أربع ملايين زائر ل «موسم الرياض» في أقل من شهر    نونو سانتو يفوز بجائزة مدرب شهر أكتوبر بالدوري الإنجليزي    جازان: إحباط تهريب 200 كغم من القات    ترقية بدر آل سالم إلى المرتبة الثامنة بأمانة جازان    جمعية الدعوة في العالية تنفذ برنامج العمرة    «سدايا» تفتح باب التسجيل في معسكر هندسة البيانات    الأسهم الاسيوية تتراجع مع تحول التركيز إلى التحفيز الصيني    انطلاق «ملتقى القلب» في الرياض.. والصحة: جودة خدمات المرضى عالية    تقرير أممي يفضح إسرائيل: ما يحدث في غزة حرب إبادة    خطيب المسجد النبوي: الغيبة ذكُر أخاك بما يَشِينه وتَعِيبه بما فيه    فرع هيئة الهلال الأحمر بعسير في زيارة ل"بر أبها"    رفع الإيقاف عن 50 مليون متر مربع من أراضي شمال الرياض ومشروع تطوير المربع الجديد    الإتحاد يُعلن تفاصيل إصابة عبدالإله العمري    بطلة عام 2023 تودّع نهائيات رابطة محترفات التنس.. وقمة مرتقبة تجمع سابالينكا بكوكو جوف    نيمار: 3 أخبار كاذبة شاهدتها عني    أمانة الطائف تجهز أكثر من 200 حديقة عامة لاستقبال الزوار في الإجازة    المودة عضواً مراقباً في موتمر COP16 بالرياض    خطيب المسجد الحرام: من صفات أولي الألباب الحميدة صلة الأرحام والإحسان إليهم    في أول قرار لترمب.. المرأة الحديدية تقود موظفي البيت الأبيض    الفرصة لاتزال مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    دراسة صينية: علاقة بين الارتجاع المريئي وضغط الدم    5 طرق للتخلص من النعاس    حسم «الصراعات» وعقد «الصفقات»    «مهاجمون حُراس»    محافظ محايل يبحث تطوير الخدمات المقدمة للمواطنين    شرعيّة الأرض الفلسطينيّة    لحظات ماتعة    محمد آل صبيح ل«عكاظ»: جمعية الثقافة ذاكرة كبرى للإبداع السعودي    فراشة القص.. وأغاني المواويل الشجية لنبتة مريم    جديّة طرح أم كسب نقاط؟    الموسيقى.. عقيدة الشعر    في شعرية المقدمات الروائية    الهايكو رحلة شعرية في ضيافة كرسي الأدب السعودي    ما سطر في صفحات الكتمان    «الدبلوماسية الدولية» تقف عاجزة أمام التصعيد في لبنان    البنك المركزي السعودي يخفّض معدل اتفاقيات إعادة الشراء وإعادة الشراء المعاكس    حديقة ثلجية    متى تدخل الرقابة الذكية إلى مساجدنا؟    الهلال يهدي النصر نقطة    لصوص الثواني !    مهجورة سهواً.. أم حنين للماضي؟    فصل الشتاء.. هل يؤثّر على الساعة البيولوجية وجودة النوم؟    منجم الفيتامينات    أُمّي لا تُشبه إلا نفسها    جودة خدمات ورفاهية    كولر: فترة التوقف فرصة لشفاء المصابين    الأزرق في حضن نيمار    من توثيق الذكريات إلى القصص اليومية    الحرّات البركانية في المدينة.. معالم جيولوجية ولوحات طبيعية    الناس يتحدثون عن الماضي أكثر من المستقبل    قوائم مخصصة في WhatsApp لتنظيم المحادثات    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود اللجنة اللوجستية بغرفة الشرقية    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    التعاطي مع الواقع    ليل عروس الشمال    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحرف العربية من خلال الشعر الجاهلي . الخياطة : لكل قبيلة خياطوها ... وتقنياتها واحدة تقوم على القياس والتفصيل والتسريج
نشر في الحياة يوم 24 - 04 - 2001

بلغ العرب، في القرنين السابقين على الإسلام، درجة من التحضُّر والتأنق في اللباس جعلتهم غير خالصي البداوة حتى في بواديهم، وما جعلهم لا يكتفون باشتمال الثياب اشتمالاً، خلافاً لما ذهب اليه ابن خلدون، بدليل ما ذكره الشعر من أنواع اللباس، وفيه لباس للرجل، ولباس للمرأة، ولباس للصغار والصغيرات، وثياب للحرفيين.
