تتعرّض اللغة العربية في هذا الزمان إلى هجمة شرسة من جهات مختلفة، وفي المقابل فإنّ الدفاع عنها ضعيفٌ جداً، إلا أن الله عز وجل يحفظ هذه اللغة بما تعهّده من حفظ كتابه العزيز حيث قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (9) سورة الحجر. ولكن هذا الحفظ من الله تعالى لا يعفي المسلمين جميعاً من واجب التصدي لتلك الهجمات وهو واجب شرعي. ومن القلائل الذين حملوا لواء الدفاع عن هذه اللغة العزيزة، العلاّمة المعروف الدكتور عدنان علي رضا محمد النحوي. هذه النسخة من كتاب: لماذا اللغة العربية؟ للدكتور عدنان علي رضا محمد النحوي هي الطبعة الثانية للكتاب وقد كانت الطبعة الأولى عام 1418ه - 1997م. هذا الكتاب من الحجم المتوسط يقع في حوالي المائة والأربعين صفحة تشتمل على إهداء وافتتاح، ثم كلمات مضيئة وتمهيد ومقدمة للطبعة الثانية يليها مقدمة الطبعة الأولى. أما أبواب الكتاب فهي أربعة: أما الباب الأول فإنه ينقسم إلى ثلاثة فصول يتحدث الفصل الأول عن ماضي اللغة العربية وحاضرها. يقرر الدكتور عدنان النحوي قاعدة تخضع لها جميع اللغات بما فيها اللغة العربية، وهي أن اللغة تقوى بقوة أممها وتضعف بضعفها. ولا يخفى على أحد ضعف المسلمين في هذا الزمان مما انعكس على اللغة العربية، ويلقي المؤلف اللوم على المسلمين بهذا الضعف وإن كان لم يهمل بيان الحرب الضروس على اللغة العربية من أعداء الإسلام. فيقول في ذلك: «وقد تجد المفكر المسلم الأديب يَصُبُ فكره وأدبه بلغةٍ أجنبية عنه وعن قومه وعن دينه، أو بلغته القومية بعد أن هبط الشعور والإحساس بضرورة تعلم اللغة العربية، وهبط الحافز الإيماني أو اختفى». إلا أنه يعود فيوضح أنه مع هذا الانحسار الشديد للغة العربية بين أهلها، فإنها واجهت هذه التحديات بقوةٍ وثبات وصمود وسجلت انتصارات كثيرة في مواقع عديدة. أما الفصل الثاني من هذا الكتاب فإنه يتحدث عن منزلة اللغة العربية في الإسلام. يصدر المؤلف هذا الفصل بحقيقة ربما تكون غائبة عن كثير من المسلمين أسردنا هنا نصاً وحرفاً، فهو يقول: «لقد كانت اللغة العربية لغة العرب وحدهم قبل أن يبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وقبل بدء الوحي. ولكن منذ اللحظة التي نزل فيها الوحي على النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم باللغة العربية واختار الله سبحانه وتعالى هذه اللغة العظيمة لتكون لغة الوحي والنبوَّة، ولغة القرآن الكريم، منذ تلك اللحظة أصبحت اللغة العربية هي لغة رسالة الإسلام، لغة المسلم، لغة الأمة المسلمة مدى الدهر، لغة الإنسان المؤمن!». ويستطرد فيقول: « فما نزل الوحي الكريم من عند الله باللغة العربية إلا بعد أن بلغت اللغة نضجها واستقرت، لتستقر بها قواعد الإسلام وآيات الكتاب المجيد وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وأصبحت اللغة العربية تتميز « بجوامع الكلم»، مما لا يتيسر في لغة أخرى، حتى كان من خصائص النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم أن أوتي جوامع الكلم. فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أعطيت فواتح الكلم وجوامع وخواتمه» (رواه أحمد وابن