أقيمت مساء أمس الخميس الندوة التكريمية لشخصية العام الثقافية سعادة الشيخ الأديب أحمد بن علي المبارك.. وذلك بقاعة الملك فيصل للمؤتمرات بفندق انتركونتننتال. وقد أدارها سعادة الأستاذ حمد بن عبدالله القاضي رئيس تحرير المجلة العربية، عضو مجلس الشورى، واشترك فيها كل من: د. خالد بن سعود الحليبي بورقة عن الجانب الأُسري والنشأة. الأستاذ خليل بن ابراهيم الفزيع بورقة عن حياة الشيخ المبارك الأدبية. عبدالله العبدالهادي في جوانب عن حياته الدبلوماسية. الشاعر الأستاذ أحمد باعطب في ورقة عن الجانب الشعري في مسيرة الشيخ المبارك. وقد ابتدأ الأستاذ حمد القاضي إدارته للندوة بكلمة قال فيها: * تحية دافئة في هذه الليلة (الرياضية) من (الرياضالمدينة) وليس من (الرياضة اللعبة) فأين نحن منها..؟ إن هذه الليلة الباردة لن يطفىء بردها إلا نسيم الوفاء فيها، ولن يخفف طقسها إلا دفء الإيفاء لفارسها، وهي ليلة مباركة ان شاء الله ففيها وفاء مبارك لرجل مبارك من مهرجان مبارك. ولعل من الجميل أيها الأحبة أن تأتي هذه الندوة عقب أن حظي الشيخ أحمد المبارك ليلة البارحة بتكريم مستحق عندما قلده سمو ولي العهد وراعي المهرجان الوطني للتراث والثقافة سمو الأمير عبدالله بن عبدالعزيز وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى باسم هذا الوطن الذي وحده الملك عبدالعزيز رحمه الله. وكلمة امتنان وعرفان من أهل الكلمة لسمو الأمير عبدالله بن عبدالعزيز الذي سبقنا الى تكريم هذا الشيخ الجليل. والتحية موصولة للمهرجان الوطني للتراث والثقافة في خطوته الموفقة في اختيار شخصية ثقافية كبيرة كل عام لتكريمها وتثمين عطائها لوطنها وثقافة وطنها وبخاصة ان هذه الشخصياتِ التي يتم تكريمها من الرموز الوطنية الثقافية التي سخّرت سنوات عمرها في الاسهام في منظومتنا الثقافية ومنجزنا الحضاري. إن في هذا التقدير من المهرجان مزيجاً من التكريم والوفاء وبث تباشير السعادة في جوانح المكرم، ولا أزال أذكر كيف كان وقع هذا التكريم على والدي الشيخ العلامة حمد الجاسر تغمده الله بواسع رحمته عندما اختاره هذا المهرجان شخصية العام الثقافية قبل رحيله عن دنيانا بسنوات معدودات. أيها الحضور الأكارم: إن اختيار شخصية هذا العام الشيخ الأديب السفير أحمد بن علي المبارك جاء بوصفه أحد رواد الحركة الثقافية والدبلوماسية في بلادنا، والأب الروحي لأدباء الأحساء والمنطقة الشرقية كما وصفه الكاتب د. غازي المغلوث، وفي جانب خدمة وطنه فقد أبلى رعاه الله بلاء حسنا في عمله الدبلوماسي. ولا أطيل في هذه التقدمة.. وحسبي أن أختمها بأصدق وصف لهذا الشيخ الجليل كتبه زميله وصديقه معالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر في كتابه (إطلالة على التراث) الجزء الرابع ص 343 حيث قال عن المحتفى به العاشق للتراث، والحاضر في كل الأذهان والأزمان: (كنت أستمتع بالإنصات والإصغاء لأحاديثه الأدبية التي يرويها لغيره أو لنفسه، سواء كان ذلك نثرا أو شعراً، قصة