كتبت في مقال الأسبوع الماضي عن موضوع «الإنس لا يمكنهم رؤية الجن»، وفي مقال هذا الأسبوع نستكمل الكتابة حول الموضوع نفسه. من المعروف أن سكان الجزيرة العربية قبل الإسلام، من أهل الكتاب اليهود، والنصارى، والمشركين من العرب، أولاد سام وحام، كانوا يعتقدون في وجود الجن وأثره على الإنسان من مكروه ومرغوب، إذ كان الموهوبون، كالشعراء، يعتقد أن بهم جناً وهو الذي يلهمهم قول البديع من الشعر، وكان لكل شاعر شيطان ارتبط باسمه. وكانوا يستعينون بالجن في إحداث الضر والخير ومعرفة المجهول، أما «وادي عبقر» فكان وادياً في الجزيرة العربية كان يعتقد أن الجن تسكنه، وكلمة عبقري مشتقة من ذلك الاسم. لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله الصحيحة وصف تفصيلي لشكل الجن، ومساكنهم، أو شكل عيشهم، وهل لهم مدن وقرى كالحال عند البشر؟ أم أنهم يعيشون في البراري والفيافي؟ أم هم مختلطون بالبشر في بيوتهم ومساكنهم؟ بل لقد أكد سبحانه وتعالى في كتابه العزيز أن الإنسان لا يمكنه رؤية الجن في قوله تعالى: (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم)، يقول الطبري في تفسير هذه الآية: «يعني صنفه وجنسه الذي هو منه، واحد جمعه قُبل، وهم الجن، أي أن كل من يقول بأنه رأى الجن عيناً، يكون قد افترى على الله تعالى الكذب، واجترأ على كتابه العزيز. حديث أبي ثعلبة الخشني، عن وصفهم، أن رسول الله قال: «الجن ثلاثة أصناف: صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء، وصنف حيات، وصنف يحلون ويظعنون» حديث ضعيف لا يعتد به، أما حقيقة دعوة الإنس والجن إلى الإسلام التي ورد ذكرها في «الصحيحين» فهذه كانت خاصة في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم. إن عالم الجن والشياطين عالم غيبي، لا نراه ولا نسمعه، إلا أن الكثيرين أطلقوا مخيلتهم في رسمه وتصويره، فصوره غالبيتهم على أنه عالم الرعب والأهوال، وجحده آخرون، وأنكروا وجوده، وما بيّنه القرآن الكريم والسنة الصحيحة فهما الجديران بذلك، وما عداهما فهو ضرب من الخيال، أو نوع من الكذب، أو تجربة جزئية لا ترقى إلى الحقائق التي يعتمد عليها. وقد ثبت عن النبي أنه قال: «من أتى كاهناً فصدقه بما قال فقد كفر بما أنزل على محمد». ونحن نرى أن أغلب الكهنة، هذه الأيام، هم السحرة وأقرانهم، الذين يعملون على تسخير الجن. إن الاعتقاد السائد لدى عامة الناس، ونسبة غالبة من علماء الدين الإسلامي، هو أن المريض النفسي متلبس بالجن، أي يسكنه جن أو شيطان، أو على الأقل تحت تأثير السحر أو العين أو الحسد، وقد ساعدت وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمشاهدة، في دعم هذا الاعتقاد بإفساحها المجال لمن يؤمنون بهذا الاعتقاد لإبداء آرائهم بقوة، مدعمين هذه الآراء بآيات قرآنية، وأحاديث نبوية، وروايات عن النبي. يذكر أن هنالك عدداً ليس بالقليل من علماء المسلمين لا يؤيدون الاعتقاد بدخول الجن بدن المريض، إلا أنهم يحجمون عن إبداء آرائهم خوفاً من نعتهم بالكفر أو الزندقة. وبسبب هذا الاعتقاد السائد فإن هنالك أعداداً كبيرة من المرضى النفسيين يقصدون الشيوخ والمطوعين الذين اشتهروا بعلاج التلبس، وإزالة أثر السحر والعين والحسد، ويدفعون أموالاً طائلة توقعاً للشفاء بأساليب متنوعة اشتهر بها هؤلاء المعالجون. قضية الجن والصرع والمس مفاهيم غامضة ملتبسة يستعصي على الإنسان العادي فك رموزها أو فهمها، ومنذ عهد سيدنا سليمان لا يوجد تلبس من الجن للإنس، ولا سيطرة على الإنس، ومن يعتقد في ذلك إنما يعتقد في الكذب والتدجيل، وهذه الأمور دائماً تلقى صدى لدى الجُهّل البسطاء، والعوام الذين يعتقدون في السحر والأساطير والطلاسم، وعلى العلماء التصدي