عن الجن وعلاقتهم المزعومة بالشعر والشعراء يتجدد الحديث وتتعدد مشارب القول، لا يخلو ذلك من متعة التأمل وسبر غور الروايات والتطلع لما وراء قصصهم كمعرفة ورؤية تفصل وترغب وتؤكد أو تنفي وفق مقتضيات السماع والعقل. من عجائب ما قيل هو اتهام الجن بقتل البشر وتوثيقهم لهذا القتل بقول الشعر، ليتوارثه الرواة وينشرونه على أنه حقيقة وليتم تصديقه متبوعاً بعبارة الله أعلم، كما ورد في قصة حرب ابن أمية ابن عبد مناف. قيل إن حرب ابن أمية أرسل رجلين لقتل تاجرٍ يهودي ينافسه في التجارة فاتهم به وأنكر ذلك ولم يستطيعوا إثبات ذلك عليه، وبعد مدة قصيرة أشيع أن الجن قتلت أمية بن حرب ودفنته في مكان غير معلوم فقالت الجن في ذلك شعراً يذكر إلى اليوم. ومفاد نسبة البيت للجن هو الإعجاز في تكرار قوله لمرات عديدة متتالية دون خطأ. لكن هذا الإعجاز ليس بالضرورة أن يكون من الجن بل إن العرب لديهم أساليب عجيبة في تركيب الألفاظ المتشابهة. ولا يستبعد أن يكون اليهود قد أخذوا بثأرهم من حرب بن أمية ونسبوا ذلك للجن. ومن الأسباب الأخرى لنسبة بعض الشعر للجن: الإبهار في تركيب المعاني والألفاظ وعدم قدرة العقل البشري على إدراك بعض الإيحاءات ولذلك يذهب التفسير للجن وليس لقدرة الشاعر وموهبته. ومن الأسباب معرفة الشاعر الفائقة لأحوال الناس واطلاعه على بعض الأسرار التي لا يعلمها أحد بطريق المصادفة أو الذاكرة القوية، فتخرج في شعره كمعلومة جديدة ومفاجئة للناس ليتخيلوا أن معه جنا يخبرونه بذلك. غير أن هذا لا يعني إنكار الجن وعدم وجودهم وإعجابهم بجمال الكلام. الجن حقيقة أقرها القرآن الكريم قال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} (1) سورة الجن غير أن هذا الدليل الواضح على وجود الجن لا يعني أن لهم علاقة بالشعر أو يؤكد تبنيهم لشعراء معلومين تفاخروا بالجن أو ذكروهم. ولو نظرنا لشعر النساء لوجدنا أنه لم يرد عن شواعر العرب مثل الخنساء وليلى الأخيلية مصاحبة الجن أو ادعاء أحد بذلك. كما أن هناك شعراء خلدهم التأريخ لم يدعوا الجن وليس لهم خلطاء منهم أو من يقرض لهم معلقاتهم. ولو توسعنا أكثر وأبعد من الشعر لوجدنا في مجالات أخرى نوابغ وعباقرةً اخترقوا إمكانية البشر. والعبقري هنا ليس من عبقر الجن ولكن من عبقر الحسن والإتقان (عبقري حسان) كما ورد في القرآن الكريم. أو وصف النبي عليه الصلاة والسلام لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال عنه في الحديث الشريف: فلم أر عبقرياً يفري فرية. وبالتأكيد فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يقصد الجن أو رئيسهم وإنما يقصد عقلية عمر المتفردة. وخلاصة الأمر أن الجن قد حملوا أكثر مما ينبغي إذ لا علاقة لهم من بعيد ولا من قريب بقصائد الشعراء ومعلقاتهم وتجلياتهم، وإنما هو وهم خالط بعض الشعراء فهلوسوا به وتبنوه شعراً. هذا من جهة ومن جهة أخرى فهو التباس ترسخ من صناعة الرواة وتخيل المتخيلين. ** **