أو حكمة، مثلا أو طريفة من الطرائف، أو شاهداً من شواهد النحو أو البلاغة، مجلسه في ذلك لا يُمَلُّ، فطريقته مشوقة، وما يأتي به مختار منتقى، وكان حفظه الله فارسا مبرزا سابقا في المناظرات والمسابقات وفي المسامرات التي كانت تعقد.. هذا قليل من كثير، إن أبا مازن هذه كنيته الشيخ المبارك في الذهن إذا غاب، وفي العين إذا حضر، وفي القلب غاب أو حضر). أما قبل فأدعكم الآن مع فرسان هذه الندوة ولن أُعَرِّف بهم فهم أعلام على رأسها (أنوار) وليس (نيران)، وقبل ذلك وبعده فهم من أحبة الشيخ المبارك والأوفياء له.. ألا وهم: د. خالد الحليبي الذي سوف يتحدث عن بدايات حياة الشيخ وأسرته ونشأته في واحة الاحساء. الأديب أ. خليل الفزيع الذي سوف يتناول بعضا من جوانب حياة عطاء الشيخ المبارك الأدبي والثقافي. الدبلوماسي أ. عبدالله العبد الهادي الذي سوف يكشف جوانب عن حياته الدبلوماسية التي أعطاها نصف قرن من عمره المديد. الشاعر أ. أحمد باعطب الذي سوف يركز على الجانب الشعري في مسيرة المحتفى به الليلة. ثم أدع الميدان بعد ذلك للمحتفى به ليتحدث إليكم ولتمطروه بأسئلة وأمطار محبتكم. الجانب الأسري والنشأة في حياة الشيخ المبارك أما ورقة العمل الأولى فكانت عن الجانب الأسري والنشأة في حياة الشيخ المبارك وقال فيها صاحبها الدكتور خالد بن سعود الحليبي: نصف السنوات التي عشتها، وأنضرها وأنضجها.. نحو من عشرين عاما.. كانت متوجة بتلمذة مشرفة على يد المحتفى به، السنوات التي عاد فيها إلى مسقط رأسه بعد ان طوف في بلاد الله، شابا غضا، عاشقا هائماً بالمعرفة، ثم رجلا مكتمل الشخصية عائدا من مصر، ينصبه الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود في أعلى المناصب في الداخل؛ ليشترك في شرف بناء الدولة المنطلقة الى التقدم والرقي، ثم سفيرا للمليك في عدد من عواصم العالم الاسلامي، ثم يعود أخيرا إلى أمه الحنون، التي افتقدته وافتقدها زمنا طويلا، إلى الأحساء.. هجر الحبيبة: وكيف وهذي هجر تاهت بنابغ غدا في سماء الفكر للشمس مطلعا تغرب عنا ثم عاد مولها تسابقه الأشواق حباً ومنزعا أتى مشعلاً للفكر والأدب الذي إذا مسه غصن النباهة أينعا ومد لها كف السماحة والندى وحيا لها هذي البدور وجمعا وأضحت له الأيام نشوى خصيبة وقد شكل الآحاد منها ونوعا يبدو أنني قد سابقت الأحداث، فلأبدأ بمحضن الشاعر الذي بدأ فيه أبجديته التكوينية الأولى، الأسرة، ثم أدلف الى الحديث عن نشأته، وتكوينه الثقافي؛ لأترك الحديث لأساتذتي الفضلاء عن بقية المحاور: أسرة آل الشيخ مبارك عرف العرب في جاهليتهم وإسلامهم، بيوتا اشتهرت بإجادة فن معين، فأطلقوا لفظ (المعرق) على من يتكرر (الأمر فيه وفي جده فصاعدا، ولا يكون معرقا حتى يكون الثالث فما فوقه) كما يقول ابن رشيق، كما أطلقوا لفظ (ذي البيت) على (من عم الأمر جميع أهل بيته أو أكثرهم)، وعرف من بيوتات الشعر والمعرقين فيه كثير، منها: بيت أبي سلمى، هو وابنه زهير، وابنا زهير كعب وبجير، وجماعة من أبنائهم