الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. ففي كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من تائه ضال قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. تلك كلمات سطّرها الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - مادحاً أهل العلم وأئمة الهدى بهذه الصفات؛ لأن أهل العلم العاملين والعلماء المخلصين هم حقاً مصابيح الدّجى، ونجوم الهدى الذين بهم يقتدي السائر في دروب العمل ومسالك الزاهدين، فهم ربان سفن النجاة، وهم كواشف الحق لسياسة الدنيا بالدين، ينشرون الفضيلة بالقدوة في القول والعمل إعمالاً في أنفسهم ودلالة وإرشاداً لغيرهم، يقمعون الباطل بحجاج الحق، ويرشدون التائهين والحائرين، وينيرون الدروب للسالكين، بهم تصفو الحياة، وتزكو النفوس. هم في سماء العلم نجومها، وفي الأرض هداتها وحداتها، يخرجون الناس بفضل الله ثم بنور علمهم من الظلمات إلى النور, ويأخذون بأيديهم إلى سبيل الحق وطريق الفوز والسرور، ويرشدونهم - بإذن الله - إلى مرضاة العزيز الغفور، فهم الموقعون عن الله، فحق أن يوصفوا بأفضل الأوصاف وأعلاها وأعظمها وأزكاها، وقد استجمعوا ذلك لأنهم ورثة الأنبياء فقول النبي عليه الصلاة والسلام - كما في سنن الترمذي وغيره -: (إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر).. فحازوا الفضل بقدر ما حملوا من مسؤوليات في الدنيا ومساءلات في الآخرة. ليس ذلك فحسب بل ثناء الله لهم في كتابه غلب كل ثناء، وأجره الذي ادخره لهم فاق كل أجر، كما قال عنهم عز شأنه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}، وقال جل وعلا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}، وقال عز من قائل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}.. وقال سبحانه آمِراً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: {وقل رب زدني علماً}. كما أن أحاديث رسول الله عنهم وفيهم تملأ نفوس السالكين لطريق طلب العلم عزماً وعزاً، من ذلك حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - كما في المسند وغيره قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافرٍ). ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله عنهم: «هم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض من طاعة الآباء والأمهات بنص الكتاب». وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: «الناس أحوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرتين أو ثلاثاً، والعلم يحتاج إليه في كل وقت» اه. ومن هؤلاء العلماء الفضلاء الصلحاء فضيلة الشيخ العالم العابد الزاهد - صالح بن عبد الله الرشيد الفرج، الذي وافاه أجله بعد صلاة الظهر من يوم الأربعاء، بعد أن فرغ من أداء سنة راتبة الظهر البعدية أدّاها كعادته في منزله - رحمه الله - الموافق: 19-6-1436ه، وله من العُمر خمس وثمانون سنة ونيفاً. ولد في مدينة بريدة، في عام 1350ه تقريبًا. نشأ نشأة علمية من صغره حيث تربى في بيت علم وصلاح وديانة، وأستأذن القارئ الكريم أن أورد بعض الحديث عن هذه الأسرة المباركة، فهي أسرة دين وعلم، ورثه الأحفاد عن الآباء والآباء عن الأجداد، فأسرة الرشيد الفرج من أسر بريدة مشهورة بالصلاح والتدين، معروفة بانتسابهم إلى جدهم (فرج)، فهم أسرة (الفرج)، وابنه رشيد الفرج هو مؤذن الجامع الكبير في بريدة توفي عام 1323ه، ثم خلفه