قدم العراق بيانا كاملا بكل الأسلحة المحظورة والمواد ذات الاستخدام المزدوج مدنيا وعسكريا إلى الأممالمتحدة كما طالبه بذلك قرار مجلس الأمن الأخير. وهذا البيان يقع في عدة آلاف من الصفحات باللغتين العربية والإنجليزية وبهذه الخطوة فإن العراق يسير على خيط رفيع جدا بين الحرب والسلام وبين الأممالمتحدةوالولاياتالمتحدةالأمريكية وربما بين الحقيقة والكذب. يقول دافيد ألبرت رئيس معهد العلوم والأمن الدولي في واشنطن إن هذه هي فرصة صدام حسين الأخيرة فإذا اعترف صدام الحسين بأن العراق مازال يتملك أسلحة دمار شامل فسيصبح حشد التأييد الدولي لعملية نزع سلاح العراق بالقوة أكثر صعوبة ويضيف ألبرت إن أحداً لن يتمكن من قصف العراق لأنه قال الحقيقة فيما يتعلق بأسلحة الدمار الشامل لديه ولكن هل يدرك العراق هذه الحقيقة؟ الواقع إن المسؤولين العراقيين يواصلون إنكار وجود أي برامج لأسلحة الدمار الشامل لديهم ولكن الولاياتالمتحدةوبريطانيا تقولان إن مخابراتيهما تؤكدان أن العراق مازال يطور هذه الأسلحة ويضيف ألبرت قائلا : إن العراق إذا أصرت على ترديد قصة عدم وجود أسلحة دمار شامل فهذا يعني من وجهة نظري أن العراقيين يشعرون أن الحرب حتمية. يذكر أن دافيد ألبرت ظل يعمل على مدى أكثر من خمس سنوات بصورة وثيقة مع المفتشين الدوليين على الأسلحة العراقية التابعين للوكالة الدولية للطاقة النووية. وكان العراق قد قدم خلال التسعينيات ثمانية بيانات «كاملة ونهائية» عن أسلحته إلى الأممالمتحدة وفي كل هذه التقارير كان العراق يسعى إلى إخفاء برامجه في مجالات الأسلحة النووية والبيولوجية والكيماوية والصواريخ الباليستية. ويرى بعض المحللين أنه حتى إذا كان العراق مازال لديه بعض من هذه الأسلحة من ترسانته التي تعود إلى ما قبل حرب الخليج الثانية عام 1991 حيث دمر مفتشو الأممالمتحدة حوالي 95% من هذه الترسانة قبل عام 1998 فإن هذه الأسلحة لا تمثل خطرا كبيرا على أحد. يقول مارك سيدويل احد مسؤولي الشرق الأوسط بالحكومة البريطانية أنهم يتوقعون أن يكشف العراق عن هذه البقايا بصورة كاملة وكان سيدويل قد عمل ضمن فرق التفتيش الدولية عام 1997. في الوقت نفسه يقول إن التقرير لن يكون صحيحا مادام العراقيون يصرون على أنه ليس لديهم أي أسلحة للدمار الشامل في نفس الوقت فإن اعتراف العراقيين بأنهم كانوا يكذبون في الماضي سوف يعد التزاما كاملا من جانبهم بقرار مجلس الأمن. وجبل المعلومات الذي أرسله العراق إلى الأممالمتحدة يتضمن كل شيء من مكونات انتاج أسلحة الدمار الشامل إلى قوائم بمصانع البلاستيك العراقية وكذلك قائمة بالمعدات التي يمكن استخدامها في انتاج السموم الكيماوية والبيولوجية وهذا التقرير بمثابة إشارة عراقية إلى رغبتها في الالتزام الكامل بقرار مجلس الأمن أو رفض هذا القرار. وقد بدأ بالفعل الحديث الآن عن مدى إمكانية اعتبار البيان العراقي دليلا على الالتزام بقرار مجلس الأمن أو انه يمثل انتهاكا لهذا القرار بما يسمح لأمريكا بضربه. تقول جوديث كيبر كبيرة المتخصصين في شؤون الشرق الأوسط بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن إن إدارة الرئيس بوش لا تريد أي أخبار جيدة من بغداد. وبالفعل فقد أعرب كل من الرئيس الأمريكي جورج بوش ونائبه ديك تشيني عن توقعاتهما الضئيلة بالنسبة للموقف العراقي، وفي الواقع تشير توقعات الرجلين إلى أن العراق لن يلتزم بقرارات الأممالمتحدة في حين أن سكرتير عام الأممالمتحدة كوفي عنان يقول إنه عندما يلتزم العراقيون بقرارات الأممالمتحدة فسوف تمضي الأمور على ما يرام وهذا ما يحدث بالفعل حتى الآن. في الوقت نفسه يقول الرئيس الأمريكي إن هذا لا يكفي وأن العراقيين مازالوا يخادعون. ويقول دافيد ألبرت إنه سواء قبلت الإدارة الأمريكية البيان العراقي أو رفضته فسوف يصبح من الصعب عليها التحرك للإطاحة بنظام الرئيس العراقي صدام حسين بمفردها لأن التحرك من خلال الأممالمتحدة يضع مسارا محددا لهذه الحركة ولا يمكن الابتعاد عنه بعد ذلك ويضيف