المطر مظهر من مظاهر رحمة الله تعالى بخلقه، وله دور مهم في حياة البشر، فهو يعني الحياة والنماء والخصب. وقد ارتبط المطر بذهن العربي الجاهلي الذي يعيش في الصحراء ليس عنده مقومات للحياة إلا الماء الذي ينبت به الزرع، ويحيا به الضرع, ويعيش عليه الخلق، فالشاعر الجاهلي ينظر إلى السماء على أنها مصدر الرزق والحياة، قال الله تعالى: وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ . فالشاعر الجاهلي يتغنى بالمطر في شعره، لأنه قِوام حياته. وسأسوق بعض النماذج كشواهد على ذلك، وأعرج على معنى المطر في القرآن الكريم، لأفرق بين المطر وبين الغيث. (والشعراء في العصر الجاهلي قاموا بتوظيف المطر في موضوعات مختلفة كصورة المرأة والممدوح والمرثي وصورة الحرب والحيوان. و المطر: هو الماء المنسكب من السماء، والمطر ماء السحاب، والجمع أمطار، وأكثر ما يجيء في الشعر، وقد أمطرتهم السماء تمطرهم مطرا، وأمطرتهم: أصابتهم بالمطر.(1) و المطر هو أساس الحياة والخلق والخير والرحمة للعباد، وقد ورد ذكره بكثرة في القرآن الكريم بلفظ الماء والغيث مصدرا للفوائد الكثيرة، قال الله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ . وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ . وقد أكثر العرب من استخدام المطر على الحقيقة في أمثالهم المنوعة، فقالوا لمن عاش في رخاء ورغد فظن أن الناس كلهم في مثل حاله: يحسب الممطور أن كلًا مطر. (2) وقالوا لمن حزن على ما فاته: لا تشم الغيث فقد أودى النقد. (3). وذكر العرب للمطر في أمثالهم نابع من عشقهم له، فهو مبعث الحياة والخصب وبه حصول معايشهم من رعي وسقي وزرع؛ لذلك عرفوا خصائصه وأحواله واستدلوا على نزوله بالرياح وألوان السحب، وأنواع البرق وأصوات الرعد، ونمى لديهم علم كثير وغزير عنه، وقد ورد في كلامهم المنثور والمنظوم ما يشير إلى رسوخ هذا العلم، وعمق هذه المعرفة التي نتجت عن طول تجاربهم اليومية المستمرة..........) (4). يقول الأستاذ منذر الخفاجي : (عندما وصف الشاعر العربي المطر لم يكن وصفه مباشرا دون رؤية عميقة لأسرار الوجود فكان الشاعر يرسم في تصوره للمطر فكرا متحدا وصورا تأملية تصدر عن وحدة التراث والمعتقد، تحكمت في صياغة عباراته. فالشعراء الجاهليون كانوا ينظرون إلى المطر المنثور من السماء بإكبار وتقديس حيث رأوا فيه مادة الحياة التي خلق منها كل شيء كما رأوا فيه سرا خفيا قادرا على قهر الجدب وبعث الخصب والرزق تتلقاه الشفاه الظمأى والصحراء المجدبة بشغف، وقد تتبع الشعراء نزول المطر تتبعا غريبا فراقبوه بدقة ووصفوا برقه اللامع، ورعده القاصف وسحبه الحافلة، ورسموا صورا رائعة لمناظره وهو ينثال كاللؤلؤ من السماء، قال النابغة الذبياني: أ صاح ترى برقا أريك وميضه يضيء سناه عن ركام منضد ويقول أيضا: أرقت وأصحابي قعود بربوة لبرق تلألأ في تهامة لامع ويقول امرؤ القيس: هل تأرقان لبرق بت أرقبه كما تكشف عنها البلق إجلالا وقال عبيد بن الأبرص: يا من لبرق أبيت الليل أرقبه من عارض كبياض الصبح لماح وقد جاء ترقبهم هذا لعظيم أهمية المطر في حياتهم فسلامة تقديرهم لنزول المطر مسألة حياة أو موت، وقد ارتبطت صورة العذاب والنقمة والخوف والقتل بالجدب والمحل والقحل الذي يحيل حياتهم شقاء وعذابا وفقرا وجوعا، فقد ينحبس الغيث سنوات متواليات أو تنفتح أبواب السماء بعد طول ترقب وتسقط الأمطار الغزيرة فتستمر إلى ما شاء الله لها أن تستمر، وقد عني الشعراء بتصوير هجير الصحراء الذي يميت أنفاس الرياح فيترك الناس أشباحا. ويصف علقمة الفحل يوما يسفع فيه سعير الصحراء فيشوي الوجوه ويطبخ لحم النوق: وقد علوت قتود الرجل يسعفني يوم تجيء به الجوزاء مسموم حام كأن أوار النار شاملة دون الثياب ورأس المرء معموم). (5). ولْنًعُدْ إلى تحليل بعض الشواهد الشعرية: يقول النابغة الذبياني: أصاح ترى برقا أريك وميضه يضيء سناه عن ركام منضد يستبشر النابغة خيرا برؤية البرق أملا في هطول المطر، لذلك ينادي صاحبه بحرف النداء الهمزة (للقريب) وكأنه من شدة فرحه لا يصدق ما يراه، فيسأل صاحبه هل ترى برقا أريك وميضه؟....) (هل ترى ما أراه ؟)