عمرو). فبهذا أصبحت اللغة العربية لغة العبادة والطاعة والصلاة وسائر الشعائر، ولا يعتبر القرآن قرآنا إذا نقل إلى لغة أخرى. وأصبحت اللغة لغة المنهاج الرباني، الذي يعرِّفه المؤلف بأنه: القرآن الكريم والسنّة واللغة العربية العربية، لا تنفصل عنه أبداً. بهذا يظهر لنا باختصار منزل اللغة العربية في الإسلام. أما الفصل الثالث فإنه يتحدث عن تميز اللغة العربية عن سائر اللغات. ففي مقدمة هذا الفصل يسوق المؤلف هذه الكلمات الجميلة بحق اللغة العربية. «إن اللغة التي حملت هذا الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والتي جاء بها هذا الإعجاز الذي تحدى به القرآن الإنس والجن على أن يأتوا بسورة، أو عشر سور، أو بمثل القرآن كله، إن اللغة التي حملت هذا الحق وهذا الإعجاز لهي لغة متميزة كل التميز من لغات البشر». «إن اللغة العربية لا تتميز بمفرداتها وألفاظها وكلماتها وما تحمل من معان وظلال وجرس فحسب، ولكنها تتميز كذلك ببنائها وصياغتها، حين ينضم معنى إلى معنى، وظل إلى ظل، وجرس إلى جرس، لتبلغ الصياغة درجة عالية من الجمال الفني المؤثر» وتتميز أيضاً بقواعدها ونحوها وصرفها. وكذلك بشعرها، وتتميز بحروفها: «إن الخط العربي أجمل الخطوط وأحلاها وأغناها». أما الباب الثاني فهو يتكون من ثلاثة فصول يقرع فيها الدكتور عدنان النحوي ناقوس الخطر المحدق باللغة الجميلة، ويفصل حقيقة هذا الخطر الذي يهدد الأمة المسلمة بأكملها، مثلما يهدد لغتها. وكذلك يبين في ذات الوقت مسؤولية المسلمين ومسؤولية الدعاة في جميع أقطار الدنيا ومنها البلاد غير الناطقة باللغة العربية. إن أعداء الإسلام كانوا وما يزالون يبحثون عن مواطن القوة في هذا الدين، وقد وجدوا أن جوهر القوى كلها هو منهاج الله: (قرآنا ًوسنّة ولغة عربية)، فانطلقوا يطعنون الإسلام في مواطن قوته، فاتجهت سهامهم ورماحهم إلى اللغة العربية: فنشروا اللغات القومية وغذوها وعزلوا اللغة العربية في معظم ديار المسلمين غير العربية، ثم جاءوا بما يسمونه الشعر الحر لقتل الشعر وقواعده الثابتة الأصيلة، وجاءوا بالحداثة وغيرها من السموم القاتلة للغة العربية وآدابها. ويخلص الدكتور عدنان النحوي إلى أن القضية ليست قضية عابرة ولا هي قضية دنيوية، إنها تربط بأخطر قضية في حياة الإنسان وأكبر حقيقة في الكون إنها قضية الإيمان والتوحيد وتلقي رسالة الإسلام - قرآنا ًوسنّة - تلقياً أميناً لا يتم إلا باللغة العربية. ويحمل الدكتور النحوي أيضاً المسؤولية عن اللغة العربية إلى الدعاة المسلمين في البلاد الناطقة بغير العربية، ويضرب الأمثلة للتقصير الناجم عنهم بأن عدداً غير قليل من المسلمين في بلاد الغرب لا يعرفون اللغة العربية مطلقاً ولا يتحدثون بها ولو عرفوا شيئاً منها، ومنهم من لا يبذل أي جهد لدراستها. ويشير إلى ظاهرة ملفتة للنظر في بعض المؤتمرات، وهي اختفاء اللغة العربية حيث تكون المحاضرات كلها أو معظمها باللغة الأجنبية. أما الباب الثالث فقد أفرده المؤلف للحديث عن تاريخ اللغة العربية وميزة الرسالة الربانية. يبين الكاتب أن أول من بحث ونقب عن تاريخ وأصل اللغة العربية هم المتشرقون الغربيون وإن كانت جامعة