واستمرت رحلة كارلسوان في الصحراء، حيث عاد اليها ثانية فقال: في صباح اليوم التالي انطلقنا أنا ودليلي فارس على ظهور الخيل لان رئيس المضارب اعارنا فرسين وتكسرت اغصان الخزامى والبابونج الدقيقة تحت حوافر الخيل بصوت يشبه حفيف الحرير وامتدت السهوب حولنا فوق التلال والسهول الفسيحة التي زارتها الأمطار ولكن ما من اثر للإنسان هناك، فلا هجرات بدوية ولا رعاة يسوقون قطعانهم، فكل ما يمكن ان نلمسه هو روعة الصحراء البكر. واطلت شمس الغروب علينا من بين السحب الرعدية وتراقص الشرق المعتم بالبرق الخلبي وقصف الرعد من بعيد وتراكضت بعض السحب الرمادية أمام رياح المساء مع حلول الظلام. وعندما شددنا الأعنة فوق قمة إحدى الهضاب اتانا من الأعلى صوت يشبه ضربات الاجنحة العملاقة انها الرياح الدافئة تدفع أمامها زخة ربيعية ونصبت فرسي «سدحا» اذنيها بفضول وتراقصت بقلق وضربت الارض بحوافرها وحنت رأسها وصهلت برقة وبعد ذلك هزت عرفها وضربت بذيلها على جانبيها الضامرين ورفعت عنقها نحو الأعلى لقد اكتشفت حواسها الحادة كحواس كلاب الصيد شيئاً، وهرولت نحو الأمام بقوائم خفيفة واذنين منتصبتين وخياشم متسعة واتجهت نحو نار صغيرة ظهرت لنا فجأة بين الظلال المتشابكة للسماء والأرض ثم اخفتها زخة جديدة من المطر ثانية وبعد انقطاعها رأينا أيضا قطيعا محتشدا من الغنم بللته الأمطار واعترض كلبان ضخمان اقترابنا بنباحهما الغاضب وأتى صوت امرأة من قرب النار يقول: «من هناك»؟ فصرخت «أصدقاء». الراعية الوحيدة وخرجت صبية بدوية من خيمة صغيرة طالبة من كلبيها الابتعاد وعندما ترجلنا وأخذت فرسينا ووضعت أمامنا وعاء من الحليب وسمحت لنا بالاقتراب من النار التي فرقعت بشدة لأن كل قطرات المطر الثقيلة سقطت فوقها فامتلأ هواء الخيمة بدخانها اللاذع، وبدت الخيمة بجانب النار مأوى صغيرا لا يكاد يستحق اسم خيمة اذ كانت قطعة واحدة من قماش شعر الماعز الخشن كأنها مجرد ستارة مطر لوقاية الراعية «خربوش»، وفي داخل الخيمة التجأ حمل صغير وأمه التي كسرت ساقها. كانت الفتاة في السادسة عشرة من عمرها جميلة للغاية ورشيقة مثل كل النساء البدويات وقد اصطبغت وجناتها اللتان لفحتهما الشمس بالدم وكان شعرها الكثيف الناعم وأنفها الشامخ يشيران الى ان الفتاة من النسل النقي وحسب عادة الصحراء القديمة وضعت أمامنا وعاء من حليب الغنم الطازج ووضعت أمام كل ما تملكه من طعام الخبز والحليب الطازج وبعض الزبدة والتمر المجفف وبينما كنا نتناول عشاءنا سحبت الى الخيمة حملا صغيرا يثغو بأسى ويحاول التحرر منها وعندما انحنيت لأمسك بالحيوان استلت الفتاة خنجري من نطاقي وصاحت: اذبح لي هذا الخروف لكي اطبخه لكما، وأخذت الخنجر من يدها ثم تركت الحمل يعود الى القطيع ولكن الفتاة نظرت إلي لائمة، فقلت لها: قدمت للغريب كل ما يسد الرمق ويشهد الله أننا لا نستطيع أكل خروف كامل كما انني لا أرى أي وعاء يمكن ان تطبخيه به. ولحسن الحظ خافت الفتاة من ذبح الحيوان بنفسها مما سهَّل علينا اقناعها بأنه لا لزوم له ولكنها كانت تخشى ان يلومها والدها لأنها لم تقم بواجب الضيافة البدوية الكاملة. وبدون كلام جلست أمام الخيمة واضرمت لنفسها نارا صغيرة اضاءت جسدها عندما انحنت فوقها وتراقص الضوء على وجهها الجميل البراق بقطرات المطر فأظهرت صورة رائعة للجمال الطبيعي والصحة، وعندما اتضح لنا ان الراعية الشابة عزمت على قضاء الليل في العراء والمطر دون وقاية ألححت عليها ألا تخاف وان تقاسمنا الخيمة، بل هددت بأننا سنرحل إذا لم تفعل ولكنها لم تأخذ تهديدي على محمل الجد ضحكت وأجابت بخفة بأنها تستطيع الذهاب الى خيمة والدها والعودة في الصباح. وهنا قاطع فارس قائلاً: من هو والدك». فأجابتنا انني: تويما بن شاعل بن سرحان، وخيامنا منصوبة مع عشيرة الفريج قريب من هنا. يتبع