لمثل هذه الخرافات التي تشغل المسلم بأمور لم يقتنع بها العقل والمنطق. هناك فرق بين الصرع ومس الجن، فقد فصلّت البحوث العلمية المتخصصة في الموضوع، سواء على المستوى الشرعي أو الطبي، بين المرضين: مرض المس مرض نفسي صرف، ومرض الصرع من حيث هو مرض عضوي، وقد نبه العلماء في هذا الشأن إلى بعض العلاقات والروابط الرفيعة التي تجمع بين المرضين. إن الجن لا يمس الإنس، ولا يصرعه، ولا يتخبطه، ولا يتحاور معه، ولا يصاحبه، ولا يتزوجه، ولا يمكن للجني الدخول في جسم الإنسان، لأن مادة خلقه من النار ومادة خلق الإنسان من الطين، ولو كان يصح رؤية بعضهم بعضاً لما فرّق الله تعالى في مادة خلقهم، وإن معنى تفسير الآية الكريمة (كما يقوم الذي يتخبط الشيطان من المس)، التي يستشهد بها بعض العلماء، إنما هو معنى مجازي، أو تورية، وليس المقصود بها المعنى الظاهري، وما قال به بعض أهل العلم في هذا الموضوع هو اجتهاد محض يُلزمهم ولا يُلزم غيرهم من المسلمين. إن تفسير التغيرات العضوية التي تطرأ على الممسوس أو المسحور صنفتها بعض الأبحاث العلمية المعاصرة ضمن أمراض الاضطرابات التفككية، التي تشمل اضطرابات نفسية تظهر عند المريض كرد فعل تجاه صدمة نفسية، أو إن شئنا القول: إنها نوع من الهروب من مواجهة مشكلات وأزمات نفسية مستعصية لا علاقة للجن بها على الإطلاق، وإنما المتسبب فيها هو الإنسان، ويشير الباحثون في هذا المجال إلى أن مرض الاضطرابات التفككية متميز بالتلون، فأعراضه مختلفة ومتغيرة، مما قد يؤدي إلى الخلط في التشخيص، وهذا ما يعني أن المريض يعيش حياة مثقلة مثخنة بجروح الصراع والعناء النفسيين. وإن حقيقة الأصوات التي تصدر عن الممسوس التي يصدرها الجني مخاطباُ المعالج، مثلاً، كأن تتحدث امرأة بصوت رجل وغيره، فما يقع بين المعالج الذي يظن نفسه أنه يعالج المس أو الصرع بالقرآن الكريم أو غيره والمريض الممسوس، إنما هو نوع من الإيحاء الاستجوابي، الذي يُعرف عند العلماء الباحثين في العلوم النفسية والطبية بأنه المدى الذي يتقبل فيه الأشخاص في أثناء التفاعل الاجتماعي المحدود والمغلق، والرسائل التي يوصلها إليهم أشخاص ذوو مكانة خاصة خلال الاستجواب الإيحائي، مما يؤثر في نفسية الأفراد الممسوسين. وحقيقة الأمر أن هذا الكلام ليس للجني وإنما هو للمريض نفسه الذي يكون تحت تأثير التنويم الإيحائي الذي يُظهر بعض محتويات عقله الباطن، وهذا ما يفسر لنا تغيّر صوت الممسوس في أثناء الحوار بتغير حباله الصوتية، أو حديثه بكلام غير مفهوم، أو نطقه ببضع كلمات، أو جمل بلغات أجنبية يجهلها، وهذا كله وغيره يوضح لنا أن عقله الباطن احتفظ بأشياء متعددة، فأخرجها في هذا الحوار نتيجة عملية التنويم الإيحائي والضغط النفسي. أخيراً هناك فرق بين أن يؤمن المسلم بأن الجن خلق من خلق الله تعالى كما ورد في كتابه العزيز، وبين أن يعتقد برؤية الإنس للجن، فهذه الأخيرة لا تلزم المسلم بأي حال من الأحوال، بل إن التفكير في الجن والاعتقاد في قدرتهم الخارقة يؤدي إلى الجنون، وربما يؤدي شيئاً فشيئاً إلى عبادتهم، وتاريخ عبادة الجن مشهور معلوم، إذ في القرن الثامن الميلادي اكتشفت مخطوطة تسمى «الكتاب الأسود» تنص بعض فقراته على عبادة الجن وتحضير الأرواح باستخدام الجن، ومن هذا الكتاب شكل أنطون لافاي أول منظمة في التاريخ لعبادة الجن في الولاياتالمتحدة الأميركية، وكان شعارها مقتبس من غلاف كتاب «الماسونية» لأزولدويرث عام 1931، الذي يتضمن نجمة خماسية مقلوبة في وسطها رأس جدي، مكتوب أسفله باللغة العبرية «العفريت». ولا يزال هناك بعض القبائل من الطائفة اليزيدية في كردستان تعبد الجن، وتقيم لهم طقوس الأفراح وواجب الولاء. * باحث في الشؤون الإسلامية