وخال زهير بشامة بن الغدير. وقد عرف في الأحساء منذ القرن العاشر بيوتات معرقة في العلم (كاد أفرادها أن يكونوا علماء جميعا) وحاولت هذه الأسرة (بقدر جهدها، أن تحافظ على مكانتها العلمية المألوفة آنذاك.. وأن تواصل حب المعرفة في أبنائها جيلاً بعد جيل). ولهذه الأسر مجالس (تقوم بدور الاندية والمدارس في إنعاش الحياة الفكرية والأدبية، فكان الناس يجتمعون للبحث في شؤون الأدب والشعر، والتاريخ والفقه وكان الشعراء والفقهاء والملمون بالنواحي التاريخية يحضرون هذه المجالس فيتناقشون ويتبادلون الآراء والمعلومات، ويعممون الفائدة على سائر الحضور؛ الذين يأتون من أجل الاستماع والاستفادة). والواقع أن بيوت العلم هذه لم يكن لها طابع أدبي خاص، لكن لها أثر محمود في إيقاظ الشعور الأدبي ولا سيما من ناحية تدريس اللغة العربية، ولاشك ان لدراسة البلاغة والعروض والنحو والصرف أثراً كبيرا في تجويد الشعر، ورفع مستواه، بل لإنقاذه من درك العامية، التي كانت لغة الشعر الوحيدة في بعض أجزاء الجزيرة العربية في فترة من الفترات. وكان من اهتمام هذه الأسر بالشعر: أنها تحرص على انتقاء أجوده، سواء من الشعر القديم أم المحلي، وتمرن ناشئتها على إنشاده أمام الآخرين، لتقوي بذلك ملكاتهم، وتقوم ألسنتهم بالنطق الصحيح، وليتعودوا الجرأة والقدرة على الإلقاء أمام الآخرين، ولذلك برز منهم شعراء كُثر، يمثلون غالب شعراء الأحساء وقد كشفت لي المخطوطات التي اطلعت عليها أن جميع طلبة العلم في هذه الأسر تقريبا قالوا شعراً، ولكن لم يشتهر منهم إلا المُكثر أو المجيد. ولاشك أن أسرة آل الشيخ مبارك تعد في طليعة هذه الأسر، بل هي أبرز الأسر العلمية الشاعرة في الأحساء على الإطلاق، وأكثرها علماء وشعراء وأدباء. ثانياً: النشأة: لا بد أن ألجأ إلى أسلوب الاكاديميين في الحديث عن نشأة المحتفى به، وإلا ضعت بين أبحر حياته المتلاطمة الأمواج، وعجزت أن أرسم ملامح حياته المكتررة بما هو جدير أن يذكر في هذا الجانب بالذات؛ لتميزه من جهة، ولكون الشيخ من النادرين الذين استطاعوا أن يسجلوا خطواتهم الحياتية بدقة متناهية، في سيرته الذاتية التي سجلها بذاكرة حاضرة، كأنها ترى وتشاهد وتسمع شريط الحياة يتحرك أمام ناظريها. أما نسبه: فهو أحمد بن علي بن عبدالرحمن آل الشيخ مبارك من أسرة آل الشيخ مبارك التي ينتهي نسبها إلى قبيلة بني تميم كما ذكرت آنفا. وأما مولده: فقد شرفت بمولده مدينة الهفوف في الأحساء، عام ألف وثلاثمائة وسبعة وثلاثين للهجرة. وأما نشأته: فقد نشأ وشب في ربوع الأحساء بلد العلم والشعر وجنات النخيل والأعناب التي تجري من تحتها الأنهار، ينعم بما ينعم به أترابه من أبناء الأسرة العلمية في الاحساء آنذاك، من توافر الجو العلمي، والتربية الإيمانية المرتبطة بالمسجد والمدارس الشرعية الأهلية التي كانت أسرته تشرف على عدد منها، ورخاء العيش الذي كان وافرا بسبب المزارع التي كان أهل اليسار يوقفونها على رجالات الأسر العلمية ليتفرغوا للعلم والتعليم، ولينفقوا