منذ نعومة أظفاري واللغة الفصحى تنال من اهتمامي وإعجابي السقف الأعلى فأقف عند كل جميل وبديع منها وقفة تأملية وكلها روائع بديعة تعقبها زفرة تخرج من أعماق نفسي فتردد: ما أروعها. كان يرهقني كثرة الإبحار في شواطئها، لكن هذا الإبحار يستهويني، يسعدني، فأقف مأخوذة بجمال عالمها أردّدُ: إنها البحر.. نعم إنها البحر أنا البحر في أحشائه الدُّر كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي منذ مراحل الدراسة الابتدائية ونحن طلاب وطالبات ومعلمون في كلِّ المراحل والتخصصات نقف ونتغنى بهذا البيت، ونرسل مع كل وقفة طاقة شكر.. لحافظ ابراهيم الشاعر الذي صار لبيته هذا دويُّ هائل في ساحات الأدب والبلاغة، هي البحر.. بعمقه.. هي البحر.. بجواهره، بأسراره، بامتداد آفاقه وإبداع صنعته هي البحر كلما ازددت فيه إبحاراً تشق عباب سطحه وتغوص في أعماقه، وكلما صارعت لججه وأمواجه ازددت عجباً، وأبهرك بما تزخر به أعماقه سحرا، وجديدا، وجمالاً. لذا وأنا في غمرة انشغالي أقلب وريقات طبع عليها من الإبداع ما يستحوذ على لبّ كل ذي عقل سليم، ولاشك في هذا إن قلت لكم قرائي الأكارم إنها إحدى روائع شاعر يعد دعامة وركناً مؤسسا للأدب الإسلامي الملتزم.. للأدب الرفيع الراقي المبتكر، الأدب المتجدد الواعي، والأدب الدَّعوي المصلح النَّاصع.. إنه الشاعر الدكتور: عبدالرحمن بن صالح العشماوي - حفظه الله-. فقد أطلق من محطة شاعريته نجوما مشرقة، لا بل مجرَّة تزخر بالنجوم والكواكب المضيئة، تمتد أطرافها في فضاء اللغة الفصحى تسكب الضياء على جنبات أرضها لتزرع فيها البساتين، وتفتح فيها سبيلاً جديدا أكثر اتساعا، وارف الجنبات مخضرها. لقد لفت انتباهي أمرٌ ما، في تلك الأوراق التي كنت اقرأ.. وهي قصيدة له وفقه الله موسومة بعنوان (هاتف الأستاذ)، وهي أي القصيدة مناجاة شعرية حزينة، وتلويحة وداعٍ تغص بأصدق المشاعر والعبرات المتألمة لذكرى رحيل الاستاذ الشاعر: أحمد فرح عقيلان رحمه الله ؛ هي قصيدة الرقة واضحة فيها، وتبرز بين أعطافها قوة الشاعرية وشفافية الحس، وبراعة التصوير، فقد جاء مولدها في أعقاب سؤال ذات صباح عن هاتف الأستاذ، وما علم السائل أنّ الأستاذ أحمد قد ودَّع الدُّنيا قبل أعوام، فأثار هذا السؤال في نفس العشماوي حزنا ظنَّ أن الأيام قد دفنت بثقلها ومشاغلها بعض علاماته، لكن هيهات أن يسلو قلب دأبه الوفاء. لقد بدأ العشماوي رعاه الله قصيدته بإرسال التحايا للأستاذ الراحل وتلاحظ الرقة، ولطف الكلمات، وايضا استعماله وذكره لبعض الصور والأشياء التي تبعث في النفس الراحة والسرور كالحب، والفل والكادي، والورود والبلابل.. إلى غيرها، غير أني ألمس من وراء هذه الأمور ألماً وحزنا يظهر أثرهما جلياً عندما يبدأ بالتأسف على رحيل أستاذنا وأستاذه الشاعر: أحمد فرح عقيلان رحمه الله ، يقول: يا صباح الخير يا أستاذ أحمد يا صباح الحب والشعر المنضَّدْ يا صباح الذكريات الخضر إني لم أزل في ظلِّها أرضى وأسعدْ يا صباح الفل والكادي ووردٍ كلّما لامسه الطَّل تورَّد ياصباح البلبل الصدَّاح لمَّا غنت الشمس له بالنُّور