خلاصة ما ورد في المقال السابق هو: أن الأسطورة نابعة من الواقع؛ وأبطالها آلهة فقط؛ لأن انعدام المعرفة جعل البشر عاجزين عن التفسير والتغيير. ومع الاكتشافات الأولى لقدرة الإنسان على التغيير؛ ظهرت «الملحمة»؛ التي تشير إلى أن «جلجامش» حملت به أمه في المعبد؛ فهو نصف بشر ونصف إله.. وهنا تشير «الملحمة» إلى بداية النشاط البشري في التغيير وتسخير الطبيعة؛ وذلك بالعمل الجماعي؛ أو بالزراعة وتدجين الحيوانات في البداية؛ أي ما يسميه علم الاجتماع الحالي «الحظارة». ربما هناك ملاحم كثيرة نسجت عبر التاريخ لا نعرفها، ولكن ما نعرفه عن ملحمة «ألف ليلة وليلة» مثلاً؛ التي تجمع بين إرادة قوى الجن والعفاريت الخارقة والإرادة الانسانية؛ نلمس مقدار التطور الذي طرأ على الملحمة خلال آلاف السنين. ففي ألف ليلة وليلة هناك تفوق للعنصر البشري، حيث يقوم هو بتطويع القوى الخارقة وليس العكس! وهو ما يشير إلى مقدار تراكم المعرفة المبنية على التجربة الإنسانية. في عصرنا لا توجد أساطير أو ملاحم؛ إنما توجد «رواية» و»قصة قصيرة»؛ وأبطال هذه الأعمال الأدبية من البشر فقط! أي أن الحدث الاجتماعي خيره وشره؛ هو نتاج الفعل البشري؛ ولا دخل للقوى الخارقة به. ولذلك لا نلمس بالرواية والقصة «صراع الإنسان مع الطبيعة»، إنما «صراع الإنسان مع ذاته»؛ أو الصراع على إنتاج الثروة وعدالة توزيعها؛ أي الصراع بين الظالم والمظلوم! وكما هو واضح بالنسبة لي على الأقل، أن الأسطورة والملحمة والرواية أو القصة كلها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالواقع ودور الإنسان بتفسيره أو تطويره أو تخريبه! وهذا الارتباط مرهون بمقدار الثروة المعرفية المتراكمة. بيد أن بروز دور البشر الكلي في العمل الروائي، لا يعني خلو الرواية والقصة من «الخرافة»! والخرافة هي الخيال غير المرتبط بالواقع. فقد استهلك العمل الروائي ردحاً طويلاً من الزمن وهو يروج؛ أن «المخلص» هو فرد؛ يمتلك قوّة «سوبرمانية» أو «سبايدرمانية» أو «وطواطية» خارقة على غرار الجن والعفاريت؛ لتخليص البشر من الظلم! وهو الأمر الذي انسحب على الفن السينمائي والفن بشكل عام. ولكن تطور التجربة الإنسانية وبوصلتها «الوعي والذوق» الاجتماعي العام؛ جعل من تلك الأعمال مثاراً للسخرية؛ ولم تعد قابلة للصرف في «سوق البورصة المعرفية»! لا أعتبر نفسي ناقداً أو أديباً أو حتى كاتباً؛ وعندما قرأت رواية «مدن الملح» ل»عبد الرحمن منيف»، تضايقت في بداية الأمر؛ ثم اكتشفت أن هذا الروائي المجدد؛ قد جعل من الفرد مجرد رمز؛ وأعطى دور البطولة للأرض والمجتمع كله؛ وألغى بذلك الخرافة من ذائقتي الفقيرة. ** **