اليومُ العالمي للغة العربية الذي يأتي في 18 من شهر ديسمبر كل عام هو من المناسبات التي تفرحُنا وتثلجُ صدورَنا، ولكنها تؤلمنا في الوقتِ نفسه. هي مناسبةٌ تفرحُنا لأننا نتذكرُ لغتنا الرائعة ونسعد بهذا التقدير العالمي لها، وهي تستحقّه بلا شكّ، وهي تؤلمنا؛ لأنها تذكّر كل غيورٍ بحال هذه اللغة، وتفريطنا وتفريط كثيرٍ من شبابنا وكثيرٍ من وزاراتِ العالم العربي ومؤسساتِه في حقوقها...، وهذا يؤلمُ القلب. ومع هذه الذكرى السنويةِ تنتشرُ كلّ عامٍ حكاياتٌ وقصصٌ وأقوالٌ عن اللغة العربية يردّدها بعض الغيورين والمتحمّسين لهذه اللغة الشريفة من غير المختصّين. وكثيرٌ من هذه المقولات غيرُ صحيح، بل هو أقرب إلى عالم الخرافة والعواطف، والمباهاة التي لا تقوم على أساسٍ علميّ. يحدّثك أحدُهم مثلاً بأن اللغةَ العربية هي أقدمُ لغةٍ في العالم، وأنها لغةُ أبينا آدم -عليه السلام- وهذا قولٌ لا يستند إلى أصلٍ علميٍّ يُركن إليه؛ فآدم حتماً له لغةٌ خاطبه اللهُ تعالى بها، ولكنْ لا سبيل إلى معرفتِها على وجهِ اليقين...وهناك لغاتٌ في العالم يقطعُ العلماءُ بأنها أقدم من العربية التي نعرفها اليوم كاللغة السّومرية التي كانت في العراق مثلاً، والتي يرتقي تاريخُها إلى الألف الثالث قبل الميلاد. ولا يفوتني أن أذكر هنا لكم أن اليهودَ يقولون إن لغة آدم هي العبريةُ، وأن النصارى يقولون إن لغة آدم هي السّريانية. وترى أحياناً هذا القول وقد تسرّب خلال شقوقِ الأخبار القديمةِ عن أهل الكتاب إلى بعض التفاسير والمرويّات الإسلامية. وهي كلّها دعاوى لا دليلَ عليها. ويقولُ لك آخرُ إن اللغة العربية هي لغة الجنة التي وعد الله بها المتقين من عبادِه، وهذا جميلٌ جداً؛ لأنه يفرحُ قلوبنا ولعله يستند إلى ماروي في أحد الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أحبوا العرب لثلاث لأني عربي والقرآن عربي ولسان أهل الجنة عربيّ)، ولكن هذا الحديث ضعيفٌ لا ينهض حجةً، بل حكم عليه بعض حفاظ المحدثين بأنه موضوعٌ، فلسانُ أهل الجنة لا نعرفه على وجه اليقين، وقد أورد الله في القرآن حديث أهل الجنة كما نقل لنا حديث الأمم الأخرى ومحاورات الأنبياء مع قومهم كإبراهيم وموسى ويوسف وعيسى عليهم السلام. ولغتهم ليست هذه العربية قطعاً. ويقول لك ثالثٌ إن العربيّة أم الّلغات كلّها، وأن اللغاتِ مستمدةٌ منها. وهذا رأي عاطفيٌّ لا دليل من العلمِ عليه. وكان بعض العلماءِ قد فُتن بهذا الرأي كعلامة العراق ولغويِّه الأب أنستاس ماري الكرملي وهو من هو في اللغة!! ومن هؤلاء الأديب عبد الحق فاضل وغيرهم. وراح هؤلاء ينقّرون في المعاجم، ويقلبونها ظهراً لبطنٍ، فكل كلمةٍ في العربية شابهت كلمةً أخرى في لغةٍ أخرى حكمُوا بأنها للعربيّة... والعربيّة أقدمُ فالكلمةُ إذن منها، وهذه اللغة جاءت منها. ونسوا أن جميع اللغات اقترض بعضها من بعض، وتعاورت كلماتٍ كثيرة، بل يصدفُ أن تكون الكلمة في لغةٍ ما مشابهةٍ لأخرى في لغةٍ أخرى، كما تشابهت كلمة (كهف) العربية مع كلمة (cave) الإنجليزية وهذا توافق لا أكثر... وكلما اقتربتِ اللغتان حضارياً زادَ تبادلُ المفردات بينهما. وحسبنا أن نذكر في هذا السياق الّلغتين العربية والفارسية، فالفارسية الحديثةُ أخذت من العربية مفرداتٍ وعباراتٍ لا تحصى كثرةً بل إن شطراً كبيراً من المعجم الفارسيّ جاء من العربية. وكذلك العربيةُ أخذت من الفارسية مفرداتٍ عديدةً منذ الجاهلية حتى اليوم ومنها: إستبرق، وسندس، ودستور، وقانون، وغيرها كثير. ولا يضرّ ذلك العربيةَ في شيء. ويحدّثك آخر قائلاً: إن العربية هي واحدةٌ من ثلاث لغاتٍ ستبقى إلى آخر هذا القرن، واللغات الأخرى ستنقرض. ويسندون هذا إلى دراسةٍ لا أثر لها يزعمون أنها تمت في لندن. وهو أمرٌ يحتاج إلى مصداقيةٍ علمية؛ لأن هؤلاء يجعلون النظام الصرفي والنحوي هو سبب بقاء اللغة العربية، مع أن الأنظمة النحوية والصرفية لا تضمن حياة اللغات، وإلا لم تمت اللغة السنسكريتية التي تتميز بقدرتها الصرفية ولا الإغريقية التي تمتاز بتصريفات الفعل والأزمنة والأسماء فيها..، فامتداد اللغات وبقاؤها مرهون بالمتكلمين بها، وهؤلاء مرهونون بالظروف السياسية والثقافية والحضارية. وهذه أمورٌ متغيرةٌ. ونحن نعتقد حفظ الله للقرآن العظيم ومنه تستمد اللغة عمرها وامتدادها وليس من التراكيب النحوية والصرفية. وبعضُهم يقول لك: إن العربية تمتازُ عن غيرها بالإعراب الذي يمنحُها دقةً، ويسمح لك بترتيب الكلمات والتقديم والتأخير فيها، وهنا تتجلى البلاغةُ، ولكن هذا الإعراب ليس موجوداً فقط في العربية، بل موجود في لغاتٍ كثيرةٍ أخرى كالألمانية واليونانية القديمة واللاتينية وغيرها ... وبعضُهم يقول إنها تمتازُ عن غيرها بكثرة مترادفاتها، ووفرة أ لفاظِها. ويمثّل لك بالألفاظ المتعلقة بالجملِ أو السيفِ... ولا يعلم هؤلاء أنّ اللغات تنمُو حسب بيئتها، فالجملُ بيئتُه هي الجزيرة العربية، فلا عجب إن تفنن العرب في وصفه وكثُرتْ مترادفاتُه. وهكذا كلُّ اللغات! فاللغات الملاوية والجاوية والسندوية مثلاً حيث طعام الناس الأساسي الأرز يوجد كلمات كثيرة للأرز، ومنها: Sawah لحقل الأرز، و padi، للأرز في سنابله، أما Beras فهي لحب الأرز قبل الطبخ، ويقولون nasi للأرز بعد طبخه بالماء !! وهذا أمرٌ لا نطيقُ نحن العرب أن نعبر عنه بمفردةٍ واحدةٍ مثلهم. ومن الخرافاتِ المرتبطة بهذه اللغة العربية الشريفة قولُ بعضهم إنها أصعبُ لغةٍ في العالم! وتسألُ من يقول ذلك عن السّبب، فيقول لك: لقواعدها وتصريفها المتشعب ! وهذا وهمٌ آخرُ. وعلى قائله أن يحدّد معياراً له، وأن يقيس عليه جميع اللغات، وهذا غير ممكنٍ!! أمّا النحو والصرف فهناك لغات تنافس العربية فيه، بل تزيد عليها في حالات الإعراب كالإغريقية واللاتينية. وهناك لغات تنافسها في الصيغ والجموع وفي المثنى أيضاً. وهذا القول الأخير أخطر شيء؛ إذ يردّده بعض العربِ فيسمعهم من يتوق إلى تعلم العربية، فربما ثبطّوا همّته، وأدخلوا عليه الكسَل، فتركَها ونفسُه تقول له: ما دام أهلها يقولون ذلك، فأنا أولى منهم بتركها. ويولّي مغادراً بسبب أساطير نردّدها بجهلٍ وعشقٍ للمبالغات المفرطة. ** ** - د. أحمد بن محمد الدبيان