، وحرف الاستفهام محذوف للعلم به، والاستفهام هنا للإقرار والتأكيد، هل ترى حقيقة ما أرى برقا أريك وميضه : أي بريقه، ضوء ساطع عن ركام من السحاب، منضد : منسق، وهذه كناية لطيفة عن كثيرة ما يحمل هذا السحاب من المطر. قال الله تعالى : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا . وبيت النابغة هذا يدل على الفرح والسرور والبشر برؤية البرق المبشر بهطول المطر لأن فيه حياة وخصباً ونماءً. ويقول أيضا: أرقت وأصحابي قعود بربوة لبرق تلألأ في تهامة لامع انظر إلى كلمة (أرقت) أصابه الأرق وهو امتناع النوم، وهذا يدل على وجود شيء مهم يشغل تفكيره ويقلقه ويؤرقه هو وأصحابه، وهم (قعود) ولم يقل (جلوس)مما يشعر بحالة الترقب والانتظار والقلق وعدم الراحة، وما ذاك إلا لرؤية البرق المبشر بالمطر، لأهميته في حياتهم، بل توقف حياتهم ومعاشهم عليه، (لبرق تلألأ في تهامة لامع)، ذكر بداية الفعل (تلألأ): أي لمع بصيغة الماضي الدالة على الحدوث ثم عاد فأكد بصيغة الاسم (لامع) الذي يدل على الاستمرار والدوام والثبوت. وأنه من شدة فرحه وسروره لم يصدق، رأى البرق لمع، ثم عاود النظر ليتأكد فإذا البرق مسمر في اللمعان، لذلك قال: (لامع). ويقول امرؤ القيس: هل تأرقان لبرق بت أرقبه كما تكشف عنها البلق إجلالا ألاحظ تكرار حالة الأرق والقلق والترقب لرؤية البرق بشيرا بالمطر في بيت امرئ القيس هذا، وهو يسأل صاحبيه هل تأرقان لبرق بت أرقبه، وكأنه كصاحبه يريد من يشاركه حالة الأرق والترقب هذه. وفي هذا البيت تشبيه غريب جميل، حيث لمح ولاحظ امرؤ القيس سواد الليل وارتفاع بياض البرق عليه فشبهه بارتفاع بياض قوائم الفرس إلى فخذيه على سبيل التشبيه التمثيلي وذلك بجامع غلبة البياض على السواد وهذا من علامات البشر والجمال والتفاؤل ونشاهد نفس مشهد الترقب والمبيت في انتظار البرق والمطر عند عبيد بن الأبرص، يقول: يا من لبرق أبيت الليل أرقبه من عارض كبياض الصبح لماح يشبه السحاب المطل ببياض الصبح لماح شديد البياض على سبيل التشبيه بجامع البياض وهذا يشعر بزوال الشك والريبة في قرب نزول المطر. وما حالة الترقب والأرق والقلق لرؤية البرق عند الشعراء إلا أملا ورجاء في هطول المطر لأهميته في حياتهم. وفي هذا السياق دراسة بعنوان : (المطر في الشعر الجاهلي)، د. أنور أبو سويلم، ودراسة بعنوان: (المطر في الشعر الجاهلي حتى نهاية العصر الأموي)، سلامة السويدي. و مكةالمكرمة وهي مسرح للأدب الجاهلي، وكان يقام سوق عكاظ قريبا منها، هي واد غير ذي زرع، شحيحة القطر، أو لنقل قليلة المطر، تندر فيها مصادر المياه. قال الله تعالى - على لسان إبراهيم عليه السلام -: رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . ودلالة المطر في القرآن الكريم تختلف عن دلالته في الشعر الجاهلي أنه للخير والنماء والسعادة والسرور،ولنتأمل استعمالات المطر في القرآن الكريم، والفرق بينه وبين الغيث: لم تستعمل كلمة (المطر) في القرآن الكريم إلا بمعنى العذاب أو الأذى. قال الله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}. وقال تعالى: فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ . أما الماء النازل من السماء ليسقي الأرض والأنعام والناس فاستعملت له ألفاظ غير لفظة المطر، منها الماء:قال الله تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ . ومنها كلمة (الغيث) : قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ . ** ** ** (1) لسان العرب، ابن منظور، مادة مطر (2) مجمع الأمثال، الميداني، ج 2، ص 217. (3) المصدر نفسه، ج 2، ص 225. (4) المطر وتجلياته في شعر امرئ القيس وعبيد بن الأبرص، علي معدلي، محبوبه محمد زاده سيرازي. (5) انظر صورة المطر في الشعر الجاهلي، صحيفة الهدى على الشبكة العنكبوتية.