منها على طلبة العلم الوافدين والمحتاجين، والمساجد والمدارس التي كانت تحت نظارتهم، إلى جانب حرص هذه الأسر على تواصل قوافل العلماء والأدباء في أبنائها. وقد بدت مخايل النجابة على شيخنا باكرا، فلما بلغ السن السابعة من عمره أرسله والده إلى الكتاب (المطوع)؛ كما هي عادة المسلمين في ذلك الزمن في جميع البلاد الإسلامية، وفيه تعلم تلاوة كتاب الله، والقراءة والكتابة وبعض مبادىء الحساب. وبعد أن ترعرع وبلغ الثانية عشرة من عمره اختلف إلى مجالس العلماء ومساجدهم ومدارسهم الدينية، وأخذ يقرأ عليهم مبادىء الفقه والحديث والنحو والصرف، وحيث إن كثيرا من أفراد أسرته آل مبارك قد نبغوا في علوم الدين واللغة والأدب والشعر، فقد درس على بعضهم في علوم الفقه والحديث واللغة والصرف، ومنهم: والده الشيخ علي بن عبدالرحمن آل الشيخ مبارك، وأخوه الأكبر الشيخ إبراهيم بن علي آل الشيخ مبارك، وخالة الشيخ عبدالعزيز بن حمد آل الشيخ مبارك، وابن خالته الشيخ مبارك بن عبداللطيف آل الشيخ مبارك، ومن هنا تلقى بناء علميا قويا، استقام به لسانه، ونبغت به عارضته، واشتد أسر بيانه، وقويت به حاسته الأدبية والشعرية التي فطر عليها ويعنيني هنا وأنا أتحدث عن النشأة ان اقول ان احمد المبارك الشاب الطموح؛ حين ذهب الى مصر لم يذهب خلوا من الحضارة التي يعتز بها، والتي هي شيء آخر غير المدينة التي رأى بعض مظاهرها هناك، ولذلك فإنه حينما دخل مصر لم يصل به الإعجاب بتقدم تلك البيئة العلمي إلى الإبهار الذي يعشي عيون بعض المبتعثين عن قيمهم التي تربوا عليها، أو يجعلهم يحتقرون ما تتميز به بلادهم، بل ذهب مشتاقا لما لم يتوافر في بلاده، معتزا بما اكتنزه في فؤاده من فضلها وتاريخها وحضارتها وعلمها وتميز مجتمعها، فبدأ منذ بداية بعثته بالقاء المحاضرات في القاهرة في أنديتها الأدبية وإذاعتها المصرية عن تاريخ المملكة ومؤسسها الراحل رحمه الله وعن أدبائها وشعرائها. ولاشك ان مكثه في بيئة مصر المنفتحة وفي سنوات الطلب بالذات، له أكبر الأثر على تنشئته وتكوينه، فهي بيئة أخرى مغايرة تماما لطبيعة بيئة الاحساء التي كانت لا تزال منغلقة على ذاتها ففي مصر تفتحت النوافذ أمام الشيخ فوجد الأزهر الذي كان يسمع عنه وتاريخه المجيد، وعاش في أروقته تلميذا امام علمائه الأفذاذ، ثم في كليته، وهناك بدأ يعيش حياة جديدة مع الحياة المتحركة بشتى ألوان النشاط العلمي والتربوي، والذي شاركه فيها عدد من أبناء بلاده وآخرين من أبناء الدول العربية والإسلامية الاخرى، ثم اصبحوا فيما بعد رموزا وطنية لبلدانهم. وكانت مصر في ذلك الحين تعج بالحركة الادبية والفكرية، تحملها صحافة يديرها ويحررها كبار الأدباء والعلماء والمبدعين، حتى وصلت اصداؤها الى ارجاء العالم العربي، وكان الشيخ مغرما بالبحث عن كبار الشخصيات، يحاول الاتصال بهم والالتقاء معهم وجها لوجه؛ ليتعرف تجاربهم، ويعرض تجربته الغضة آنذاك عليهم؛ حتى استوت على سوقها، ومصر آنذاك هي مصر العقاد وطه حسين والزيات