شجرة الشعر في الأرض الخصبة تحمل ثماراً يانعة متجددة في النضج والنمو والعطاء.وفي ارض الجزيرة العربية تعمقت جذور الشعر في خصوبة اللغة الفصيحة، وتشربت من بحر بيانها الذي لا ينضب، وتمددت اغصانها لتعانق ظلال الإبداع في فنون الفكر وأفانين الوعي والذوق، والابتكار...في جولة شاعرية على شواطئ الخليج العربي، نرتحل مع شاعر عاصر فن القول والوجد، والمعاناة يتنفس بالشعر، ويسكب في بحوره أجمل اللآلىء. انه شاعر البحرين الأستاذ ابراهيم بن عبدالمحسن العريض. عندما كانت تجارة اللؤلؤ احدى الفنون التجارية الممتعة، يرتحل من اجلها عشاق البحر والطموح والرحلات، وكانت «بومباي- بالهند» إحدى المحطات التجارية الكبرى، فيها ولد الشاعر «إبراهيم العريض» عندما كان والده يزاول عشقه مع مهنة اللؤلؤ وتجارته، كان ذلك عام 1908م، وفي هذه المدينة الساحلية نشأ العريض وتلقى تعليمه الابتدائي والمتوسط والثانوي، وتعلم من اللغات «الأوردية، والإنكليزية، والفارسية» وعاش مع اسرته في الهند حتى عام 1926م حيث عاد إلى البحرين ليزاول مهنة التعليم بمعارف البحرين من عام 1927م حتى عام 1932م حيث اسس «المدرسة الأهلية» وعمل مديرا لها حتى عام 1935م، ثم انتقل للعمل كبيراً للمترجمين في احدى شركات النفط بالخليج. عشق الشاعر ابراهيم العريض الشعر منذ الطفولة وانسجم مع تجليات الطبيعة في آفاقه، وكان لتحديقه الراصد وتعمقه اثرها النابض في تلوين صورة الشعرية وامتزاجها بالقصة الشعرية التي اشتهر بها بين شعراء الخليج. يقول الدكتور شوقي ضيف في كتابه «في النقد الأدبي» : (إذا كان الشعراء يشخصون الطبيعة ويملأونها أو يملأون عناصرها من الشمس والقمر والسماء والارض والبحار والاشجار بالعواطف والوجدانات والمشاعر، فلأنهم يريدون ان ينفذوا إلى الروح الداخلية للكون كله، تلك الروح التي تتشكل أشكالاً مختلفة تحت بصائرهم). وحينما نورد مقولة الدكتور شوقي ضيف فذلك لقناعتنا بأهمية التصوير في ابداع النسيج الشعري، ولأن شاعرنا العريض قد استفاد من ظلال الطبيعة وإيحاءاتها من خلال قراءاته ورحلاته وتأملاته فانعكس ذلك على شعره. وفي كتابه «ما قالته النخلة للبحر- الشعر المعاصر في البحرين» تناول الاستاذ علوي الهاشمي معاناة الشاعر العريض وتفاعله مع الطبيعة في عدد من النماذج الشعرية، منها قصيدة «القُبرّة» التي يقول عنها الهاشمي :(وحين نقرأ قصيدة «القبرة» للشاعر ابراهيم العريض نحس بأن ذلك الطائر الصغير الحالم، المحوم بجناحيه الرقيقين وصوته العذب في الفضاء، وكأنه عندليب وردوزورث الذي حار أن يسميه طائراً أم صوتاً جواباً، هذا الطائر الجوّاب ما هو إلى الشاعر نفسه يحمل في داخله روحاً، وينثر اشعاره وقوافيه ألحاناً منغمة وصداحاً موقعاً في كل مكان: تحوم في أفق السماء أصيلا كنجم تراءى للعيون ضئيلا فيتخذ الصوت الذي تستجده مع الريح في رحب الفضاء مسيلا يدق على الأسماع خافت جرسه فإن أعلنتْه الريح جاوز ميلا وتدركه شيئاً فشيئاً غثاوة من الحزن حتى يستحيل عويلا ويتفنن الشاعر في وصف حركة القبرّة كأنما هو يعبر عن معاناة الشاعر وامتزاجهما فيقول: أقبرّة هل