تحتدم بين حين وآخر حرب ضروس بين كتاب قصيدة النثر ومن ارتضوا الشكل التفعيلي للقصيدة العربية، بحيث يدّعي كل طرف أن الشكل الشعري الذي يتبناه هو مستقبل القصيدة العربية والصيغة المثلى للكتابة الشعرية التي على الأجيال الشعرية أن تتبناها. فمن دون معانقة ذلك الشكل وعدم التحول عنه لا شعر ولا شعرية، ولا تجدد في الخلق والإبداع! وقد قرأنا في صفحات"الحياة"خلال الأسابيع الماضية تراشقاً على حدود الشكل، وكيلاً للاتهامات بين دعاة قصيدة التفعيلة ومن يدافع عن قصيدة النثر ويعدها الشكل الشعري الوحيد القادر على فتح الآفاق أمام الشعر العربي في الوقت الراهن. هكذا بدا النقاش بين الصديقين رفعت سلام ويوسف ضمرة، أو هكذا فهمت أنا شخصياً من الحبر الكثير الذي أهدر للكلام على أهلية قصيدة النثر واستقبالها في أوساط القراء العرب، والحرب التي شنت ضدها أو أنها ما زالت تشن إلى هذه اللحظة. لكن المراقب للمنحنى البياني الذي اتخذته القصيدة العربية خلال السنوات الستين الماضية، أي منذ نشرت نازك الملائكة قصيدة الكوليرا عام 1947، يدفع إلى عدم التيقن، مهما ادعى دعاة التجديد في الشكل، أن الإبداع في الشعر له علاقة لصيقة في الشكل، أو أن شكل القصيدة يبوئها مرتبة أعلى من سواها من القصائد. إن الشكل نتاج تحولات نوعية في سلسلة متواترة من القصائد التي تطور النوع الشعري وتقذفه في مصهر التغير، والانزياح في أحايين كثيرة عن مساره الذي اختطه على مدار عقود، بل قرون في حالة بعض الآداب، كما حصل مع الشعر العربي الذي ظل طوال ألفي عام شطري الهيئة متواتر الإيقاع. لكن الشاعر الحقيقي الكبير، القادر على تغيير الأشكال وإغناء النوع الشعري بعامة، هو الحكم الفيصل فيما إذا كان العمل الشعري المكتوب بالعمود أو التفعيلة أو النثر هو عمل كبير بالفعل أم لا. وإذا ألقينا نظرة سريعة على تاريخ الشعر العربي منذ الجاهلية حتى هذه اللحظة نجد أن شعراء قلائل في كل عصر استطاعوا أن ينقلوا القصيدة العربية إلى محطات جديدة ويفتحوا أمامها آفاقاً رحبة وسيعة، لكي يتخلصوا مما أسميه الوهن الشكلي أو الإرهاق الجمالي، ويغنوا هذه القصيدة، لا بالإيقاعات فقط، وإنما بالموضوعات والتجارب الوجودية العميقة. هذا ما فعله شاعر كبير مثل بدر شاكر السياب، وشاعر تجريبي كبير مثل أدونيس، كتب شعر تفعيلة وقصيدة نثر. وما فعله أيضاً محمد الماغوط الذي استطاع من خلال قصيدته النثرية أن يزوج الحوشية من الغضب والتمرد والخروج على المجتمع وما هو سائد ومستقر في السياقات السياسية والاجتماعية والأدبية الفكرية. ونحن نعرف أن الماغوط لم يكتب في حياته سطراً شعرياً فيه إيقاع موسيقي واضح. كما أن شاعراً كبيراً مثل محمود درويش يطور، في ما كتبه منذ الستينات وحتى هذه اللحظة، الشعر العربي عبر الإيقاع، مستخدماً الأشكال والأنماط الشعرية المتداولة في تاريخ الشعر العربي، ومن خلال ثقافته الشعرية الموسوعية على صعيد الأدبين العربي والعالمي، ما يجعل القصيدة العربية، وهي قصيدة تفعيلة في حال محمود درويش، ترقى إلى ذرى جديدة، وتضيف إلى الشعر الإيقاعي رصيداً شديد الأهميةپيجعل قصيدة التفعيلة أكثر غنىً من الأشكال الأخرى في القصيدة العربية المعاصرة. إن المعضلة لا تقوم في الشكل أو في طريقة الكتابة أو في التقيد بإيقاعات موسيقية محددة، أو بالتخلص من هذه الإيقاعات وكتابة نثر غير مقيد يستفيد من المنجز الشعري العالمي، أو يعود إلى النثر الصوفي العربي لتأسيس نموذج جديد للكتابة الشعرية العربية. إنها تقيم في النصوص المكتوبة، في ما ينجز من تحويل في جسد القصيدة. المهم ليس النظرية والتصور القَبْلي الذي نضعه للكتابة الشعرية، بل الممارسة والكتابة الشعرية نفسها. فكلما أضاف شاعر قصيدة جديدة إلى الأعمال الشعرية الكبرى فإن النوع الشعري يغتني، مع غضّ النظر عن كون هذه القصيدة ذات إيقاع موسيقي تفعيلي أو غير تفعيلي، أو أنها تكون قد تخففت من الإيقاع كله، مكتفية بعالمها الداخلي وقدرتها على التكثيف واعتصار اللحظة الشعورية التي انطلقت منها، كما يحصل في شكل قصيدة النثر.