القاهرة قد أجرت بحثا خلال الستينيات من القرن الماضي، فأصدرت عدداً من النشرات عن النقوش المعيمية والسبئية. وتعتبر اللغة العربية الفصحى فرعاً من لغة المسند التي هي إحدى اللغات السامية وهي: الكنعانية والآرامية، والإثيوبية والمكوشية والأكادية. ويشير المؤلف إلى كتاب صدر لأحمد حسين شرف الدين عن لغة المسند سنة 1968م ويبين في هذا الكتاب أن اللغة العربية الفصحى فرع من لغة المسند وقد أزدهر هذا الفرع ونما واشتد خلال القرون قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم. ويوجز الدكتور عدنان النحوي بأسلوب سهل كيف نمت اللغة العربية وتطورت فيقول: «لقد بلغت اللغة العربية ذروة نضجها وتطورها لما نزل بها الوحي بعد أن استقرت بياناً وقواعد، نثراً وشعراً، حتى تظل لغة القرآن الكريم ثابتة القواعد والبيان، غنية كل الغناء، ليظل القرآن الكريم ميسراً للذكر، مفصلاً بيناً مدى الدهر كله للعالمين». ويربط الدكتور عدنان النحوي اللغة العربية بمسيرة الرسالة الربانية منذ عهد آدم عليه السلام، حيث علمه الله تعالى الأسماء كلها وبالطبع كان مما علمه اللغة التي كان يتحدث بها مع زوجته حواء وأولاده، ولا يعقل أن يكون الله تعالى قد خلق آدم بدون أن يعلمه الكلام واللغة والبيان حيث قال تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} (الرحمن: 1-4). ثم تطورت اللغة وتفرعت وتشعبت وكانت اللغة العربية فرعاً من لغة المسند، وتطورت ونمت حتى أخذت شكلها النهائي الذي نزل به كتاب الله. وهذه اللغة كما يقول الدكتور عدنان النحوي: «إنها تختزن كنوزاً لا تنفد، وعبقرية لا تُخمد، وجمالاً غنياً لا يذبل، إنها لغة القرآن الكريم، وحسبها عظمة وشرفاً أن تكون لغته». ويختم الدكتور عدنان النحوي كتابه بقصيدتين عصاميتين، يتغنى في القصيدة الأولى بجمال اللغة العربية الفصحى: فَعُد إلى لغة القرآن صافية تجلو لك الدَّرب سهلاً كان أو جبلا تجلو صراطاً سوياً لا ترى عِوجاً فيه ولا فتنة ًتلقى ولا خللا تجلو سبيلاً تراه واحداً أبداً وللمُضلِّين تلقى عندهم سُبُلا * * * * أما القصيدة الثانية فإنه يدافع فيها باستماتة عن الشعر العربي الأصيل، وعنوان هذه القصيدة يدل على ذلك: «لآلئ الشعر أوزانٌ وقافيةٌ» نظمها على شكل حوار بينه وبين صاحبه الذي يحاول أن يقنعه بالتخلي عن الوزن والقافية والتفلت منهما: يقول: ترتجلُ الأشعار تُنشدها وزناً وقافيةً قيداً وإعسارا دع القوافيَ والأوزان! إنّ بها رجعَ التراث وأغلالاً وأوضارا ولكنه يبين له خطأه ويبين له جمال الشعر العربي بالوزن والقافية إلى أن اقتنع صاحبه بهذا الرأي: حتى إذا سمع الأشعار أطلقها روضاً تفتَّح أوراداً وأزهارا فعاد عن غيِّه وارتدّ من عجبٍ يُرجّع الشعر إعجاباً وإكباراً يقولُ هذا هو الشعرُ الحلالُ جرى عِطراً يمُوجُ وسِحراً بينَهُ دارا * * * * اختم فأقول إن الدكتور عدنان النحوي قد أطلق صرخة تحذير قبل خمس عشرة سنة في الطبعة الأولى من كتابه، فربما وجد أن الاستجابة لصرخته الأولى من المسلمين كانت ضعيفة، فعاد يجدد التحذير والنصيحة في هذه الطبعة الثانية من الكتاب، لعل الغافلين ينتبهون والنيام يستيقظون قبل فوات الأوان.