يا بذرة جاءت على كف الخريف تداعبها يده المرتعشة وكأنها قد مسحها الكبر برجفة الشيخوخة وقد تدحرجت هذه البذرة من يد الخريف على الأرض، حتى استقرت في حضن رمال الصحراء تلهو به وفجأة أرعدت السماء وأبرقت وأمطرت وسالت الأودية والشعاب والأنهار وانحدرت السيول مندفعة بقوة من أعالي الجبال وجرفت بطريقها هذه البذرة الغريبة وسارت بها هذه السيول حتى استقرت بين الصخور والأشواك الصحراوية على ضفاف الغدير محملة ومحاطة بالطين ونمت هذه البذرة وتفتحت عن زهرة في وسط الصحراء، تنام في حضن الجبال تفترش الأرض وتلتحف السماء وحيدة غريبة في هذا الكون تبتسم للحياة في النهار، وترتجف خوفاً في المساء عندما يلفها الظلام بردائه ترتوي من قطرات الندى وتتغذى على الصبر في قوتها وتتحصن بأوراقها الجافة المتشققة من شدة العزلة في العراء وهجوم عوامل التعرية التي لا ترحم عليها دوماً، ولكنها تقاوم وهي صامدة دائماً تأمل في الحياة. قد تشققت أطرافها وذبلت أغصانها وانحنت أطرافها من شدة الجفاف وجفت شفاهها من شدة العطش لكنها تنمو الى أسفل لأنها وجدت فيه الحياة فهو النبع الصافي الكامن في الخفاء لا تكتشفه إلا النفوس النبيلة التي لا تنحني إلا لله خالق هذا الكون ومدبره رغم قساوة الحياة المناخية التي تعيشها وحيدة في غربتها. وقد داعبتها نجوم السماء مرة وقالت لها أيتها الجارة المسكينة نحن نعرفك وأنت لا تعرفيننا.. أتدرين من أنت فأجابت نعم أنا غريبة وحيدة في هذه الصحراء الجرداء المقفرة، لا أعرف لي أصلاً.. ولا أهلاً.. ولا وطناً. فقالت لها النجوم في السماء.. كلا.. بل أنت كوكب قائم بذاته لا يعرفه أحد ولا يفهم لغته سوانا.. فدعينا نتكلم معاً ونتسامر معاً. وعندما أطل البدر بوجهه المنير من بين السحب القادمة من خلف الجبال أرسل نوره الفضي في هذه اللحظة في سماء الأنس.. اختفت النجوم والكواكب.. وبقيت زهرة القفار وحيدة تتأمل في وجه القمر الذي انتظرته كثيراً والذي بدأ يبتسم لها. وهكذا ابتسمت زهرتنا وأرسلت أول ضحكاتها من القلب الذي لا يعرف السعادة مرة في حياته وقد عشعش الحزن فيه ولكنها عاشتها هذه اللحظة. وهكذا تكلمت زهرة القفار بلغة عجيبة عن حياتها في عالم المجهول بين الأشواك والصخور والأفاعي والعقارب والظلام والألم وحيدة لا أنيس لها ولا جليس.. تكلمت بلغة الصمود.. لغة الاعتماد على النفس.. شقت طريقها بصمت وتسلحت بالعزيمة والصبر واستظلت بدوحة الأمل واستضاءت بنور الله.. حتى تفتحت زهرة الصحارى عن ابتسامة طيبة ترسل أريج عطرها الفواح ليعبق الجو ويزينه بابتسامة مشرقة من شفاهها الفضية الندية.. وترسل ضحكاتها لتعزف لحن النصر وقد انتصرت على هذه البيئة الصحراوية الشاسعة القارية المزاج.. وقد افلتت من الموت المحتوم وقد كتب الله لها الحياة..!! وهكذا سارت زهرتنا في درب الحياة حاملة شمعة النور والمجد لتضيء للأجيال المجدة طريقها لتحقق طموحها وأملها في مستقبل مشرق سعيد.