج الذي يعطي في صمت.. وينتظر في صمت أول ما يفاتحه بهمسة.. ربما تتدرج إلى كلمة مسموعة.. فصرخه.. هذا ما سوف نستبينه معا من خلال متابعتنا لديوانه: «مهما قسى الطغيان.والأرزاء لا ينحني.. ويساوم الشعراء فهمُ من الشعب الأصيل ضميره بوهيجهم درب الخلاص يضاء» لم تكن همسة كما عنونَ لها شاعرنا.. بل صرخة مدوية لا تجوز الهمسة ان تكون عنوانا لها.. هذا من جانب. ومن جانب آخر إيراد كلمة «فَهمُ» على هذا النحو غير موفقه.. الصحة «فهموا» لانتقاء اللبس بين هذه الكلمة وكلمة «فَهْمْ» اما «الوهج» فإنني اقف منها موقف المتردد.. ما افهمه هو «الموهج» حبذا لو اختار بديلا يتفق وسياق الشطر والوزن مثلا بوعائهم، أو بعطائهم أو بكفاحهم أو بنضالهم.. حبذا.. هذا عن همسته المجلجة.. ماذا عن تأمله ومناجاته؟! يبدو انها ابتهالات ضارعة مليئة بالأمل والرجاء والتساؤلات: «أي سر هذا، ومازال لله دليل يمور في كائناته؟! فانظر الليل قد تألق فيه كلُّ نجم. وأُغطشت حلكاته وانظر البحر في حشاه الرزايا كامنات. والدر في صدفاته» إنه يخاطب العقل الإنساني كي يتعرف على عظمة قدرة الخالق من خلال مخلوقاته الروض الذي ينبت الأمل الباسم.. اما الطير الجريح الذي استشهد به مطربا للناس ناسيا حسراته.. فلا ادري كيف قرأ خطاب الطير وهو يتلوَّى ألماً على انه شدو بينما هو في حقيقة الأمر شجو ممزوج بالشكوى والوجع.. لعله استفاق من مرقد احلامه المزعجة واصطفى رحلته في الفجر استشراقاً لضوء نهار جميل لا تنال منه عتمة: «عظم الخطب. واستطار البلاء واستبدت بالعالم الفوضاء يرفل الاقوياء في رغد العيش ويقتات بالمأسي الضعفاء» مقطع جميل.. لمقاطع أخرى لا تقل جمالا: «رُبَّ حسنا، لم تجاوز ثمانا غمر البشر نفسها، والهناء طمرتها تحت الرغام، ولم تحفل بآلام قلبها الآباء.. رُبَّ قوم ناموا على الأنس لما أصبحوا أصبحت بهم دهياء» * أصبحت في شطره الأخير صحيحة.. الا ان الأكثر صحة ان يقول «صبحت» أما الدهياء فمن الدهاء.. والصحة الدهماء .. هكذا اتصور.. هذه الصور الجمالية الشاعرية قادتنا إلى سؤال.. «أين هو الفجر الموعود في عنوانه»؟! «واذا الفجر مشرقا يتهادى من حراء.. ولا تسل ما حراء مهبط الوحي لم يزل في ذراه نبأ تزدهي به الأنباء» إن فجر العقيدة.. فجر الصحوة التي بشرنا بها الشاعر.. واراح مشاعرنا من حيرة السؤال.. وشاعرنا انسان.. انه واحد من حزمة بشرية كبيرة تتقاطع.. وتتداخل في احلامها وآمالها. وآلامها: «كلفت، وما يوما بغيرك أكلف وقد اشرقت في النفس منك لطائف شروق جمال لم اجد لجمالكِ نظيراً.. فحارت في سناكِ المعارفَ» الشطر الثالث أرى أن يأتي هكذا.. «شرود جمال لم اجد لجماله». ومثله الشطر الرابع «نظيراً فحارت في سناه المعارف» إن حبَّه الكبير يتسامى.. فوق سماء العاطفة.. مبتعدا عنها إلى ما هو ارحب.. واقرب للحب: «لئن هام أقراني بليلى. وخولة فقد همت بالأمر الذي هو أشرفُ وسمتُ بك الأفلاك حبا وبهجة وصرت بك الضوء الذي هو أكشف فصار فؤادي للأنام حدائقا بأفنانها الأطيار تشدو وتعزف» ولأنه شاعر مرهف الحس لابد وان يتغزل في حسن القمر.. حتى ولو كان في حقيقته مجرد كوكب مظلم وميت: «ميلادك الشهري عيد به تزدهر الآمال.. والأعصرُ مازلت طفلا باسما بالرؤى حتى يتم البدر إذ تكبرُ» حسنا لو جاء شطره الأخير على النحو التالي