كان عليهم أن يواجهوا مناخاً لم يكن حَرّاً كلُّه، ولم يكن حراً دائماً" فهو أيضاً بارد في الشتاء، بارد في الليل، والاشتمال وحده لا يرد عنهم برداً، والثوب الخفيف لا يقيهم صقيعاً، ونشاطهم اليومي، بما فيه الحروب والغزوات والرعي والتجارة، وسائر وجوه المعاش، يفترض ثياباً "عملية" بلغة جيلنا.
وفي شعر شعرائهم ما يدل على مناخ حار لا يحتمل، يصبح الجمر معه شبيهاً بتراب الصحراء لا العكس، كما يقول أعشى قيس: فهو يصف الصحراء في يوم مشمس فيقول:
ووَدِيَقةٍ شَهْبَاءَ رُدِّيَ
أَكْمُهَا بِسَرَابِهَا
رَكَدَتْ عَلَيْهَا يَوْمَهَا
شمس بِحَرِّ شِهَابِهَا
حتَّى إِذَا مَا أُوقِدَتْ
فَالْجَمْرُ مِثْلُ تُرَابِهَا
هذا التشبيه المقلوب يصور مناخاً صيفياً نهارياً لا يمكن معه ارتداء الثياب السميكة الثقيلة. فماذا عن المناخ الشتوي، وماذا عن مناخ الليل؟. هذا طرفة بن العبد يصفه فلا يملك الباحث إلا أن يتصوَّر ثياباً سميكةً ثقيلة يحتاجها ساكن البادية في انتظار فصل الصيف: يقول طرفة:
وإنَّا إِذَا مَا الغَيْمُ أَمْسى كَأَنَّهُ
سَمَاحِيقُ ثَرْبٍ وهي حَمْرَاءُ حَرْجَفُ
وَجَاءَتْ بِصُرَّادٍ كَأَنَّ صَقِيعَهُ
خِلالَ البُيُوتِ والمَنَازِلِ كُرْسُُفُ
وجَاءَ قَرِيعُ الشَّوْلِ يَرْقُصُ قَلْبَهَا
إلى الدِّفْءِ والرَّاعِي لَهَا مُتَحَرِّفُ
نَرُدُّ العِشَارَ المُنْقِيَاتِ شَظِيُّهَا
إلى الحَيِّ حتَّى يُمْرِعَ المُتَصَيَّفُ.
وإذا كان احتياج أهل البادية الى الخيَّاط والخيَّاطة مردُّه الى حاجتهم لمن يخيط ثيابهم ويرتقها، فإن أهل الحاضرة أكثر احتياجاً لذلك" فالترف يستدعي ما يلائمه من لباس ناعم أنيق، والملوك وحواشيهم أحوج الى الخياطين المهرة، وعمرو بن عامر المعروف بمزيقيا، وهو مزيقيا بن عامر بن ماء السماء، محتاج وحده الى خياط يلازمه بلا انقطاع إن صَحَّ أنه "كان يلبس كلَّ يوم حُلَّةً ثمَّ يمزقها لئلا يلبسها غيره"" ولذلك سمي مزيقيا أنظر ديوان النابغة الذبياني.
ونبَّه ابن خلدون الى أنَّ "تفصيل الثياب وتقديرها وإلحامها بالخياطة لِلِّباس من مذاهب الحضارة". غير أنَّ في شعر الجاهليين ما يخالف قوله الآخر "إن أهل البدو يشتملون الأثواب اشتمالاً"، فهذا الأعشى الكبير يذكر مثلاً أن ممدوحه يقطع أكمام قميصه "حتى لا يعوق يده عن الحركة"، فيقول:
كَحيَّةِ سَلْعٍ مِنَ القَاتِلاَتْ
تَقُدُّ الصَّرَامَةُ عَنْكَ القَمِيصَا.
والقميص ذو الأكام ليس شملة يشتمل بها العربي، بل هو رداء يُخاط خياطةً متينةً يحتاج معها الفارس الى قطع أكمامه يتحرر ما يقيده في القتال.