وزكي مبارك والبنا والرافعي وعبدالوهاب عزام، فقد قرأ لهم ولقي بعضهم، وراسل قلة منهم، فاستوعب مدارسهم الأدبية، وتضلع بمعارفهم التي تصدر عنهم في كتبهم ومقالاتهم ومعاركهم الأدبية الساخنة، لكنه مع ذلك وقف منها وقفة الناقد البصير، فلم يقبل كل شيء على انه مسلم به، بل ظل يحمل خلفيته الشرعية التي نشأ عليها؛ لتكون له ميزانا يزن به أموره، ولذلك وجد نفسه تتعشق فكر الرافعي رحمه الله، وتميل اليه؛ فأقبل على كتبه يقرأها بكل شغف؛ حتى تطبع اسلوبه بها، وظهر فيه اثر الصورة الرافعية المركبة، والفلسفة المتزنة، والبناء المتين، وقبل كل ذلك رسوخ الانتماء الشديد والحب الشديد للإسلام ولغته العربية الأصيلة. ولم تمر عليه أيام مصر كما تمر على مبتعثينا اليوم الى الخارج، من رخاء وسعة ورعاية كاملة، بل كانت سودها اكثر من بيضها، وتعبها اكثر من راحتها، فمع قلة الزاد، وقسوة الغربة على شاب ناشيء، فقد ادرك الشيخ وهو هناك احداث مصر الجسام، ولا تزال صور الدمار الذي خلفه حريق القاهرة تئن في مخيلته، ودارت رحى الحرب العالمية الثانية عام 1939م على مرأى مسمع منه، وحجبته عن زيارة أهله لأكثر من أربع سنوات، وتوفي والده وهو بعيد عنه لا يستطيع حتى الاتصال بأهله ليبل حزنه عليه، أو يسمع منهم كلمة عزاء تخفف عنه ما ألم به، وواجه حياة قاسية وظروفا صعبة للغاية، أقعدته بسبب سوءالتغذية في مرض شديد كاد أن يودي بحياته؛ لولا لطف الله به، ولا شك ان ذلك كله مما أضاف الى شخصيته معاني أخرى من الرجولة والعصامية الفذة والهمة العالية التي لم تقبل له أن يعود مع كل هذه الظروف دون إتمام مهمته، وكان التحدي الطموح رائده في كل ذلك. وغادر مصر بعد رحلة مليئة بالتجربة العميقة والفائدة الكبيرة، لتبدأ حياته الوظيفية، التي سوف يتحدث عنها أساتذتي الفضلاء إن شاء الله. الحياة الأدبية وجاءت الورقة التالية من الأستاذ خليل ابراهيم الفزيع القاص والأديب المعروف حول «الشيخ أحمد بن علي المبارك في حياته الأدبية» وجاء فيها: ليس من السهل أن نلم بحياة الأستاذ أحمد بن علي المبارك الأدبية من جميع جوانبها، ولكننا سنحاول تسليط الضوء على جوانب منها في الحدود التي يسمح بها الوقت المحدد لهذه الورقة، لذلك سنطل إطلالة عبارة على بعض المحاور عن أدبه وشعره ونقده ومؤلفاته وأحديته، التي أصبحت مأوى قلوب المحبين للأدب في واحة الأحساء وما جاورها. وهذه المحاور لا تمثل إلا جزءاً من جوانب حياته الأدبية المليئة بالمحطات الثقافية البارزة والتي أتاحتها له ظروف بيئته الأحسائية وأجواء محيطه الدراسي في القاهرة ثم عمله في المجالين التربوي والدبلوماسي. فقد نشأ الأستاذ أحمد بن علي المبارك في أسرة جمعت بين علوم الدين وفنون الأدب .. في مجتمع ساعدت أجواؤه على بروز عدد من الشعراء الذين تركوا بصمات واضحة، على مسيرة الأدب في واحة الأحساء الغنية بمباهج الطبيعة ومفاتنها، عندما كانت عيون المياه المتدفقة وسامقات النخيل وأفياء الأشجار الباسقة، مرتعاً خصباً لخيال