ابنه محمد في الأذان ثم توفي - رحمه الله - عام 1367ه، فخلفه ابنه سليمان، وسليمان هذا أدركته مؤذناً للجامع الكبير في بريدة ( جامع خادم الحرمين الشريفين) رجل صالح طيب القلب نقي السريرة - رحمه الله -، وأما الشيخ صالح هذا فوالده عبد الله بن رشيد الفرج، وهو العالم الناسك العابد، وطيف الذكريات يحفظ صورة باهتة لشخصه - رحمه الله - فقد توفي - رحمه الله - عام 1378ه، وأذكر يوم وفاته، فقد كان يوماً مشهوداً اهتزت له البلدة، وحزن الناس لفقده جداً، وأستحضر من صورته بياضها، ومن قامته هيبتها، ومن هيئته وقارها.. وكان مقرباً من الوالد - رحمه الله - يحبه ويأنس به، ويقدّر علمه وصلاحه وحب الناس له، وكان يصحبه في بعض نزهاته، وغلب عليه الزهد والتواضع، وحبه للعلم والحرص على تحصيله، فقد استمر في الطلب وقد جاوز الستين، ولم يرغب أن يجلس للطلاب على الرغم من أهليته الكاملة، وترجع معرفتي بهذه الأسرة لأن منزلهم يقع في الحي الذي نسكن فيه وتجمعنا الصلوات الخمس في الجامع، والشيخ عبد الله ولد عام 1309ه، ويقول معالي الشيخ محمد العبودي - حفظه الله - في معجم أسر بريدة أنه ولد عام 1310ه. جدّ في طلب العلم على المشايخ من آل سليم - رحمه الله - ثم على الوالد - رحمه الله - وتولى إمامة الجامع الكبير وخطابته أكثر من أربعين عاماً إلى أن توفي - رحمه الله -، فاجتمع لهذه الأسرة المباركة الإمامة والأذان للمسجد الجامع الكبير (جامع خادم الحرمين الشريفين). كان الشيخ عبد الله معرضاً عن الدنيا زاهداً فيها، وكان حسن الهيئة بهي الطلعة يحرص على نظافة ملبسه وجمال مظهره، آية في الزهد والسكينة والهدوء والورع والأخلاق الفاضلة، والصفات الحسنة هكذا نعته تلميذه الشيخ صالح البليهي - رحمهما الله -. وعُرف عنه أنه إذا أخذ في الخطابة أو القراءة لم يكد يتمالك نفسه من البكاء فيبكي ويُبكي، هكذا نعته الشيخ إبراهيم العبيد في تاريخه. هذه هي الأسرة المباركة التي عاش فيها الشيخ صالح - رحمه الله - فهو الزاهد ابن الزاهد، والعالم ابن العالم، والصالح ابن الصالح، والناسك ابن الناسك. ويقول معالي الشيخ محمد العبودي وهو مدير المعهد العلمي آنذاك: إن صالحاً التحق بالمعهد العلمي، وكان من الطلاب المجدين، وقد تخرج منه بتفوق، ونال الشهادة الثانوية منه، ولكنه توقف عند ذلك زهداً وورعاً وبعداً عن التعلق بالوظائف خشية الافتتان، هكذا عبّر الشيخ العبودي. وقد تولى إمامة الجامع بعد وفاة والده عام 1378ه، وبقي فيه حتى استقال سنة 1399ه، فتكون إمامته عشرين سنة. هذا ما قاله من ترجم عنه والذي أعرف أن الذي يؤم في الجامع هو الوالد - رحمه الله - إمامة وخطابة، وكان ينيب الشيخ صالحاً في حال غيابه، بل إنني أذكر أنه يرسلني شخصياً، ويقول: بلِّغ الشيخ صالح ليصلي الوقت الفلاني، والذي أذكره أنه يلازم الصف الأول خلف الإمام مباشرة، ويجلس مطأطئاً رأسه لا يكاد يلتفت منشغلاً بالذكر والأوراد والتسبيح والقراءة.. فأبلغه بما قاله الوالد - رحمه الله - ليصلي. وقد عرفت الشيخ صالحاً - رحمه الله - معرفة تامة وإن كان الاتصال به يكاد أن يكون قد انقطع منذ انتقل الوالد - رحمه الله - إلى مكةالمكرمة عام 1384ه، وكنت أراه في حلقة الوالد - رحمه الله - في بريدة في المسجد. لأني كنت أحضر معهم هذه الحلقات بعد صلاة الفجر، وفي الضحى، وبعد صلاة الظهر. والشيخ صالح - رحمه الله - من طلاب الوالد الملازمين، وكان الوالد يحبه ويقدّره