وبافتراض أنَّ كل قبيلة كان لها خياطوها، يبدو أنَّ الخياطين عرفوا التخصص، ومن ذلك ما نقله ابن منظور عن ابن الاعرابي وهو قوله: "يقال للخياط القراري والفضولي". وأما القراري فالأرجح أنه من يخيط أستار "القّر" وهو من أسماء الهودج، فيما يُرجَّح أن "الفضولي" لقب الخياط الذي يخيط الثياب الفضفاضة، وبينها ثياب رجال كما يفهم من قول علقمة بن عبدة:
مِنْ بَازِلٍ ضُرِبَتْ بِأَبْيَضَ بَاثِرٍ
بِيَدَيْ أَغَرَّ يَجُرُّ فَضْلَ المِئْزَرِ، أو ثياب نساء كما يُفهم من قول أعشى قيس:
ومُسْتَجِيبٍ تَخَالُ الصَّنْجَ يَسْمَعُهُ
إِذَا تُرَجِّعُ فِيهِ القَيْنَةُ الفُضُلُ.
والطريف أنَّ اللغويين لا يكتفون بتسمية الخياط قرارياً وفضولياً: فهو عندهم أيضاً "البِيَطْرُ" و"الشَّاصر"، وإن لم يجمعوا على أنَّ "البِيَطْرَ" الخياط: فالقائلون بذلك استشهدوا قول الشاعر:
بَاتَتْ تُجِيبُ أَدْعَجَ الظَّلامِ
جَيْبَ البِيَطْرِ مِدْرَعَ الهُمَامِ،
ومن خالفهم قال إن الشاعر "صَيَّر البيطار خياطاً كما صُيِّرَ الرجل الحاذق إسكافاً" لسان العرب.
ولقد عرفنا سابقاً أن العرب ربما اطلقوا اسم الحرفيِّ الواحد على حرفيين عدة أو على الحرفيين جميعاً، وأنهم ربما أطلقوا على الحرفيّ الواحد أسماء عدة:
والشاهد أنهم سمُّوا الخياط "الناصح" كما في قول كعب بن زهير:
كَأَنَّ عَلَيْهِ مَنْ قَبَاءٍ بَطَانَةً
تَفَرَّجَ عَنْهَا جَيْبُهَا والمَنَاصِحُ.
مع ملاحظة أن بيت كعب ينفي اقتصار العرب على الاشتمال، فالمناصح هي "الإبر الواحدة منصحة" وهذه آلة خياطة.
وفي المعاجم ما يدل على أنَّ مصطلح "الدَّرز" الشائع في عصرنا كان شائعاً عند العرب الأقدمين: ف"بنو درزة: الخياطون والحاكة" لسان العرب. فماذا عن عدَّة الخياط؟
عدة الخياط
مثل أي حرفي آخر، كانت للحياط عُدَّته، وربما استعمل آلة أشركه فيها غيره، كالمقراض المقص الذي استعمل في جزّ الشعر والصوف وأذناب الخيل، وكان أيضاً من عدة الدبَّاغ والخرَّاز.
والطريف أن يقلَّ ذكر المقراض بلفظه على وجه الحقيقة، وأن يتردد ذكره مجازاً، وأن يلتقي شعراء عدة عند تشبيه اللسان به: فالأعشى الذي شبَّه لسانه بالمقراض ربما وجد المعنى مُتداولاً كما وجدته الخنساء، واستعملته في قولها:
حَدِيدِ السِّنَانِ ذَلِيقِ اللِسَانِ
يُجَازِي المَقَارِضَ أمْثَالَهَا.
وفي المعنى نفسه يستعمل الأعشى مرادفاً للمقراض هو "التميمة"" فيقول:
وإِنْ أدْنُ مِنْكُمْ لا أَكُنْ ذَا تميمةٍ
يُرَى بَيْنَكُمْ مِنْهَا الأَجَالُدِ مُتْعَبا
وهو يعني: "لا أثقب جلدكم باغتيابكم ونهش أعراضكم". والتشبيه بآلات الحرف شائع في شعرهم، قليل وروده على وجه الحقيقة: ولذلك لا يملك الباحث إلاَّ أن يتصور وجه استعمال الآلة من آلاتهم من طريق التخييل الذي يتضمنه التشبيه، ومثله الاستعارة. فهيئة ضمور المقص مثلاً يوحيها تشبيه النابغة الذبياني الخيلَ الضامَرة بالأجلام وهي المقصات، في قوله:
شَوَازِبُ كَالأَجْلاَمِ قَدْ آلَ رَمُّهَا
سَمَاحِيقَ صُفْراً في تَلِيلٍ وفَائِلِ.
