قامت القصيدة في العصر الجاهلي ومنذ ذلك الوقت على طريقة معينة وبحور معروفة وهي الطريقة العمودية (الموزونة والمقفاة).. ثم كانت كذلك في عصر صدر الاسلام وبعده في العصر الأموي ثم في العصر العباسي، ولكن في العصر العباسي نلحظ تغيرا وتجديدا واضحا في كتابة القصيدة، فظهرت المربعات والمخمسات وظهرت بعض الأوزان المقلوبة، ثم في العصر الأندلسي ظهرت الموشحات، ولكن من العصر العباسي وحتى الأندلسي وما بعده بقليل نجد ان الإيقاع ما زال موجودا ومازالت هذه القصائد مع ما خامرها من تجديد وتغيير تتمسك بقوة التأثير من ناحية الجرس والإيقاع والموسيقى، إلا ان هذه التغييرات والتجديدات أصبحت نذير شؤم إذا ما تقدمت العصور وزادت التغييرات، وبالفعل جاء العصر الحديث حاملا كماً هائلاً من المتغيرات الغريبة والمبدعة ولعل أكبر وأهم هذه التغييرات والتجديدات والتحديثات هو الشعر الحر (التفعيلة) والذي كان يحمل لواءه السياب ونازك الملائكة وأصبحا ملكي هذا الطريق وقتذاك ومازالا. وربما كانت قصيدة التفعيلة دخيلة من الأدب الاوروبي أو الانجليزي والذي يهتم بالإيقاع والموسيقى الداخلية والصورة القوية الحاضرة وأقول ربما فقط أما قصيدة النثر فأتأكد أنها إملاء غربي. ولست هنا أقول إن قصيدة التفعيلة حين جاءت في العصر الحديث قد خلت من الإيقاع والموسيقى تماما كلا فالسياب يملك سحرا وتأثيرا في قصائده الحرة لا يملكه الكثير من كتاب القصيدة العامودية وتحمل قصيدة التفعيلة عنده إيقاعا عجيبا ساحرا وأقرب مثال قصيدته (أنشودة المطر)، ولكن إيقاع وموسيقى داخليان نوعا ما!! والمحزن حقا أن يتلبس الشاعر أيا كان بمسمى قصيدة التفعيلة لتحسب كما في كمياته وجاءت تخلو من المعاني والأفكار وحتى الموسيقى فجاء بغث على غث، ويا ليته سكت!! ثم نجد أن القائلين به أكثر من القائلين بالشعر العامودي حتى أصبح القائلون بالشعر العامودي يخرجون على استحياء بقصائدهم خشية عتب هؤلاء المحدثين عليهم لعدم مجاراتهم العصر بالتحضر والتماشي والتفاعل مع الحداثة بكل تسليم فكريا وشكليا. ولعلي اتساءل عن قضية الشعر الحر شعر التفعيلة وأطلب حجة في سؤالي، وهو أني أرفض موسيقى قصيدة التفعيلة الخارجية، لأني أقارنها بالفرقة الموسيقية، لنضرب مثلا أن هناك فرقة موسيقية تعزف في أحد المقامات إما مقام النهاوند أو العجم أو السيكا أو الحجاز ولعلنا نفترض أنهم يعزفون على مقام النهاوند وكل الفرقة متناغمة على هذا المقام فجاء أحد أعضاء الفرقة وعزف على مقام السيكا أثناء تأدية فرقته للنهاوند ماذا نقول حينئذ؟!. نجد أن النشاز هو البين لنا، ثم يأتينا مؤدي مقام السيكا ويقول أنا لم أفعل شيئا أنا قلت موسيقى. فأنا اشبه تفاعيل قصيدة (التفعيلة) بهذه القصة الآنفة الذكر، ذلك أنه يأتي مرة تفعيلة من بحر الرجز ثم بعدها تأتي تفعيلة من البحر الوافر فالموسيقى نوعا ما ضعيفة أو معدومة. وبعد التفعيلة أتت طامة كبرى وكان لها ظهور ولكن ليس بقوة ظهور (التفعيلة) وهذه