غرَّد يا صباح الخير لو كان قريباً من سرى في زحمة الليل وأبعدْ يا صباح الخير لو كان مجيباً لندائي ذلك الشَّهم الممجَّدْ ثم طفق العشماوي بعد ذلك يذكر مآثر الأستاذ الذي درَّب الشعر وربَّاه على اللغة الفصحى، وكيف كان هاتفه حقل آداب ومعهد علم، بل ومجلس درس حينما يطلب يعقد، وكم من مهموم وحزين أزال عنه الأستاذ رحمه الله همه وأسعده برقته، ولطفه، وزوَّده بالصَّبر حين نصحه. ثم ذكر العشماوي أنهما سيَّرا منَّهما في طريق واحد، فكيف إنْ فارق الصاحب صاحبه في وسط الطريق وخلَّفه وحيدا إلاَّ من صبره وإيمانه بالله.. يقول: كم بكى مثلي على الأقصى وعانى وعلى اشراقة الماضي تنهدْ كم سقينا العشر حباً ووفاءً وفتحنا بالقوافي كلَّ موصد لم نُغرِّب أو نشرِّق دون وعي شأن من طاوع وهماً وتمرد بل رفعنا هامة الفصحى التزاماً فكلانا طوَّر الفنَّ وجدَّدْ الى آخر أبيات هذه القصيدة، والتي لن يتركها تتفلت من أغوار نفسه دون ان يوشيها وكما عوَّدنا بحكمة لا تزيد قصيده إلا امتاعا، وجمالا، وإبداعاً.. يقول: نحن لم نجزع وكلنا حزنا وسلكنا بالرِّضا الدَّرب الممهَّدْ وعلمنا أنما الدُّنيا رحيلٌ دائم ليس عليها من يخلَّد إنَّ في صورة لحدٍ بعد مهدٍ صورة تبدو لإنسان ممدَّدْ يبدأ الدُّنيا بضعفٍ ثم يقوى ثم يرتدُّ إلى الضَّعف المؤكد ثم يغدو أثرا من بعد عين وحكايات على الأجيال تسردْ أما جوهر مقالي هذا وغايته فهو بين طيات القصيدة، وأرجأته لأهميته أولاً، وثانيا لأني أردت أن أمتع القراء الأكارم بشيء من إبداع هذا الشاعر الذي أعجزُ أكثر الأحيان عن وصفه، وتقف عنده قدراتي منحنية إعجاباً، وإجلالاً. قلت في بداية مقالي، إنا كنَّا ولازلنا نتغنى ببيت (حافظ إبراهيم) الذي وصف اللغة الفصحى بالبحر.. وما أدراك ما البحر؟!! لكن العشماوي باركه الله أتى بإضافة جديدة فزاد على وصف (حافظ ابراهيم) بل وأطلق الوصف من قيده، فحافظ ابراهيم حصرها في البحر ومع هذا أقول أنَّه أجاد وأمتع أيما ابداع، وأمتع الأجيال جيلاً بعد جيل، وسيظلُّ لبيته هذا الوقع العظيم في نفوس الأدباء؛ وإنَّ في صفة البحر وفي ذلك التشبيه من المعاني الجميلة ما لو رمنا جمعه ما أحصيناه بسهولة، فجاءت إضافة العشماوي بارك الله في قلمه فوسعت التشبيه، وأطلقت الوصف من قيده، وحتى لا تبقى الأذهان معلقة بصورة واحدة مهما كانت جميلة كان من الواجب البحث عن الأفضل والجديد.. يقول: لغة القرآن نبعٌ من بيانٍ كل ما فيها على الإبداع يشهد ليست البحر ففي البحر أجاجٌ وغُثاءٌ كلَّما أرغى وأزبدْ ليست الأفق فإن الأفق يشكو من غبار ودخانٍ يتصعَّدْ وتظل اللغة الفصحى معيناً بصفاء ونقاء تتفرَّدْ نعم إنها لغة القرآن الأصيلة فهي ليست كلمات وحروف تتجمع على غير هدى، وغير صواب؟ إنها الأثبت، والأخلد والأسمى، ما دامت إلى القرآن تنسب. وإني هنا لأحني ظهر الإعجاب إجلالاً لشاعر الفصحى الأصيل الدكتور: عبدالرحمن العشماوي لا فضَّ الله فاه وإن في نفسي لألف خاطرة وخاطرة تروح وتغدو، يقف اليراع امامها جامدا ذاهلا، أنى يكتب، وهو كحبَّة الرَّمل أمام طود عظيم شامخ يرسو ثابتاً متأصلاً في أرض اللغة الفصحى. غير أني اعود.. وإلى أبيات اخرى، وقصيدة بارعة الوصف أخرى، هي (ابحار في أعماق الفصحى) لتجدد وتقرر ما ابتدعه في قصيدته (هاتف الأستاذ) وأقول: إن للعشماوي لله درّه أسلوباً مميزا في الوصف، فرغم سهولة الفاظه ورقتها وعذوبتها، إلا أنك تشعر بفخامة المعنى وقوّته إذ يستقر في النفس، وتتحرك له آفاق الذهن، فكأنه يدخلك معه لعالمه رغما عنك، فتحس بما يحس، وتدرك. ما يريد، لتخلد بعد ذلك أبياته في نفسك وهذا برأيي غاية كل شاعر أصيل.. ويكون أصيلاً حقا عندما يصدق، ومع الصدق البراعة والإلهام الموفق، وعن التجربة، يقول لا حرمنا الله روائعه : روضنا ما زال بالخصب نديّاً بكرةً يثمر فينا، وعشيَّا أنبت الفصحى لنا خير نبات فنمت لفظا، وحساً شاعريا وازدهت نصا بلاغيا بديعاً يملأ النفس شعورا أريحياً واحة يستمح الخصب ثراها خصبهُ، يطلب منها النبع ريَّا أيها السائل عنَّا في زمان ذاق فيه الناس بؤساً عولميا من جذور اللغة الفصحى انطلقنا نملأ الدنيا صدى عذبا شجيّاً وبها نتلو كتاب الله غضّا مثلما أنزله الله طريَّا لغةٌ ما سافر الإبداع فيها سفراً، إلا اعادته فتيا ليست البحر، ففي البحر غثاء وهي تعطي ماءَها عذباً نقيَّا درُّها أحلى من الدُّر وأغلى فهي لا تحمل دُرّاً صدفيَّا هي بحرٌ من بيان لم يخالط ماءه ملح ولم يحمل عصيّا لغة اسفر عنها الفجر وجهاً ساحر العينين ريَّاف المحيَّا ولدت في حضن تاريخ عظيم خرجت منه لنا خلقا سويا وختاما أقول: يا كلَّ بليغ وأديب، يا كلَّ محب لهذه اللغة.. هلموا بنا نحتفي ونبارك للغة الاصيلة هذا الباب الفريد، الجديد في سفرها المتجدّد العتيد، ولنسجل هذه الإضافة لشاعرنا الأصيل الدكتور عبدالرحمن العشماوي حفظه الله ورعاه وليعلم الأجيال أن لغتهم عظيمة كريمة ما دامت وما دام لها أبناء يرفعون هاماتهم بها، وينافحون دونها، وليعلموا أن لغة القرآن قد تكون البحر.. لكن أنى للبحر أن يدركها، بل لا يمكن له فهو منها، وهو المالح وأصلها العذوبة والصفاء، والحلاوة، وهو من شرُفَ بالنَّعْتِ لا هي، فلغة القرآن شريفة به، وبكلام الله أولاً ثم لأنها الأعمق والأجل، والأزخر والأفنى.. وستبقى طاهرة باقية إلى أن يبعث الله الأرض وماعليها إن شاء الله. أما الدكتور الشاعر العشماوي بارك الله فيه وحفظه فلا يسعني إلاّ أن اقول أنه أثبت من خلال قصائده ونثرياته، وطوال أعوام وأعوام من العطاء الصادق، أنه مثلُ الابن البار وأنه رجل ذو غيرة واضحة على أمته ولغته التي نزل بها القرآن، وحرَّك بها البيان، ونطق بها شعره، وأنه بلا منازع ذلك النجم المتوهج الذي يحترق، ويحترق فينير ويشق ظلمة الليل مهما كان وقع سوادها، ويأبى إلا أن يكون الاسبق في الخير.. فجزاه الله عنا وعن الأمة خيراً ووفقه للإخلاص والسَّداد.. آمين. وقفة: يا عازف الحرف في عصر قصائده مكسورة الوزن لم تنسب الى نغم حلّق بشعرك لا تنظر إلى شفة مقلوبة شوَّهتها لكنة العجم وارسم لشعرك في الآفاق خارطةً من البيان، ولا تنزل عن القمم ما أنت والشعر إلاّ كالخليل غدا روح الخليلِ ومثل الساق للقدم د. عبدالرحمن العشماوي