وربما أشار الشاعر الى طرفي المقص وانطباقهما وانفتاحهما، كما ينفتح منقار الطير وينطبق، صنيعَ عنترة العبسي في قوله:
حَرَقَ الجَنَاحَ كَأَنَّ لِحْيَيْ رَأْسِهِ
جِلْمَانِ بِالأَخْبَارِ هَشٌّ مُولَعُ.
كذلك استعمل الخياط في الجاهلية الإبرة، ووجه استعمالها معروف، وقد صنعها الحداد كما صنع المقص، وهذا ما يخبرنا إياه عديّ بن زيد، مجازاً إذ يقول واصفاً قلقه وأرقه:
شَئِزٌ جَنْبِي، كَأَنِّي مُهْدَأٌ
جَعَلَ القَيْنُ على الدَّفِّ إِبَرْ.
ومن تشبيههم بالإبر قول زهير بن أبي سلمى:
فِيمَ لَحَتْ إنَّ لَوْمَهَا ذُعُرُ
أَحْمَيْتِ لَوْماً كَأَنَّهُ الإِبَرُ.
ومن أسماء الإبرة عندهم "المِخْيَطَ" و"الخِيَاط": وهذا الثاني يحتمل معنيين في قول المتنخل بن عويمر الهذلي:
كَأَنَّ على صَحَاصِحِهِ رِيَاطاً
مُنَشَّرَةً نُزِعْنَ عَنِ الخِيَاطِ:
والبيت في "جمهرة أشعار العرب" لأبي زيد القرشي، وهو أيضاً من شواهد "لسان العرب" حيث يقول ابن منظور إن الشاعر إما أنه "أراد الخياطة فحذف الهاء، وإما أن تكون لغةً ....والخِيَاط والمِخْيَطُ: ما خِيطَ به، وهما أيضاً الإبرة".
وأما قياسهم الثياب لتقدير الطول والعرض، فاستخدموا فيه الأيدي، ولا سيما عظمة الذراع والشبر كما لا نزال نفعل الى أيامنا هذه: ولننظر في معنى "السبجة" من قول حميد بن ثور في وصف امرأة:
إِنَّ سُلَيْمَى وَاضِحٌ لَبَّاتُهَا
لَيِّنَةُ الأَبْدَانِ مِنْ تَحْتِ السُّبَجْ:
ف"البسج: جمع سبجة، والسُّبجة كالسبيجة: درع عرض بدنه عظمة الذراع، وله كُمُّ صغير تلبسه ربَّات البيوت".
تلك عدة الخياط، بسيطة يدوية، وقد أعانتهم على خياطة ثيابهم وغيرها. فهل كانت تقنيات خياطتهم بسيطة ببساطة هذه العُدّة؟
تقنيات الخياطة
والخياطة في جاهلية العرب لا تختلف عنها في عصورهم التالية: فتقنياتها واحدة تقوم على القياس والتفصيل والتسريج وضمِّ الأجزاء بالخيط والإبرة، وعلى صنع الياقات والجيوب والأكمام والعرى وتركيب الأزرار، وقد راعوا فيها ما هو ثوب للرجل وما هو ثوب للمرأة وما هي ثياب للأطفال: وكل ذلك مذكور في شعر الجاهليين، إما على وجه الحقيقة وإما مجازاً.
والثياب عند العرب طويلة أو قصيرة، وفقاً لمقتضيات التقاليد التي تلزم المرأة الحشمة أو تسمح لها بالتخفف داخل المنزل. وربما لبست المرأة ثوباً غير مخيط، كالشيدارة أو "الأتب"، "وهو بُرْدٌ يُشق ثم تلقيه المرأة في عنقها من غير كُمَّيْنِ ولا جيب، وهو معرب عن الفارسية، أصله هناك شادريان"، وشاهدة قول الأعشى:
إِذَا لَبِسَتْ شَيْدَارَةً ثُمَّ أَبْرَقَتْ
بِمِعْصَمِهَا والشَّمْسُ لَمَّا تَرَجَّلِ.