إنه إذا التزم العراق بقرارات الأممالمتحدة فلن تتمكن الولاياتالمتحدة من غزوه. وفي الوقت الذي يقول فيه الخبراء إن فحص ومراجعة التقرير العراقي الضخم سوف يستغرق وقتا طويلا بهدف تحديد إطار عمل لعمليات التفتيش على الأسلحة العراقية في المستقبل والتأكد من وقف جميع الأنشطة العراقية لتطوير أسلحة دمار شامل فإن الرئيس العراقي صدام حسين قال في أول تعليق له منذ بدء عمليات التفتيش الجديدة على الأسلحة قال إنه لا يحب الألوان الرمادية وأنه يفضل الأمور إما أبيض أو أسود لذلك فهو يفضل التعامل مع أعدائه على أساس مواقفهم الحقيقية. في الوقت نفسه يقول أعضاء في القيادة العراقية إنه يجب تقديم بعض التنازلات من أجل حماية الشعب العراقي من أي أضرار لذلك فإن السماح للامم المتحدة باستئناف عمليات التفتيش على الأسلحة هو فرصة مناسبة للرد على المزاعم الأمريكية بأن العراق أنتج أسلحة دمار شامل في فترة غياب المفتشين الدوليين عن العراق منذ عام 1998. ويؤكد المسؤولون البريطانيون والأمريكيون تقريبا على رفض التقرير العراقي بغض النظر عن محتواه كما يقول الخبراء في حين ستعتبر فرنسا وروسيا وهما عضوان دائمان أيضا في مجلس الأمن إن التقرير مهما كان محتواه خطوة من جانب العراق في اتجاه الالتزام الكامل بقرارات مجلس الأمن وسيكون المفتشون الدوليون هم الفيصل بين الجانبين. يقول ديمتري بيريكوس رئيس لجنة الأممالمتحدة لمراقبة وتفتيش وتوثيق الأسلحة العراقية المعروفة باسم «اينموفيك» إن الولاياتالمتحدة تريد من المفتشين الدوليين أن يكونوا جادين جدا مع العراق الذي يجب أن يكون واضحا جدا ونحن نعتقد أننا نقوم بعملنا بصورة مناسبة ونحقق نتائج جيدة. في حين اتهم نائب الرئيس العراقي طه ياسين رمضان الأممالمتحدة بإرسال جواسيس للقيام بعمليات التفتيش مهمتهم إيجاد سبب للحرب وإن هؤلاء المفتشين جاؤوا من أجل توفير ظروف ومعلومات أكثر دقة للعدوان القادم مشيرا إلى أن المعلومات التي حصل عليها المفتشون الدوليون في أواخر التسعينيات من القرن الماضي ساعدت في رسم خريطة بأهداف الضربة الأمريكية أثناء عملية «ثعلب الصحراء» التي نفذتها القوات الأمريكية عام 1998. وأضاف رمضان الذي جاءت تصريحاته أثناء استقباله لوفد عربي يزور العراق أن قرار الأممالمتحدة الأخير ممتليء بالألغام وكل لغم أكبر من الآخر والهدف هو انفجار أحد هذه الألغام. من ناحيته يقول ديمتري بيريكوس: لم تقدم أي دولة خدماتها المخابراتية لنا حتى يتمكن المفتشون من الكشف عن أي أسلحة محظورة لدى العراق وإن ما حصل عليه المفتشون الدوليون عبر العمل المخابراتي يختلف تماما عما حصل عليه الرئيس جورج بوش وأضاف إن الناس الذين أرسلونا إلى العراق هم الأممالمتحدة والمجتمع الدولي لذلك فنحن لسنا في خدمة الولاياتالمتحدة وإننا لا نخدم بريطانيا. ويقول حسام محمد أمين مدير هيئة الرقابة العراقية إن التقرير الأخير سيتضمن معلومات هائلة عن مواقع وأنشطة عراقية جديدة تمت خلال فترة غياب المفتشين الدوليين ولكنه يضيف انه لن تكون هناك اي مواد جديدة تتعلق ببرامج أسلحة الدمار الشامل وقد أدت التصريحات العراقية النافية لوجود أي أسلحة دمار شامل رغم تأكيد هذه التصريحات على التزام العراق التام بقرارات الأممالمتحدة إلى إشعال حرب التصريحات مع الولاياتالمتحدة. تقول جوديث كيبر إن هذا هو السلوك العراقي المعتاد فالعراقيون أذكياء ويمكنهم أن يبدوا متعاونين وودودين. ولكن هذا النظام العراقي يجيد الخداع والهرب كما أن العراق دولة مترامية الأطراف لذلك من يدري المدفون تحت رمال صحرائها؟. ورغم ذلك فإن هذا لا يعني أن الحرب حتمية. وتضيف جوديث أن الرئيس الأمريكي يمتلك سلطة إصدار قرار بإرسال شباب وفتيات أمريكا للموت المحتمل في الصحراء العراقية ولكن هل يستطيع أن يفعل ذلك والأممالمتحدة تواصل جهودها لعلاج الأزمة دبلوماسيا؟ وهل يستطيع أن يفعل ذلك إذا لم يكن هناك تهديد فعلي مباشر أو سبب كاف لذلك؟ (*) خدمة كريستيان سيانس مونيتور - خاص ب«الجزيرة»