التشكيل اللوني في النصوص الشعرية يتجاوز الجماليات الشكلية والنفسية للنص إلى مدلولات اللون الأسطورية والرمزية والدينية والحضارية لثقافات الشعوب من عجم ومن عرب. والعرب تحديداً بلغ من كلفهم بالشعر والنثر أيضاً أن حملوهما كل ما يحتملان من فنون الجمال، ومن ضمنها الألوان. واللون لا يؤثر على قدرة الإنسان على التمييز فقط؛ بل يغير المزاج والأحاسيس ودرجة تلقي النص الأدبي؛ لأن اللون تعبير عن صور الحياة المختلفة وأساليب تعبير الفنان عنها. وجاء القرآن الكريم لأمة عربية خالصة تتعاطى كافة فنون الآداب، وتتمايز فيما بينها بالفصاحة والبيان، فجاءت في القرآن الكريم ستة ألوان هي الأخضر والأصفر والأبيض والأزرق والأسود والأحمر، إضافة إلى وجود ألفاظ أخرى تحمل معاني الألوان من دون لفظها، مثل ألفاظ: أحوى، مدهامتان، وردة كالدهان.. الخ. ويرى الباحثون في علوم الألوان أن نظرية اللون تتجلى في قوله تعالى في سورة فاطر «وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ«. وفي الشعر العربي الجاهلي تراقصت الألوان على معاني القصيدة العربية؛ فاللون الأبيض يظهر بوضوح في الشعر الجاهلي ويقترن كثيراً بجلال الرجل وجمال المرأة ومضاء السيوف ونقاء الدروع في الحروب، وتدور معانيه في سياق الشرف والرفعة ومعاني الخير؛ فهذا زهير بن أبي سلمى يمدح رجلاً: وجاء اللون الأبيض في شعر طَرَفة بن العبد بهذا المعنى حيث يقول: وهذا لبيد بن ربيعة يمدح قومه بلعب القمار: وتغزّل الشعراء الجاهليون بالمرأة البيضاء وهم لا يريدون مجرد اللون، إنما يذهبون به إلى معاني العفة والشرف والكرامة، يقول عمرو بن كلثوم: ونجد هذا المعنى عن امرئ القيس حيث يقول متغزلاً: وبلغ من تفائلهم باللون الأبيض أن وصفوا حتى الناقة به، يقول أحدهم: ويرى عنترة أن سواد البشرة لا يعيق دون ظهر بياض الأفعال والكرم والشجاعة: وعلى النقيض من اللون الأبيض يأتي اللون الأسود رمزاً للكآبة والحزن والأسى، ووصفوا الأكباد الحاقدة بالسود (سود الأكباد)، يقول الأعشى: وسوداء المعاصم عندهم هي المرأة الفقيرة التي اشتد بها الجوع والهزال، فاصطلت بالنار حتى اسود معصماها، يقول عروة بن الورد: ولكن هذا اللون الأسود يتحول إلى رمز للجمال حينما يوصف به شعر المرأة، فامرئ القيس يصف شعره محبوبته فيقول: وفي ذلك يقول عبيد الأبرص: ويأتي اللون الأحمر رمزاً للحب والعاطفة وأحياناً للقوة والمنعة والدم، فعمرو بن كلثوم يمتدح قومه في المغازي بقوله: والأحمر ارتبط عندهم أيضاً باللهو والمرح والزينة، والخمر واللحم والطيب هي الأحامرة الثلاث عند العرب، يقول الأعشى: وربما رمز اللون الأحمر إلى خلفيات العرب الدينية، فهذا الأعشى يذكر القباب الحمر: وسمى النابغة مضر بالحمراء في قوله: فيما يتجلى اللون الأخضر كرمز للحياة والخصب والنماء، فهو لون الطبيعة والتفاؤل، في صحراء قاحلة مجدبة، واللباس الأخضر رمز للترف والنعيم، يقول الأعشى: ويقول النابغة الذبياني واصفاً ملابس الثراء والملوك: كما يقول في موضع آخر: والعرب تصف الأعاجم باللون الأزرق، يقول الأعشى واصفاً ساقي الخمر بالأزيرق: ويصف زهير بن أبي سلمى صفاء الماء بالأزرق؛ حيث يقول: وقد يصف العرب ما يسوؤهم باللون الأزرق، يقول صحار العبدي مشبها عين مذمومة بزرقة الجن: وربما رمز اللون الأزرق عندهم للسلاح وأدوات الحرب، وقد قرنها امرئ القيس بأنياب الغول: وتأتي ألوان الصفرة المشوبة بحمرة من صفا ت الجمال عن العرب، يقول الأعشى: ووصف الأعشى القينة التي تغني لهم، والتي ترتدي ثوباً معطراً بالزعفران الأصفر والمسك: ويقول النابغة في موضع آخر: وقد يأتي الأصفر كناية عن المرض والهزال يقول عبيد الأبرص: وخلاصة القول إن الألوان في الشعر الجاهلي قد تأتي بدلالات ورموز مختلفة بحسب البيئة، وقد تأتي بأسماء أخرى غير أسمائها الصريحة وهذا كثير كالدم للأحمر والزعفران للأصفر والليل للأسوَد والربيع للأخضر وغير ذلك، وقد تأتي مرتبطة بالحيوانات أو بالطبيعة و بالبشر، ولكن تظل رغم كل ذلك رافداً نفسياً وفكريا ورمزيا للأدب، فحديث الألوان هو أجمل ألوان الحديث في الشعر الجاهلي. ** **