ونحن نرجّح أن تكون الشيدارة أصل الثوب المعروف في أيامنا باسم "الشادرو".
وكالشيدارة "البقيرة" وهي "ثوب يُشق فليبس بلا أكامم" وشاهدها قول الأعشى أيضاً:
كَتَمَيُّلِ النَّشْوَانِ يَرْفُلُ
في البَقِيرَةِ والإزارهْ.
ومن الثياب التي خاطوها سابغة طويلة "الجلباب"، وقد ذكره الأعشى على سبيل المجاز، فقال يصف امرأة حسناء عظيمة الوركين:
هُرْكُولَةٌ مِثْلُ دِعْصِ الرِّمْلِ أَسْفَلُهَا
مَكْسُوَّةٌ مِنْ جَمَالِ الحُسْنِ جِلْبَابَا.
غير أنهم وصفوا الثوب الطويل غالباً ب"المذيَّل" و"ذي الأذيالِ"، وكثر في شعرهم الحديث عن أنَّ المرأة تجرِّره على الأرض تبختراً أو لتمحو آثارها وآثار صاحبها، كما عرفنا في بيت أمرئ القيس:
خَرَجْتُ بِهَا تَمْشِي تَجُرُّ وَرَاءَنَا
على أَثَرَيْنا ذَيْلَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ.
ومن شواهده أيضاً قول خراشة بن عمرو العبسي يصف بقرة وحشية:
مُلَمَّعَةً بِالشَّأْمِ سُفْعاً خُدُودُهَا
كَأَنَّ عَلَيْهَا سَابِرِيّاً مُذَيَّلاَ،
وقول النابغة الذبياني يصف جواريَ تصطدم أرجلهنَّ بأذيال الثياب الطويلة:
والرَّاكِضَاتِ ذُيُولَ الرَّيْطِ فَانَقَهَا
بَرْدُ الهَوَاجِرِ كَالغِزْلاَنِ بِالْجُرْدِ،
وقريب من هذا قول الأعشى:
والبَغَايَا يَرْكُضْنَ أَكْسِيَةَ الإِضْرِيجِ
والشَّرْعَبِيَّ ذَا الأَذْيَالِ.
وقد يجعل الخياط أذيال الثيوب مهدَّبةً والى هذا يشير علقمة بن عبدة، فيقول مشبهاً البقر بالعذارى:
رَأَيْنَا شِيَاهاً تَرْتَعِينَ خَمِيلَةً
كَمَشْيِ العَذَارَى في المُلاَءِ المُهَدَّب.
تلك شواهد على الثياب الطويلة. وأما الثياب القصيرة فمنها "المحذوف"، وهو "إزار قصير"، وإياه يذكر ساعدة بن جُؤَيَّةَ الهُذَليّ في قوله:
كَحَاشِيَةِ المَحْذُوفِ زَيَّنَ لِيطَهَا
مِنَ النَّبْعِ أَزْرٌ حَاشِكٌ وكَتُومُ.
والظاهر أنهم خصُّوا المرأة السمينة بزيادات في الثوب، سمَّوها الدخارص، وقد ذكرها الأعشى في قوله:
قَوَافِيَ أمْثَالاً يُوَسِّعْنَ جِلْدَهُ
كَمَا زِدْتَ في عَرْضِ القَمِيصِ الدَّخَارِصَا.
والدخارص رُقَعٌ "تُزاد في ثوب أو دلو لتوسعه". ومن الزيادات "البنيقة" وجمعها بنائق، وقد ذكرها طرفة بن العبد مشبهاً الطرق ببنائق القميص فقال:
تَلاَقَى وأَحْيَاناً تَبِينُ كَأَنَّهَا
بَنَائِقُ غُرٌّ في قَمِيصٍ مُقَدَّدِ"
ويفهم من قول أبي زيد القرشيِّ أنَّ الزيادة تكون في أسفل الثوب" فالطرق "تلتقي في أعلاها وتفترق من أسفلها مثل بنائق القميص وهي الدخاريص تضيق من أعلى وتتسع من أسفل "جمهرة أشعار العرب.
