عندما غرَّد المثقف الكبير الأستاذ الدكتور سعد البازعي - يوم الأحد 23 رجب 1424ه - عن وجود كتابه «هجرة المفاهيم: قراءات في تحولات الثقافة» في مكتبة جرير، بادرت بإرسال غلاف العنوان إلى مجموعات (الواتس) التي تهتم بالمنتج الثقافي وما يطرحه المثقفون، ثم جاءني تعقيب مباشر وسريع من الصديق والزميل الأستاذ الدكتور راشد العبد الكريم الذي أشار إلى وجود كتاب (قد) يتقاطع مع المنتج الجديد وهو «أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله» لمؤلفه عمر كوش؛ حيث أشار إلى تقارب العنوانين. هذا التعقيب، وقبله وبعده كثير من العطاءات العلمية المتنوِّعة والمتدفقة دفعتني للكتابة عن شخصية علمية رزينة ومتجددة، وهو أخونا د. راشد العبد الكريم (أبو محمد) الذي التقيته عام 1998م، في مدينة أثينز حين حضر إليها لمواصلة الدراسات العليا في المناهج وطرائق التدريس في كلية التربية بجامعة أوهايو. حضر صاحبنا مبتعثاً من وزارة التعليم التي أخذت على عاتقها تلك السنوات التزوّد بالكفاءات العلمية من خلال ابتعاث المتميزين من منسوبيها، فغادر (أبو محمد) وحلّق في السماء عالياً ليصل إلى جامعة أوهايو ثم يستمر تحليقه عالياً في سماء تلك الجامعة ينتقل من قاعة إلى أخرى متأبطاً طلاقته باللغة الإنجليزية لحصوله على البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من كلية التربية بجامعة الملك سعود عام 1408ه. بقي (أبو محمد) يواصل سيره ومسيرته في الدراسة بهدوئه المعتاد الذي يعد جزءاً من شخصيته إلى يومنا هذا، كما أنه كان يسجّل حضوره اللافت في اللقاءات الاجتماعية والثقافية والعلمية في مقر نادي الطلبة السعوديين حين يلتقي المبتعثون فيه نهاية عطلة الأسبوع، فبرز نجمه متحدثاً لبقاً ومناقشاً عميقاً، ويسند كل ذلك تواضع جميل مع قراءات متنوعة في تخصصه الدقيق (المناهج) وفي العلوم والمعارف الأخرى، وكان من أبرز الأشياء التي لفتت نظري وتحمد لأخينا (أبو محمد) وهو المتخصص باللغة الإنجليزية والمحاضر بها أنه كان مجيداً للغة العربية متذوقاً لها حريصاً على تطبيق قواعدها نطقاً وكتابة ومعتزاً بذلك كثيرا. بقينا سوياً مع زملائنا المبتعثين في تلك السنوات نلتقي أحياناً وتتفرق بنا السبل كثيراً، فكل منا يحمل حقيبته ومعها يحمل همومه الدراسية، وكان صاحبنا يقف على مسافة واحدة من الزملاء والأصدقاء والدارسين، وبعد ذلك يسر الله الانتهاء والحصول على درجة الدكتوراه، فعدنا جميعاً إلى أرض الوطن لمواصلة الإسهام في منظومة العمل التربوي والتعليمي، حيث استقر د. راشد في وزارة التعليم ليكون أحد وأبرز قياداتها في الإشراف التربوي والمناهج (مدير عام الإشراف التربوي بوزارة التربية والتعليم 1426 - 1428 ، وعضو مجلس التعليم في منطقة الرياض 1430ه)، وفي الوقت نفسه يشارك في المؤتمرات والملتقيات العلمية المتخصصة مكرساً كل وقته وجهده للعطاء، ثم يقرر الانتقال إلى جامعة الملك سعود؛ ليكون أحد أعضاء هيئة التدريس في قسم المناهج بكلية التربية - إلى ساعة كتابة هذه الحروف - فيواصل ركضه أستاذاً متميزاً يعطي بسخاء لطلابه كما يعطي بتفان للمجتمع العلمي والأكاديمي؛ إذ أصبح رئيس الجمعية السعودية للعلوم التربوية والنفسية (جستن) لدورتين (1428 - 1434ه)، كما نشر أبحاثاً متعددة وأسهم بالترجمة إلى اللغة العربية، بالإضافة إلى إصداره الكتاب المتميز (البحث النوعي في التربية)، حيث حظي بقبول كبير بين أوساط الباحثين والمهتمين، وحصل به على جائزة وزارة الثقافة والإعلام للكتاب لعام 2013 م، ولم يتوقف صاحبنا عند ذلك، بل واصل مشاركاته الثقافية من خلال الندوات والمحاضرات في معرض الكتاب عن القراءة، وأصدر كتابه (كيف تؤلف كتاباً؟) ، وبقي معتزاً باللغة العربية؛ إذ دائماً ما يحدثني عن الأخطاء السهلة التي تصدر من بعض كتاب الصحف متعجباً من التساهل بها، وداعياً إلى الاهتمام بتعليم القراءة والكتابة للنشء بأسلوب مشوق. ربما يعرف كثير من القراء كثيراً مما ذكرت عن صاحبنا، لكن الذي لا يعرفونه وقد لحظته أثناء مزاملتي له في البعثة وأثناء اللقاءات المتكررة مع الزملاء عبر أكثر ما يزيد على عقدين من الزمن، أن أبا محمد يتحلى بصفة (الهدوء) اللافت، فهو لا يتحدث كثيراً مع معلوماته الوفيرة في موضوع الحديث، وإذا داخل في نقاش يكون بقدر ما يتطلبه الموقف دون الإسهاب، ولربما حضر جلسة كاملة دون أن يشارك. ولعل الجميع تابع المناظرة بينه وبين الأستاذ الدكتور عبد الله الغذامي التي اتسمت بالعلمية والجدية والاحترام والرزانة من الطرفين. كما أنه يمتاز باطلاعه وشغفه الكبير بالقراءة الحرة في مجالات متنوعة، ولعل من أبرزها اهتمامه الكبير بابن تيمية - رحمه الله - إذ أصدر كتابه (مع ابن تيمية: حوارات فكرية)، بالإضافة إلى اهتمامه بالفلسفة، ومشاركاته المتعددة في وسائل التواصل الاجتماعي فيما يحقق مصلحة لطلاب الدراسات العليا والمجتمع العلمي والأكاديمي، وعندما ناقشته قريباً حول برنامج (كلوب هاوس)، بادرني باهتمامه للتواصل والنقاش مع طلاب الدراسات العليا حول كثير من القضايا والاستفسارات البحثية. تضيق المساحة عن المواصلة، لكنني أستطيع أن أقول دون تردد: إن الدكتور راشد بن حسين العبد الكريم أستاذ جامعي بامتياز، ورجل علم وثقافة لا يضن بما لديه، بل يبادر ويناقش دون جدال لا يجدي في موضوعات متنوعة. وتبقى صفته البارزة منافحته عن اللغة العربية واعتزازه بها وإجادته لها، وهو المتخصص الذي درس اللغة الإنجليزية ودرّسها واهتم بها. ( القراءة مفاتيح)