الطامة هي (قصيدة النثر). حقيقة لا أعلم كيف أتحدث عن هذه المنعوتة بقصيدة النثر، لا أعلم هل يجوز لنا نسميها قصيدة، ولا أعلم هل يصح لنا ان نصف قائلها ب (شاعر) كما لا أعلم حتى كيف نقرأها مع الأسف. نجد قصيدة النثر تتصدر الصفحة وتأخذ المكان الأهم ثم نأتي لنطرب أنفسنا بقراءة وجدانيات هذا الناثر فنجد المقالة أكثر اسرا للقلب وتأثيرا منها، نأتي لنفصل كلماتها لنعلم ما المعاني التي تحمله وما الفكرة التي قامت عليها (نثرية) هذا الناثر ولكن دون جدوى، فالكلمات نجدها أول مرة، والفكرة غائبة ولا يمكن للقارىء أن يخرج فكرة قد تكون هي المقصودة ولو على سبيل المثال. ثم نأتي اخيرا نرجو احدا ليغنيها لنا ويلحنها فلربما أثرت بنا بفعل الغناء ولكن للأسف وللمرة الألف فشلت المحاولات كلها، ثم تأتي لتفسر سبب عدم فهمك قصيدة هذا الناثر فتجده قد كتبها لنفسه ليقرأها وحده فقط ومن ثم يكتب سبع مقطوعات نثرية ويخرج أوراقا مطبوعة تأتي على أربع عشرة صفحة لنجد غلاف هذه الوريقات، ديوان فلان بن فلان ونبحث عن عنوان هذا الديوان علنا مجددا في آخر رمق أن نفهم ما يقصده الناثر بأوراقه تلك ولكن مع الأسف لا فهم غيرنا ولا نحن أيضا. قد يقول قائل كلامك غاية في الجور. لأنك لم تفهم طريقة الشعراء في كتابتهم لمثل هذه القصائد هذا امر الأمر الآخر أنك ربما تسير على مذهب المدافعين عن التراث وتمشي في خطوهم ومن الناقمين والمحاربين للحداثة وما بعدها. أقول: هب أني ما زلت في عصر من العصور الماضية ولم أدخل الحداثة وما بعد الحداثة.. أكل قارىء عربي تجزم في مرحلة ما بعد الحداثة ليعلم ويفهم قصائدك وهل هو مسوغ لأن تتهمنا بالتخلف والتأخر لأننا لم ندخل ونتفاعل مثلك في مرحلة ما بعد الحداثة؟! ولعلك تحتج بقولك ان قصيدة النثر إيقاعها وموسيقاها ومعناها داخلي وليس خارجيا ويعتبر عميقا وليس سطحيا.. فأقول لك نحن نبحث عن الأفضل لنبرزه ونظيره وعن المفضول لنحدد مكانه ومكانته.. فوجود الموسيقى الخارجية والداخلية في قصيدة يعتبر أمر أفضل من قصيدة موسيقاها داخلية فقط، ثم إنه ليس كل الناس يعلمون عن الموسيقى الداخلية أو يفهمونها بينما الموسيقى الخارجية قراءة القصيدة بترديد ملحن أمر كافٍ.. وليتها وقفت على الموسيقى ظهورها أو خفائها كلا فالمعاني كذلك مبالغ في عمقها. إن القصيدة حين تنشر ينتهي ارتباطك بها ويجب أن تراعي هذا الأمر، فأنت تكتبها للجمهور، ويجب عليك مراعاة المرحلة التي يعيشها هذا الجمهور. وقولك إني اكتب لنفسي ولفئة معينة لا يبيح لك ولهم أن تزاحموا العامودي الذي غالبا ما يقرأ بسلامة بحجة أنك تكتب لنفسك هنا لا أقول ان القصيدة العامودي قرآن منزل لا يجوز الخروج عليه، ولكن الخروج يكون بطريقة يفهمها العموم والخروج يكون بطريقة مبدعة مبتكرة وليست مأخوذة عن الغير. إني لا آمر ولا أنهى ولكني أسرد شيئا من المعاناة التي يعانيها الكثير من قرائنا.. إلا إذا كانت تكتب هذه المنثورات لأجيال ستقدم وتفهمها فهذا شيء آخر.