لم تضع صرخة تلك المرأة المسلمة هدراً، ولم يذهب صدى صوتها أدراج الرياح وهي تردد «وامعتصماه» بل تحرك المعتصم بجيشه الظافر مبادراً، وانطلق إلى عمورية منقذاً، ولسان حاله يردد، أبشري بالنصر والمنعة. هناك في ذلك الموقع المشرف من تاريخنا حيث تشير يد التاريخ البيضاء إلى عام 223ه وتحدد فيه «شهر رمضان المبارك»، كانت موقعة عمورية الشهيرة التي انتصر فيها الخليفة العباسي المعتصم للمسلمين بعد أن غدر بهم الافرنج، وقتلوا منهم، ونهبوا، وأساءوا إلى نساء مسلمات، ومن بينهن تلك التي رفعت صوتها مرددة «وامعتصماه». لم يحل شهر الصيام بين المسلمين وبين الانطلاق لانقاذ اخوانهم في عمورية، ولم يكن لكلام «المنجمين» أثر عند المعتصم، الذي ضرب بما قالوا عرض الحائط، وانطلق بجيشه الظامر لنصرة المرأة المسلمة المستنجدة به في عمورية. تقول روايات التاريخ: إن الروم قد وجدوا في انشغال الدولة العباسية بفتنة «بابك الخرمي» التي اشتعلت في نواحي «همذان» والبلاد المجاورة لها، وأثارت القلاقل والفتن والرعب في قلوب الناس، واستحلت دماءهم، حتى إن بعض المؤرخين أشاروا إلى تجاوز عدد القتلى مائة ألف قتيل من جرَّاء هذه الفتنة العظيمة، وجد الروم الفرصة سانحة أمامهم حيث انشغل الجيش العباسي بالقضاء على فتنة «بابك»، فوجهوا جيوشهم إلى بلاد الشام، وباغتوا المسلمين فيها واستطاعوا الاستيلاء على مواطن منها، وأسروا عدداً غير قليل من المسلمين، وسبوا أعداداً من المسلمات. كان الخبر عنيفاً على قلب المعتصم، لم يستطع معه النوم ولا الهدوء، فأصبح كالأسد الثائر لا يهدأ له بال، وما هي إلا أيام قلائل انطلق خلالها جيش إسلامي قوامه مائة ألف مقاتل يقودهم المعتصم لتأديب الروم واستعادة ما أخذوا من بلاد المسلمين، وانقاذاً السبايا المسلمات اللاتي عبرت عن مأساتهن صرخة إحداهن «وامعتصماه». تحرك الجيش الإسلامي، وتحقق له النصر الكبير - بفضل الله سبحانه وتعالى -، واستطاع أن يفتح «عمورية» مسقط رأس ملك الروم، بعد أن حاصرها شهوراً وكان فتحها في شهر رمضان المبارك عام 223ه، وحسبك بانتصار في شهر عظيم، ترقى فيه النفوس المسلمة، وتقوى فيه العزائم، وتتصل فيه القلوب بخالقها الذي يمنح نصره وتأييده لعباده الصالحين. «كذب المنجمون» الذين أشاروا على المعتصم بالانتظار حتى ينضج التينُّ والعنب حيث يكون النجم نجم نصر وسعد، ولا شك أن اللجوء إلى هؤلاء خطأ كبير من حيث الأصل، فلا مكان للتنجيم والمنجمين في دين الإسلام، ولكن المعتصم صحح هذا الخطأ بعدم الاصغاء لأكاذيب تنجيمهم وأباطيلهم ولذلك، أشار أبو تمام في قصيدته الشهيرة إلى هذا الموقف القوي: السيف أصدق أنباء من الكتب في حدِّه الحد بين الجد واللعب بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك والرِّيَبِ أين الرواية، أم أين النجوم وما صاغوه من زخرفٍ فيها ومن كذبِ تخرُّصاً وأحاديثاً ملفَّقةً ليست بنبعٍ - إذا عُدَّتْ - ولا عَزَبِ يا يوم وقعة عمورية انصرفت عنك المنى حفَّلاً معسولة الحَلَبِ تسعون ألفاً كاّساد الشَّرى نضجت جلودهم قبل نضج التين والعنبِ صورة مشرقة، من تاريخ مشرق، في شهر مبارك مشرق، كم نحتاج إلى أن تتكرر في زمانٍ لا نسمع فيه أصوات المسلمات المستنجدات فقط، ولكننا نرى دموعهن، وجراحهن وأشلاء أبنائهن وآبائهن وأزواجهن، فما من شاشة فضائية ولا صحيفة يومية أو غير يومية إلا وتنشر لنا من تلك الصور ما يدمي القلب، اللهم نصرك وتأييدك. إشارة: لا تعذلي بركاته حزني إنما