الشعراء وإبداعاتهم، يوم كانت للشعر سيادته الساحة الثقافية على جميع فنون الأدب ودون منافس، فلما انتقل إلى القاهرة للدراسة، وجد في بيئتها الثقافية ما أشعل أوار شغفه بالأدب، وتعرّف على أبرز أعلامه. الشعر بدأ اهتمام شيخنا المبارك بالشعر مبكراً.. يحفظه ويقوله، وحرضت ملكة الشعر لديه أجواء عاشها في مسقط رأسه وأخرى رافقته في «رحلة الأمل والألم» لكنه لم يول الشعر العناية التي يستحقها، إذ اكتفى بكتابة عدد من القصائد والمقطوعات، جلها من وحي الأحداث التي مر بها، وله في فن المراسلات والإخوانيات باع طويل، ومراسلاته لبعض أعلام جيله خير شاهد على ذلك، وما يعنينا بهذا الصدد ما يتعلق بالشعر، وهو في هذا المجال يذكر قصة زيارة علي أحمد باكثير له في منزله وعودته دون أن يراه: (تعوّد أن يزورني يعني علي أحمد باكثير ولكن شابا من الذين يعرفونني كان يسكن بجانبي، أخبره أنني من المحتمل أني خرجت بينما أنا في انتظاره، وكان الزمن بعد صلاة التراويح في رمضان، ولما جئت في السحور عرفت من ذلك الشاب الذي أعطاني بطاقة للأستاذ باكثير بأنه جاءني للزيارة بصحبة أخيه حسن ولم يتمكنا من رؤيتي، كان ذلك عندما كنت طالباً بالقاهرة، فقلت له ومن قال لك إنني لست هنا، فقال انك عادة تصلي التراويح في داخل البلد، ولم يكن هذا الشاب يدرك أن عادتي غير موعدي، ولم أستطع أن أفعل شيئا، وحاولت بعد أن صليت الفجر أن أنام، فلم يأتني النوم، فكتبت إليه أبياتاً وقدّمت لها برسالة، ولكني لا أستحضر الرسالة وإنما أستحضر الأبيات، وأخذت الأبيات إلى الأستاذ باكثير وصليت معه صلاة الجمعة، وأخبرته بما حدث وأن شاباً به شيء من الغفلة هو الذي حال بيني وبين رؤيتكم، أما أنا فقد صورت مشاعري بهذه الأبيات التي أقول فيها: أألوم، أم أطوي الملام بين الجوانح والعظام قصد الكرام زيارتي والليل معتكف الظلام يمشون مشية سادة اتخذوا الوفاء لهم زمام فأبت قساوة شقوتي وأبى لي الحظ الطغام أن ألتقي بوجوههم فأزيل عن قلبي القتام أأبا كثير يا فتي الفتيان يا نسل الكرام إني وخالقك العظيم ومنشئ السحب الرهام ما خنت يوما وعدكم الغدر من شيم اللئام بل كنت حبس غريفتي والقلب يضطرم اضطرام مترقبا لمجيئكم كترقب الشهر الحرام آنا أكون بركنها وسويعة وسط الزحام لا أستفيق تساؤلا وتشوقا كالمستهام أين الأحبة أينهم أنسوا المواثيق الجسام؟ أنسوا صديقا صادقا لا يستقر له مقام؟ هذا حقيقة ما جرى وسجيتي صدق الكلام فأعذر أخاك ووفه حق الأخوة والسلام وللدكتور ابراهيم رشيد الحاوي رحمه الله قراءة مستفيضة في رسائل الشيخ المبارك كما أن للدكتور عبدالرزاق حسين دراسة عن شعره يقول فيها: الناظر في شعر الشيخ أحمد بن علي المبارك يجد له بعض القصائد التي قالها في صباه، ولعل مقطوعته في الحمى التي بناها على غرار قصيدة المتنبي في الحمى، تنبئك عن هذا الطموح الشعري، ومع ذلك فهو يفاجئك في نهاية المقطوعة بأن سبب الحمى مغاير لما هو عند المتنبي، يقول: زارت مفتتة العظام وأسرعت في الدب بين