ما دام يخاطب القمر. «حتى تكونَ البدر إذ تكبر» ومن البدر الذي اشتاق شاعرنا إلى النغم الذي عشقه مأخوذا بإيقاعاته: نغم قيثارة حب رجَّعتها أوتار سلمى وكان يذكرها بإطلالة البدر من خلف الهلال.. وبالأحلام المنسوجة من ضوء القمر: «صوتكِ الشادن مازال صداه بالرؤى العذبة يغري مسمعي فاٌغني من جديد للحياة رغم آلامي.. وألقاكِ معي» إلى أن يقول في نغمه الأحلى: «اذكريني كلما غنى الهزار بنشيدي فيكِ يا أحلى نغم» كل الأطياف من حوله تعزف وتغنى.. هَي بإيقاع حسنها ودلالها.. وهو بحبه الذي لم يعد يطمع فيه الوصال الا حين عودة الربيع.. والهزار الذي يملأ فضاءه طربا وحبا.. بقيت علامة تعجب حائرة.. لماذا رحَّل حبه إلى موعد ربيع قد يأتي وقد لا يأتي.. ألم يقرأ للخيَّام رباعياته.. «واغنم من الحاضر لذاته فليس في طبع الليالي الأمان» وهل اجمل من لذة حب بريء لا شبهة فيه.. ولا غشاوة معه؟! لقد اختار شاعرنا آل ملا ترحيل اشواقه ليجني بالمحصلة شوك غرامه: «سلي النجم عن مقلتي الساهرة وقلب جفا طبعُكِ.. حيَّره دعتني جفونِك يوما إلى.. هواكِ فلبيت يا أمره.. ولم أدر أني دليل الشقاء على موعد في هوى ما كره» هل أقول لشاعرنا تستأهل.. انتَ الجاني على نفسك.. من أعطيَ ولم يقبل سألَ ولم يٌعط.. هكذا تقول الحكمة.. لعل صدود ما كرته ساقه إلى هيكل الحب.. حيث خلجات حرمانه كانت وقودا لوقفة جادة لا تقبل الرحيل ولا الترحيل: «خلجات في هيكل الحب اتلوها على مزهر يغني شجوني. للصباح الطروب. للجدول المنساب للفجر. للندى. للغصون» لمن كلِّ هذا التطريب رغم عذابات شجونه؟ «لحبيب رأيت فيه وجودي بعد ما كنت تائهاً في ظنوني يا حبيبي.. وأي لفظ جميل كحبيبي.. معبّرا عن شعوري» لا أجمل منه إلا ان تحزم امرك دون تردد.. فالفرصة الرابحة لا تأتي مرتين.. اهتبلها.. وتوكل على الله.. شاعرنا يتحرك بعاطفة عطشى لا يطفىء لهيبها جرعة حب واحدة.. ولا كأس غرام واحد.. بل كؤوس وكؤوس متفاوتة الأحجام.. والالوان.. هذا ما استشعرته وقطار سعادته يتحرك في الاتجاه المعاكس. ومع الشاعر والهزار في عشق لا (هِزَار) فيه.. وفي جلسته الساحرة وهو يستريح من عناء الركض الذي لا راحة معه.. والذي اخذه إلى الأسكندرية وبحرها وآثارها.. وإلى الطائف حيث الهدا.. والشفاء... والحوية.. وشهار. حيث اشهر حبه.. ورسم لجمالها لوحة خلابة أودعها شعره.. بساط شاعرنا يطوي المسافات بعيدا بعيدا.. إلا ان عدسة تصويره متعبة كتعبه.. في استوكهلم عاصمة السويد جاءت لوحته.. أو صورته باهتة غير قادرة على استغراق مجالات ما حوله: «لله في استوكهلم آيات من الفردوس إذ لاحت لعين الناظر» هذا كل ما تمخض عنه من توصيف لا يرقى إلى درجة الجماليات التي نلمسها في بعض اشعاره حتى وهو يصف اسراب الآرام والضحكات.. كلها مفتعلة تُحسب على شعر شاعرنا.. وليس له.. «الشاي عند الأصيل».. والساقية فاطمة.. ترى هل أن شايه سعودي خفيف؟ أو صعيدي معقَّد التركيب؟! أعني شاي شعره: «بكأس الشاي فاطم عللينا فإنا لم نزل به هائمينا» شطر الثاني يا شاعرنا مكسور الساق لابد له من جبارة تقيم عجزه.. الجبارة كما اخترتها لك: «وأنتِ الشاي فاطم أترعينا».. الجميع بين جماليات الشاي والساقي.. أليس كذلك؟ يبدو انك تعني هذا المعنى في بيتك القائل: «فإن الشاي حين يجيء صرفا تطيب به النفوس.. متى عنينا كبدر جال في بدر. وبدر يجول به أمام الشاربينا» الشاي يا صديقي لم يُعد جيدا.. سكره قليل حتى ولو كان من كف فاطمة.. الا اذا كانت هي السكَّر.. قصائد متعددة طويت صفحاتها لخصوصياتها.. ومناسباتها.. شعر المناسبات لا يستهويني كثيرا حتى ولو كان جيداً.، الاهم منه ما يعبر عن تجربة حياتية.. أو اجتماعية.. أو انسانية لها البعد الذي لا تشده اللحظة.. ولا يطويه النسيان.. كهذا الفدائي مع فردوسه الجريح: «علمتني مأساة شعبي الصمودا لا تسلني. متى أموت شهيدا أشرب العزم من دموع الثكالى وأغذي من الأنين الصمودا ان لي قصة مع الثأر باتت خبرا. راع في الانام اليهودا» هكذا الشعر الذي ننتظر منك بلاغة.. وصياغة.. ومضمونا.. أنتَ بهذه القصيدة الرائعة اكدت تواجدك على ساحة الشعر باقتدار.. وجدارة: «من زئيري. ومن هدير سلاحي نظم الشعرُ للكفاح نشيدا أبداً. لن يعيش أهلي عبيدا أبداً. لن يظل شعبي طريدا» هكذا تقول انت بأمانيك واحلامك.. الواقع المر يقول غير هذا. واكثر.. انه يكذِّب كلَّ ما رواه الشعراء من شعر بطولات لم يبق منها الا الصدى. ومجرد ذكريات حزينة تبكي على الأطلال.. ماذا وهب شاعرنا للحياة؟ لنستمع إليه: «وهبنا الحياة فدا للوطن فبعنا النفوس بأغلى ثمن سنرجع مجداً لنا قد مضى إلى الشرق. رغم عوادي الفتن ونحيي من الحب في نفسنا شموساً تزيح جميع الإحن» التقرير به. والمباشرة في شعر شاعرة بوجهها في وضوح.. جندا لو اختصرت الصورة دون اجترار.. ودون تكرار. إذاً لكان وقعها على سماع المتلقي أكثر جاذبية. وانجذابا.. «دموع بين أطلال أمة» لعلها تستفزنا.. وتثير في دواخلنا الإحساس باليقظة والصحو من سبات نغالب: «هل من سبيل إلى إحياء آمالي؟ اذا هرقت دموعي بين اطلال أو أن آهاتي الحرَّاء ذاهبة مع الرياح إلى آهات أمثالي» كلها تساؤلات لا غبار عليها.. واستفهامات تعوزها علامات استفهام (؟) لقد شقيت بقوم صار ناصحهم كمودع الماء في احشاء غربال» يا له من وصف جميل.. يتساوى في جماله الحكمة الصائبة القائلة «صديقك من صدَقَك لا من صَدَّقك» ولقد صدقت وأنت تدلي بكلمتك الشعرية عن البوسنة «لمجلس الأمن سكين يحزُّ بها رقابنا.. ودروع للمعادينا فاستيقظوا يا شعوب الأرض واتحدوا فصانع البغي لا يحمي المساكين» هذا كان بالأمس.. اما اليوم فحكايته حكاية.. لا مجلس أمن يوفر الأمن.. ولا أمم متحدة تحترم حقوق اعطائها.. الولاياتالمتحدة هي العالم لأنها القوة المتفردة والوحيدة في هذا العالم.. تأمر. وتنهي.. وتعزل ولا تسأل... ومن البوسنة الجريحة إلى قانا الذبيحة.. من بحيرة دم إلى بحر دم جاءت عناقيد غضبه.. وأي غضب؟ «لأرزائك قانا يطول التفجُّع وتهطل طوفانا عليك المدامع» ومن اجل التوافق في الصياغة الشعرية والفنية وددت لو ان شطره الأول ورد كالتالي: «لرزئك قانا طوقتنا الفواجع» ويصف الملجأ المنكوب بوحشية شمعون بيريز «حمامة السلام» في نظر المطبِّعين والمطبِّلين للسلام الكاذب: «بك لاذت الاطفال. والشيب والنساء ليعصمهم جند السلام ويشفع ولكن صناع الفناء رموهموا بأذكى صواريخ. من الموت تُصنع» هكذا.. وإلى هنا انتهى بنا المطاف على قطاف حلو. وآخر مرُّ قدَّمه لنا شاعرنا آل ملا على طبق من الحب التهمناه سويا لأنه طبق حياة.. دونه لا جسد.. ولا روح. الرياض ص.ب 231185 الرمز 11321 فاكس 2053338