ويجله مع أنه لم يكن من كبار الطلاب سناً، وقد تأثر كثيراً بوالده في زهده وورعه وحسن تعبده، وبعد أن انتقل الوالد - رحمه الله - إلى مكةالمكرمة قد حصلت لقاءات متقطعة معه - رحمه الله -، فقد كان يحضر أحياناً في درسي في المسجد الحرام بعد صلاة الفجر، وما أرى ذلك إلا محبة منه وتقديراً، ولعله سرور منه لشدة حبه للوالد وتعلقه به، وكان آخر لقاء قبل ما يقارب سنتين، حيث أكرمني الله بزيارته في بيته فحظيت بالسلام عليه والتحدث إليه، فكان بي حفياً - رحمه الله -، وجمعنا به في مستقر رحمته في جنته جنة عدن مع والدينا ومشايخنا والمسلمين أجمعين.. والمقصود أن الشيخ صالحاً عاش في كنف والده العلاّمة الزاهد عبد الله الرشيد، حيث تأثر بوالده كثيراً في سلوكه وعلمه، مما جعله من طلاب العلم الجادين من أول سيره العلمي، فترقّى في مدارج الطلب، وتوسّع تحصيله العلمي حيث طلب العلم على ثلة من كبارِ العلماء في عصره منهم الشيخ العلاّمة محمد الصالح المطوع، وسماحة الوالد الشيخ عبد الله بن حميد إبان توليه لقضاء بريدة، حيث لازم دروسه في الجامع الكبير ببريدة، ومن مشايخه العالم العلامة صالح الخريصي تغمد الله الجميع بواسع الرحمة. عُرف الشيخ صالح - رحمه الله - بالزهد في أمر الدنيا والحرص على العبادة، فمن مشاهد تعبده حرصه على قيام ثلث الليل الآخر فكان لا ينقطع عنه لا في إقامة ولا سفر، وكانت له غدوة على مائدة القرآن من بعد صلاة الفجر إلى وقت الضحى، ولم يدع الحج لبيت الله إلا بعد ما أعياه المرض وشق عليه السفر، وكان كثير الاعتمار وزيارة بيت الله الحرام، فهو يصوم الهواجر، ويتقلب في الغنيمة الباردة وهو الصيام في الشتاء. ومن مشاهد زهده انقطاعه عن الدنيا لانشغاله بأمور أحب إليه؛ لما تعود على إيمانه بالزيادة، وكان حريصاً على نفع الناس من خلال الرقية التي يبذلها لله طلباً لما أعدّ الله للمحسنين من خلقه. يعرفه الناس بخلقه الكريم، والذي يدرك من تعامل معه وجالسه أثر العبادة عليه، وفي حركته وسكونه، جمع بين العلم والعمل في سمته ومسلكه، امتاز بسلامة الصدر، فهو يصون لسانه ومجلسه من الغيبة والنميمة مستحضراً الوعيد في ذلك الباب، وحرمة المسلمين وأعراضهم. جلس للتعليم في المسجد المجاور لبيته، وخطّ قلمه مدونات، خرج منها كتابه العلمي الماتع (مجمع الفوائد)، وهو كتاب منثور في سطوره فوائد وفرائد علمية انتخبها فضيلته - رحمه الله - من خلال مطالعاته في سير السلف، حيث جمع في مجمع فوائده جملة من مناقب مجموعة من الصحابة، مثل الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن جحش، والمقداد بن عمرو وغيرهم، وذكر - رحمه الله - مجموعة من مناقب وخصال أهل السلف الصالح، وكبار الأئمة والزهاد، مثل إسماعيل الجرجاني، وأبو نعيم صاحب الحلية، وابن منده، والطلمنكي، وسفيان الثوري، وتضمن مجموعة من درر الأقوال، وجميل الحِكم لكبار الأئمة والصالحين، مثل الشافعي، وأبو سليمان الداراني، وعلي بن بكار، وذا النون المصري، والحارث المحاسبي وغيرهم الكثير.. وانتظم هذا المدون في 304 صفحات. وفي الختام، فلقد كان - رحمه الله - أحسبه والله حسيبه، ولا أزكّي على الله أحداً - شيخاً تقياً نقياً خفياً. رحم الله الشيخ صالح بن عبد الله الرشيد، وأسكنه في فسيح جناته، وألهم ذويه الصبر والسلوان، ونفع الله بعلمه وطلابه. د. صالح بن عبد الله بن حميد - إمام وخطيب المسجد الحرام - المستشار بالديوان الملكي