انت في الجو قطعة من الحس سالت باللحون مسيلا تغالين في الالحان حتى إذا انتشت بها روحك الولهى خفتّ قليلا كما تخفت الأوتار بعد رنينها ويبقى صداها في النفوس طويلا ويزخر ديوان الشاعر « العريض» باللوحات الشعرية النابضة، تلك التي يتناول فيها صوراً من الواقع مستخدماً ألوانه المعبرة في الوصف ومزج هذه الالوان بنبض المعاناة، نشهد ملامح من ذلك في هذه الأبيات من ملحمة «أرض الشهداء» وهي لوحات متعددة يقول في لوحة تعبر عن معاناة أحد الرعاة: أقبل الراعي ضحى- بالناي- يستاق ضئينه ناعم البال.. كأن الحب قد زكى شؤونه فإذا جمّيزة خضراء في درب المدينة فوق مطلول غدير غضَّن العشب جبينه شبكات راحتها.. تحمي من الشمس معينه تتملى حزنها في زرقة الماء حزينة أبدا.. ما اشبهت حيرتها إلا سكونه هي مثلي انزل الله على قلبي السكينة سائل الظبي- وفي حرمتها عاش سنينه هل اتاها مطفلا قط.. فلم ترع حنينه بغصون خفقت اوراقها للريح دونه فإذا حركت الريح من النبع شجونه إنها أول من تسمع في الوادي أنينه *** يقف الناقد الأستاذ علوي الهاشمي عند هذه اللوحة الشعرية للشاعر ابراهيم العريض فيقول محللاً:( إن العريض وهو ينظر إلى الطبيعة من خلال عيون الراعي فيصفها هذا الوصف المتقصي الدقيق، وكأن كل شيء متصل به أشد الاتصال، كما أن الشاعر حين يجمع تلك المشاهد والمظاهر ويحشدها حول شجرة الجميز التي تنطلق الملحمة من تحت افيائها فإنه بذلك يعمق فينا الاحساس نحو الجميزة، ويحفر فينا حبها ويوجه إليها اهتمامنا ولا يبقى إلا أن نشعر بأن تلك الجميزة قد غدت رمزاً موحياً وتجسيداً قوياً للوطن الذي نما الاحساس به والحب في قلب الراعي نحوه طبيعياً متصلاً بالتراب والماء والهواء وشتى مظاهر الطبيعة والحياة من حوله، لا عجب إذن حين يهب ذلك الراعي للدفاع عن الجميزة- الوطن). ناعم البال.. كأن الحب قد زكى شؤونه.. فإذا جمَّيزة خضراء في درب المدينة.. فوق مطلول غدير.. غصَّن العشب جبينه.. *** إن من يعشق الطبيعة لابد أن يهيم بكل صور الجمال الذي ابدعه الخالق سبحانه وتعالى في أرجاء الكون العظيم. والشاعر مولع بالجمال والتعمق في اسراره وتجلياته، ولشاعرنا الاستاذ ابراهيم العريض فلسفة في الجمال يعبر عنها بهذه الأبيات: يا ابنة الحسن شاركتني في الحسن أناس.. وانكروا احساسي هم يرون الجمال صيغة زهر وأرى العطر فيه اصل القياس هم يرون الربيع صوت هزار وأراه في قلبه الحساس هم يرون الحياة نشوة راح وأراها كأسي بما في كأسي ما بعيني غير رؤيتك يا نورهما إنما بعيني رأسي أنا أهواك حيث أني ألفي بك نفسي ما بين ورد وآس *** وفي وقفة اخرى يعبر عن عشقه لجمال الطبيعة في صور منعكسة على محبوبته، إنه يتغزل تغزلاً راقيا متأملاً فيقول الشاعر العريض: كيف أهواك؟ أنشدي البدر عني هو ذا في السماء يطوي البروجا هل تكون الحياة- لولاك- إلا ظلمة.. لا أطيق منها خروجا إن حبي اليك كالبحر لما ترشق الشمس وجهه فيموجا لا.. بل الشمس عندما تتجلى من وراء السحاب تطلي المروجا لا.. بل الغيث عندما يتوشى منبت الارض من نداه نسيجا لا.. بل الروض عندما يتلقى قطرات الندى فيزكو أريجا لا.. بل الطير عندما تتغنى فتضجُّ الرياض منها ضجيجا ما كهذا الاخير حبي لا بل هو من كل ذاك كان مزيجا صور يا أميمة شتى ولكن ألفتْ من هواك معنى بهيجا *** والشاعر العريض عندما ينسجم مع الجمال ويستغرق في آفاقه يأخذه اهتمامه إلى التصوير، وتكاد الصور أن تغطي عيوب البساطة والركاكة في البناء الشعري أحياناً، وتكمل بعض الأبيات والعبارات ما في الأخرى من ضعف واهتزاز. *** الحداء الجميل، صخبه، صداه، له تأثيره النابض في التغني بالشعر، ومن ذلك أخذ الطرب أبعاد التطريب في اختيار نماذج من الشعر الجميل لتجميل افتتاحية الأغاني والأناشيد والمتذوق من يحسن اختيار الموال، ونلحظ في قراءتنا لديوان الشاعر ابراهيم العريض ترديد اسم «مي» في عدد من قصائده، ربما أنه رمز للحبيبة أو عنوان من عناوين الذكريات الجميلة، ذكريات الطفولة والحب والشباب. من قصيدة «مي» للشاعر ابراهيم العريض من ديوانه «العرائس» يقول فيها مصوراً الحالة الوجدانية وما يكتنفها من صور: ولما تفيّأنا ظلال خميلة تساقط مثل الدر فوق خطانا وحدثتها بالحب- وهي مصيخة على أمل أن تلتقي شفتانا أشاحت إلى الازهار عني بوجهها دلالاً، وقالت لي : كفى هذيانا أتأمل مني أن اصدق بالهوى جزافا وطرفي لا يراه عيانا؟ فقلت لها يامي مالروض ناضرا ولا الطير أحلى ما يكون لسانا بأحسن من خد تورّد في الصبا وأعذب من ثغر يذوب بيانا لقد كان أولى أن نبيح لبعضنا عوالم بعض في ربيع صبانا وما قيمة الازهار في جانب الصبا أليس الصبا- يا ميُّ- أعظم شأنا أناشدك الحب الذي عهدنا به سويّا كأخفى ما يكون مكانا ألم تشعري؟ شيء تمثل بيننا لأول عهد تم فيه لقانا فمالك تستعدين قلبي على الهوى كأنك ما شاطرته الخفقانا *** وفي قصيدة بعنوان «يد بيضاء» من ديوان «قبلتان» ينسج الشاعر ابراهيم العريض صوراً غير مألوفة للفجر، هي مزيج من الاحلام والتأملات والتجليات الجميلة فيقول: أفاق الفجر من حلمه فمن علم الشادي.. .يباكره.. يناديه بأن النهر من نظمه وفي شطري الوادي.. أزاهره.. قوافيه. *** وقف الفجر على الوادي.. مطلاً من هضابه كأمير عبقري.. زانه حسن شبابه فاستفاد الزهر من غُرته لون خضابه وكأن الفنن الميّاد نشوان لما به يرفع الكوب الذي بين يديه بحبابه يحتسي الطائر منه ثم يمضي في خطابه فكأن الشمس لا تشرق إلا في رحابه يا ابنة النور انظري عقدك منثوراً ببابه كيف لا يثني عليك النهر أثناء انصبابه مزج الخالص من تبرك ذوباً بترابه.. وامتطى الصبح لرؤياها على ظهر سحابه فانجلى شيئاً فشيئاً.. كل حسن في ركابه وفي لوحة أخرى يصف الشاعر «قرية حالمة» تقع على شاطئ البحر، تتراءى للشاعر العريض كأنما هي استغرقت في السكون فخلدت إليه دون استشراف آفاق الطموح في المدينة، لقد ضمن الشاعر تصويره لتلك القرية بالنقد العابر الذي لم يخدش جمالاً لقصيدة المعبّر، يقول منها: على شاطئ البحر في قرية تلوح بعزلتها الدائمة كأن الدّجى لفّها بالسكون فما برحت دهرها نائمة تطل عليها عروس النهار فتلبث في جوها حالمة وللبدر من أفقها قبلة تطول، ولكنها ناعمة بناء.. يذكِّر سكانها بشامخ أبنية العاصمة فلو أيقظ البحر أمواجه