جوانح الأعضاء لما رمت مني الضلوع بحرها تركت لرأسي أوفر الأدواء النقد لعل المتتبع لمسيرة المبارك الأدبية يدرك حسه النقدي، كما يدرك أن وراء ذلك رصيدا ضخماً من الثقافة التراثية المتمثلة في حفظه العديد من المطولات من قديم الشعر وحديثه وكذلك حفظه لمقامات الحريري. وفي الحلقات «35 36 37» من سلسلة مقالاته عن «رحلة الأمل والألم» لمحات نقدية جديرة بالعناية حول أدب طه حسين وشعر محمود سامي البارودي وشوقي وحافظ واسماعيل صبري. ورواد الأحدية المباركية يحفظون له عنايته بالناشئة وتوجيههم توجيهاً أدبياً، مصحوباً بدقة الملاحظة والرفق بأصحاب المواهب الجديدة، وهو في ذلك لا ينتهج مدرسة نقدية محددة، ولكنه يعتمد على حسه الأدبي في إدراك مكامن القوة والضعف في القصيدة أو القصة أو غيرهما مما تحفل به الأحدية في أمسياتها المتنوعة الجميلة، وذلك وفق نظرته التراثية للأدب التي تأبى التخلي عن أصالة الشعر وقوته، وترفض محاولات التحديث التي تنحرف بالشعر عن قواعده وأهدافه. التأليف ورغم هذه التجربة العريضة مع الأدب، فإن مؤلفات الشيخ المبارك ظلت مخطوطة حتى الآن، ولم يقدر لها الظهور رغم أهمية المواضيع التي تطرقت لها ومنها: ديوان شعره الذي رتب قصائده حسب موقع قوافيها من الترتيب الهجائي. وهو يضم أكثر من خمسين قصيدة ومقطوعة شعرية. الدولة العثمانية معطياتها وأسباب سقوطها. عبقرية الملك عبدالعزيز رحمه الله . الأحساء ماضيها وحاضرها. الأمثال العامية في الأحساء، ومقارنة بينها وبين الأمثال العامية في البلاد العربية الأخرى وخاصة دول الخليج العربية. رحلة الأمل والألم التي ينشر فصولها في المجلة العربية، منذ ما يقرب من الأربعين شهراً. ولعل ظروف النشر وما يكتنفها من متاعب هي التي حالت دون نشر هذه المؤلفات، خاصة بعد أن تقدم به العمر أطال الله في عمره ولو قيّض الله لهذه المؤلفات ناشراً يكفيه مشقة الإشراف على الطباعة ومتابعة خطواتها المضنية، لقدم للثقافة العربية خدمة جلى، أما قبل تقاعده فقد كان منصرفاً لعمله الذي وإن أتاح له التأليف، فإنه لم يتح له النشر، ومع ذلك فإن من حق القارئ على شيخنا المبارك أن ترى مؤلفاته النور عاجلاً لا آجلاً. الأحدية تظل الأحدية أحد أهم وأبرز الملامح الثقافية في الأحساء بعد أن أصبحت ملتقى المثقفين، إذ إن روادها من الأكاديميين من جامعة الملك فيصل وفرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، والشعراء والأدباء والإعلاميين في الأحساء، يشكلون رصيدها الدائم، وهم على صلة وثيقة بها، لما يجدونه في أجوائها من ألفة ومحبة ونقاش هادئ رزين، وطرح ثقافي متنوع، ويحدثنا الشيخ المبارك عن الأحدية قائلا: (الفكرة في الحقيقة اختمرت في ذهني عندما كنت مداوماً على حضور ندوة المغفور له إن شاء الله الأستاذ عبدالعزيز أحمد الرفاعي، فقد كانت ندوة محبوبة تسعى لها القلوب قبل الأجسام، وكنت من المرتادين لها خصوصاً بعد أن نقلت وزارة الخارجية إلى الرياض وكنت أحافظ عليها ليلة الجمعة «مساء