وربما كانت الزيادة لِفَاقاً إذا كانت المرأة شديدة السمنة: واللفاق: "ثوبان يلفق أحدهما بالآخر"، كثوبي صاحبة الأعشى التي "لا ثأتزر من عِظَمِ عجيزتها إلا بثوبين"" قال:
فَيَا رُبَّ نَاعِيَةٍ مِنْهُمُ
تَشُدُّ اللِفَاقَ عَلَيْهَا إِزَارَا.
أما التسريج، وهو - كما نعرفه في أيامنا - مرحلة أساسية من مرحل الخياطة، فقد عُرف عند العرب ب"الشَّلْشَلة"، وقيل إنها "خياطة خفيفة" وشاهدها في شعر المخضرمين قول تأبط شراً:
وشِعْبٍ كَشَلِّ الثَّوْبِ شَكْسٍ طَرِيقُهُ
مَجَامِعُ صَوْحَيْهِ نِطَاقٌ مُخَاصِرُ.
وربما كان "الشَّل" كال"بشك"، ومنه: "بشكت الثوب إذا خاطته خياطة متباعدة"، وإن كان من معاني "البشك" أيضاً "الخياطة الرديئة" اللسان.
وقد يخيط الخياط العربي ثوباً من دون أكمام، ومع ذلك لا يكون كالشيدارة والبقيرة السابق ذكرهما، ومن ذلك "الأتب" وهو "ثوب رقيق غير مخيط الجانبين له جيب وليس له كُمَّان"، كثوب صاحبة امرئ القيس في قوله:
مِنَ القَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مِحْوَلٌ
مِنَ الذَّرِّ فَوْقَ الأَتْبِ منها لأثَّرا
وربما خاط الخياط ثياباً للصغار بلا أكمام، كَ "العلقة"، وهي مفرد "عِلَق" و"العلقة": "قميص لا كُمَّين له، يتخذ للصغير"، وهذا شرح بيت الجميح منقذ بن الطمَّاح:
وإِنْ يَكُنْ حَادِثٌ يُخشى فَذُو عِلَقٍ
تَظَلُّ تَزْبُرُهُ مِنْ حَشْيَةٍ الذِّيبِ.
ولكنَّ العرب أكثر ما عُنُوا بالثياب ذات الأكمام، وقد أطلقوا على "الكُمِّ" تسميات شتى أشهرها الردن، وإن أُطلق اللفظ على الكمِّ كلِّه وعلى أجزائه معاً" ف"الردن، بالضمِّ: أصل الكم. يقال: قميص واسع الردن". وقال ابن سِيدَه: "الردن مقدم كُمِّ القميص، وقيل هو أسفله، وقيل: هو الكُمُّ كُلُّه" اللسان. وذِكْرُ الردن في الشعر كثير، ومنه قول جنوب الهذلية في أخيها عمرو ذي الكلب وقد أكله نمران:
المُخْرِجُ الكَاعِبَ الحَسْنَاءَ مُذْعِنَةً
في السَّبْيِ يَنْفَخُ في أَرْدَانِهَا الطِّيبُ.
ومعنى الطيب في الأردان كثير في شعرهم، وهو يطلعنا بذلك على جانب من عادات التطيب عندهم، ومن ذلك قول الأعشى:
بِلَعُوبٍ طَيِّبٍ أَرْدَانُهَا
رَخْصَةُ الأَطْرَافِ كَالرِئْمِ الأَغَنّ،
وفي شرحه أنَّ الردن "مقدم الكُمّ". وواضح من قول جنوب الهذلية وقول الأعشى أنَّ الردن، كالطيب، عنصر من عناصر أناقة المرأة وجمالها: ولذلك يُستنتج أنَّ الردن كان يلقى عناية خاصة من الخياط، الذي ربما جعله من لون يخالف لون الثوب ليكون أظهر وأوضح، كما يفهم من قول النابغة الذبياني ذاكراً ثياب الرجال أيضاً:
يَصُونُونَ أَجْسَاداً قَدِيماً نَعِمُهَا
بخالِصَةِ الأَرْدَانِ خُضْرِ المَنَاكِبِ،
وهذا - في ما يبدو - وصف لثياب أهل الشام في ذلك العصر، وقوله: "بخالصة الأردان" يعني انها "خالصة من لون واحد"، وقوله "خضر المناكب" يعني "أن ثيابهم بيض ومناكبهم خُضر، وهو لباس كان لبسه أهل الشام، كانوا يتخذون ثوباً مخملاً أخضر المنكبين وسائره أبيض، وكان ذلك لباس ملوكهم"، وإن جاء في شرح البيت أيضاً أن قوله "خضر المناكب" إشارةٌ الى ملازمتهم حمل السلاح، "فأثره في مناكب أثوابهم يضرب الى السواد". وربما سمّوا كُمَّ القميص "القُنّ"، وربما سمّوه "يد السربال"، و"يد الدرع" لمجاورته اليد: ومنه قول دوسر بن ذُهيل القرعيّ:
طَوِيلُ يَدِ السربالِ أَغْيَدُ لِلصِّبَا
أَكفُّ على ذِفْرَايَ ذَا خُصَلٍ جَعْدِ.
