ما يزال كثيرٌ من المتحمِّسين ينظر إلى الحياة في ظلِّ شرع الله سبحانه وتعالى بمنظارٍ ضيِّق ويحصر أمور الدعوة والإرشاد، والعلم في زوايا حادَّة لا تتفق مع شمولية شرع الله ولا تتناسب مع سعة أفق الالتزام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي تستوعب الكون كلَّه بكل ما فيه من ماديات ومعنويات، ومن مستجدَّات في أمور الناس وحياتهم لا يقف شرعنا الحكيم أمامُها موقف التردُّد والحيرة، وإنما يتعامل معها ويوجِّهها من خلال العلم الصحيح والعلماء المصلحين المخلصين. قال لي في حديثه: كنت مع عددٍ من زملاء الدراسة الجامعية وجرى الحديث عن العلماء وعلمهم ومواقفهم وزهدهم وورعهم واجتهاداتهم فيما يتعلَّق بأمور الحياة العامة ومستجدات العصر، ثم اتجه حديث الزملاء إلى نماذج من العلماء المعاصرين وبدأ التصنيف لهم بطريقة لم أجد في نفسي قبولاً لها، ولكنني حينما طرحت رأيي معارضا اتهمني زملائي بعدم الفهم، بل إن أحدهم اتهمني بانحراف التصُّور الإسلامي. قلت له: كيف كان التصنيف للعلماء وماذا تعني به؟؟. قال: أهم نقطة جرى الحديث فيها «زهد العلماء» حيث أشار المتحدثون إلى أهمية الزهد في الدنيا للعالم الشرعي والفقيه، وأنَّ العلماء مطالبون بالبعد عن متع الحياة الدنيا ولذائذها مظاهرها، وأشار بعضهم إلى رؤيته لبعض العلماء والدُّعاة يركبون سيَّاراتٍ فخمة، ويسكنون بيوتاً حديثة جميلة فسيحة، ويلبسون ملابس يظهر فيها أثر النعمة والثراء، ثم اتجه الحديث إلى عرض سيرة بعض العلماء الزُّهَّاد قديماً وحديثاً وعدُّوهم العلماء الحقيقيين الذين يوثق بهم، وبلغ الأمر ببعض المتحدثين إلى النَّيل من قيمة أيِّ عالمٍ له نصيب من النعمة والثَّراء، وإلى اتِّهام هذا النوع من العلماء والدعاة والمشايخ بسعيهم وراء مظاهر الحياة الدنيا، وبأنهم قد باعوا آخرتهم بدنياهم، وآجلتهم بعاجلتهم. كان الشاب يتحدَّث إليَّ وأنا أعيش بذهني صوراً متعدِّدة لعلماء الأمة المشهود لهم بالخيرية، المعروفين بالإخلاص، وحرصهم على تطبيق شرع الله الصحيح، والذين لا يخافون في الله لومة لائم، ومع ذلك فقد اختلفت طرائق عيشهم، ومستويات معاشهم، فمنهم من كان ذا مظهر وثراء يعرفه الناس وكان ذا هيئةٍ تدلُّ على ما آتاه الله من النعمة، ومنهم من كان مائلاً إلى الاقتصاد في ملبسه ومأكله وعلاقاته بالكبراء والتجَّار وغيرهم من أهل مقامات الدنيا، ومنهم من كان متوسِّطاً في ذلك، ومع ذلك فإنَّ الأمة كلَّها تشهد لهم بالعلم الراسخ، والعمل الصالح، والخيريَّة والإخلاص. نعم صورٌ كثيرة خطرت بذهني، من أبرزها صور الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى فإنهم مثالٌ للتنوُّع المشروع في مظاهر الحياة والتعامل معها، فالإمام أحمد بن حنبل كان معروفاً بميله إلى الزُّهد، والتشدُّد في عدم قبوله لهدايا الأمراء والسلاطين حتى أصبح رحمه الله علماً في هذا الباب، وقد قال للمتوكل حينما لقيه في «سامراء» معتذراً