يوم الخميس»، ولكن تاقت نفسي عندما قاربت على الإحالة إلى المعاش أن أبني لي بيتاً في مسقط رأسي في الهفوفبالأحساء، وأن أستقر بين إخواني من أهل الأحساء وأن أساهم معهم في أي شيء من النشاط أكلف به نفسي من أجل النهوض ببلدي، فبعد أن انتهيت من بناء المجلس، وقاربت على الإحالة إلى التقاعد، بدأت هذه الندوة عام 1411ه والتزمت فيها ما لم يلتزمه الأستاذ الرفاعي ولا الأستاذ عبدالمقصود خوجة ولا الدكتور راشد المبارك في الرياض. فقد التزمت أن يكون فيها كل يوم أحد محاضرة متنوعة بعضها في الأدب، وبعضها في التاريخ، وبعضها في الشؤون العامة التي تهم المجتمع وتنهض به في مختلف العلوم، والحمد لله كانت هذه الندوة عامرة بالأساتذة الذين يعتبر الحوار بينهم مدرسة من المدارس الثقافية الرائعة التي يستفيد منها شبابنا، وهذا هو المقصود في إعلانها فهي تساهم في نشر الثقافة جهد الاستطاعة). وعن سياسة الأحدية في التعامل مع من تستضيفهم من الأدباء والشعراء يقول: (نحن لا نتدخل، ولكنهم يعرفون منهجي، وأنني لا أقر التعرض للشعر العربي الموزون المقفى، فإذا قلت الشعر الموزون المقفى فلست أقصد المنظوم فالنظم ليس هو الشعر، إنما الشعر هو الذي يهزك عند سماعه كما يقول الشاعر: إذا الشعر لم يهززك عند سماعه فليس خليقاً أن يقال له شعر فلذلك عرف الجميع رغبتي وحرصي عليه، فلم يستطع أولئك الذين تنكبوا عن هذا المنهج أن يعرضوا بضاعتهم في هذا المكان). أما عن أهم ما يطرح في الأحدية فيقول: ويضيف: (فيما يختص بإتاحة الفرصة للشباب فهذا هو القصد الأول، من أجل أن يميطوا اللثام عما يشعرون به من تشوق إلى ظهور ما لديهم من مواهب أدبية أو قدرات علمية، فهم بذلك يجدون مجالاً للإعراب عما يجول في نفوسهم ويعرضون ما لديهم من أجل أن يمحصه أساتذتهم فيقرون ما كان مستقيماً وجيداً، ويعترضون على ما كان غير موفق في محاولاتهم). الختام واختتم الأستاذ حمد القاضي الندوة بكلمات معبرة قال فيها: وبعد .. ماذا أقول؟ لا أقول سوى: «مضى الليل والحب الذي لك لا يمضي ونجواك أحلى في العيون من الغمض» هذا ما أحسب أن حضور هذه الندوة يرددونه معي. إن عطر الوفاء تضيق به قارورة الوقت، وإن طيب الحرف لا تتسع له دقائق الزمان .. ولكن حسبنا وحسبكم «أن الربيع ببعض العطر يختصر» .. كما قال الشاعر عمر أبو ريشة. ومعكم وعنكم أقدم تحية وفاء لشيخنا الجليل مقرونة بدعاء صادق بأن يمد الله في عمره وحياته ليواصل أداء رسالته عبر أنهار المحبة وجداول الحرف. وشكراً للمهرجان الوطني للتراث والثقافة الذي جمعنا في هذه الليلة للمشاركة وحضور تكريم أحد رموز الثقافة والأدب وأحد علامات حب الوطن. وتحية خاصة لفرسان هذه الندوة الذين جعلوا ألسنتهم وأقلامهم تتدفق عطاء وعرفاناً بجميل هذا الرجل على بلادنا وأهلها وثقافتها. وكل مناسبة وفاء وأنتم بفيض من الخير والسعادة. وأخيراً شكراً لكم على حضوركم المبهج ومشاركاتكم الأكثر إبهاجاً. والى الملتقى على دروب الكلمة والوفاء في وطن المحبة والوفاء.