وقال الأعشى يصف جارية ساقية يتسلَّى الندامى بجس جسدها عبر فُتقٍ في كُمِّهَا:
ورَادِعَةٍ بالمِسْكِ صَفْرَاءَ عِنْدَنَا
لِجَسِّ النَّدَامى في يَدِ الدِّرْعِ مَفْتَقُ.
وكالأكمام تنفي الجيوب نظرية اشتمال العرب الثياب اشتمالاً. والجيوب كثيرة الذكر في الشعر الجاهلي على سبيل الحقيقة أو مجازاً، للدلالة على أناقة المرأة أو للدلالة على التفجٌّع" قال عديُّ بن زيد يصف بكاءه شوقاً ووجداً، وقد بَلَّ دمعُه جيبَ سرباله:
فَيَا لَكَ مِنْ شَوْقٍ وطَائِفِ عَبْرَةٍ
كَسَتْ جَيْبَ سِرْبَالي الى غَيْرِ مَسْعَدِي.
أما بشر بن أبي خازم فيردنا الى الطيب في الجيوب كما لاحظناه في الأردان" والجيوب جيوب نساء بني عامر وقد أسَرهنَّ قوم الشاعر" قال يشبه الاسيراتِ بالدمى:
عَضَارِيُطنَا مُستَحْقبُو البِيضِ كَالدُّمى
مُضَرَّجةً بِالزَّعْفَرَانِ جُيُوبُهَا.
والجيب يُشَقُّ دلالةً على شِدَّة التفجُّع على ميت: قال طرفة بن العبد:
فَإِنْ مُتُّ فَانْعَيْنِي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ
وشُقِّي عَلَيَّ الثَّوْبَ يا ابْنَةَ مَعْبَدِ.
وكعهدنا بخياط عصرنا، جعل الخياط الجاهلي للثوب بطانة، وشاهِدُ ذلك قول أبي زبيد الطائي في امرأة ضَمَّها إليه في ليلة باردة:
نِعْمَتْ بِطَانَةُ يَوْمِ الدَّجْنِ، تَجْعَلُهَا
دُونَ الثِّيَابِ، وقَدْ سَرَّيْتُ أَثْوَابَا.
"أي تجعلها كبطانة الثوب في يوم باردٍ ذي دجن".
كما جعل للثوب عُرَىً، وذِكْرُهَا في الشعر الجاهليِّ كثير، وإن جاء غالباً في صورة مجازية تدلُّ على توثيق العلائق ما بين الناس، وأكثرُ ما يقال: "العروة الوثقى"، كما في قول الحطيئة يصل الإبل:
ولَمْ يَرْعَهَا رَاعٍ رَبِيبٌ ولَمْ تَزَلْ
هي العُرْوَةُ الوُثْقَى لِمَنْ يَسْتَجِيُرهَا:
فهو "يريد انها يُقْرَنُ منها في الحمالات، ويسقى ألبانَها الجيران، فجعلها كالعروة الوثقى التي إليها مفزع الناس إذا هاجت الأرض وانقطع الخصب".
وبتقنيات الخياطة تتضح أكثر طبيعةُ حرفةٍ شاعت في الجاهلية ولم يقتصر جهد محترفيها على صنع الثياب، بل تعدَّاه الى خياطة أستار الهوادج وما بُطنت به الرحال من نسيج.
* باحث في شؤون التراث الشعبي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.