إليه، وطالباً منه العفو عن المعتصم الذي عذَّبه في فتنة القول بخلق القرآن، وعرض عليه أن يقبل منه العطايا والهدايا والأموال، قال له الامام أحمد: ناشدتك الله يا أمير المؤمنين ألاَّ تسومني فتنة الدنيا فإني أخشى على نفسي منها، وقد سامني آباؤك فتنة الدين فأنجاني الله منها يقصد فتنة القول بخلق القرآن . أما الإمام مالك رحمه الله فقد كان معروفاً بحياته المنعَّمة، وبمظهر الثراء عليه في ملبسه ومأكله ومسكنه، وكان يرى أن على السلطان أن يُجري من بيت المال على العالم ما يكفيه مؤونة البحث عن لقمة العيش، وما يُغنيه ويحقِّق له حياةً مستقرة، أما الإمام أبوحنيفة رحمه الله فقد كان تاجراً وله من تجارته ما يُدرُّ عليه أرباحاً ماليَّة جيدة حققت له حياةً هانئة مستقرة ظهرت آثارها في منزله وملبسه ومركبه، والإمام الشافعي رحمه الله كان يعيش حياة مالية متوسطة ولا يتردَّد في قبول الأُعطيات والهدايا التي تأتيه من ولاة الأمر أو غيرهم. وهناك في مصر كان الليث بن سعد رحمه الله صاحب ثراءٍ عريض، وكان إذا أتى الصيف يسيِّر ثلاث سفنٍ إلى الاسكندرية، واحدة له ولضيوفه وطلاَّبه، والثانية لأهله، والثالثة للخدم والطبَّاخين، وكان يبعث بالأموال إلى الامام مالك قبل أن يستغني. ومع ذلك فكل عالمٍ من هؤلاء العلماء كان يزكي الآخر، ويصفه بالفقه والصدق والإخلاص. فأين هذا من هذه النظرة التي حدثني عنها ذلك الشاب عن زملائه وموقفهم من العلماء الذين منَّ الله عليهم بنعمة الحياة الدنيا؟؟ الأرزاق بيد الله سبحانه وتعالى، وإذا رزق الله الإنسان نعمةً ومالاً وجاهاً فإنَّ عليه أن يتقي الله فيما رزقه، ولا يضيره أن يستمتع بما رزق فإنَّ الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده. إنَّ الزُّهد له معنىً واضح في شرعنا الإسلامي الحنيف يتمثَّل في قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ليس الزهد فراغ اليد من الدنيا، ولكنَّ الزُّهد فراغ القلب منها وهذا كما نرى معنى رائع للزُّهد يحدِّد الرؤية الشرعية له. فالزاهد هو الذي لا تطغيه النعمة، ولا تشغله عن طاعة الله والقيام بما يجب عليه نحو دينه وعلمه ومجتمعه وأمته وأقاربه، وهو الذي لا يصبح همُّه كلَّما أصبح وأمسى أنْ يحصل على المال من كل طريق يتهيَّأ له الحصول عليه منها. لقد كان عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه، وكذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه كان ذا ثروة واسعة كبيرة، وكان اثرها واضحاً في حياته، ومع ذلك فهو في الدنيا من الزاهدين، لأنها لا تشغل قلبه عن طاعة ربه، ولا تدفعه إلى طرق الحرام، ولا تجعله متعالياً على الناس. ما أحوجنا وأحوج شبابنا إلى الفهم الصحيح لمعنى التنوُّع المشروع في ديننا حتى لا نحبط أعمالنا بالإساءة إلى العلماء والدعاة وغيرهم من عباد الله الصالحين. إشارة: أنا مسلمٌ لا البغي يعرفني كلاَّ ولا الإخلاد والكسل بي أشغل الباغون أنفسهم