يعيب الناقد أنور المعداوي على الأدباء الذين يعملون على النقل المباشر للواقع المعاش، ويعتقدون أن استخدام العامية في الحوار وأحياناً التعبير الركيك يعتبر مظهراً من مظاهر هذه الواقعية التي يصورونها. فيعود ويذكر بأن الواقعية في الأدب والفن غير ذلك ويشرحها باختصار للذين لا يفهومنها فيقول: «الواقعية هي أن تنقل الحياة إلى الورق لا كما كانت ولكن كما يمكن أن تكون.. الواقعية هي ان تسير الحادثة مع مجرى الحياة.. الواقعية هي الصدق في التعبير بحيث لا يطغى الخيال على الواقع، ولا يجور الفن على الطبيعة. الواقعية بمعنى آخر هي الدقة في تصوير انعكاس الحياة على حواس الفنان» أما الفنان الحق عند أنور المعداوي فهو ذلك الذي تكون عنده حاسة التذوق غير عادية.. هو «من يخرج الحياة ليستخدم كل حواسه في تذوق معانيها، ونقل كل ما يمكن ان يلهب الخيال فيها إلى لوحات من التصوير الفني، والفن مالم يتصل بالحياة، فهو جمود وهمود وموت». وقد دعا هذا كله المعداوي إلى خوض غمار الحياة الأدبية والكتابة في الصحف والمجلات واقتحام أسوار كل فنون الأدب، فقد تأمل الواقع الإبداعي في مؤلفات معاصريه في القصة والمسرحية والقصيدة، ورأى أن التقليد الأعمى آفة الإبداع في أعمال الكثير من الأدباء. وعلى سبيل المثال نجده يتهم توفيق الحكيم على شهرته وعلو مكانته بالسطو على الأفكار الغربية ونقلها إلى العربية. ويضرب مثلاً طريفاً لذلك حين يشبه ما يفعله بعض الأدباء بالتاجر الذي يستورد غانية من غانيات باريس، وينزع عنها آخر موضة من الأزياء الباريسية ثم يطلب منها ان ترتدي الملاءة اللف فيجدها عندما تمشي تتعثر وتعجز عن مواصلة السير في الدروب الشعبية ولا تستطيع التعامل مع البيئة المحلية وحينئذٍ يكتشف القارئ أو المشاهد حقيقة الشخصية المنتحلة. ويتمنى أنور المعداوي أن لو استفاد كُتّاب المسرحية العربية من منهج هنريك إبسن في توظيف البناء الدرامي الجيد في خدمة المضمون الجيد مشيراً إلى استفادة إبسن من بناء المسرحية المتقنة الصنع well _ made _play لخدمة المضامين الاجتماعية في مسرحياته الشهيرة كما يدعو إلى الاستفادة من خدمة البعد النفسي للشخصية الدرامية التي تتمثل أحسن ما تتمثل في مسرحيات انطون تشيكوف ويرى أن في ذلك انقاذاً للمسرحية العربية من ضعف البناء وسطحية الشخصيات. نظرية الأداء النفسي: ولعل أهم ما قدمه المعداوي في مجال النقد هو ما أطلق عليه نظرية «الأداء النفسي في الفن» التي شرحها في الفصل العاشر من كتابه عن «علي محمود طه» التي تقول إن فهم الشيء أو الوعي به أو العلم به غير تذوقه تماماً، ذلك لأنك تفهم الشيء بعقلك لكنك تتذوقه بشعورك «إن فهم الحياة هو ان نفتح لمشاهدها أبواب العقل أما تذوق الحياة فهو ان نفتح لتجاربها أبواب الشعور.. إننا نرقبها هناك تحت إشعاع الومضة الذهنية، ولكننا نتلقاها هنا تحت تأثير الدفقه الوجدانية». ومن هنا يرى المعداوي الأديب الذي تضعف عنده خاصية التذوق لن يبلغ مبلغاً مبدعاً في الفن مهما بلغ علمه بأصول كتابة النوع الأدبي الذي يبدعه. ولا يتفق بعض النقاد مع أنور المعداوي على تسمية ذلك «بالنظرية»ويرون أنها أقرب إلى الفكرة أو المقياس الذي تقاس به جودة العمل الفني وأصالته وهي أقرب إلى ما سبق أن طرحته «مدرسة الديوان» المتمثلة في عباس العقاد وعبدالرحمن شكري وإبراهيم المازني وطرحها أيضاً سيد قطب في مقالاته النقدية ومحمد مندور في «الأدب المهموس» وهذا بالطبع لا يقلل من قيمة ما قدمه المعداوي والأشواط التي سار بها فيه نحو التطبيق بحيث يمكن اعتبار ما قدمه المعداوي الامتداد المتطور لما سبق أن قدمه غيره. الناقد الوحيد وفي هذه الفترة الخصبة خاض المعداوي معارك نقدية مع كبار أدباد العصر الذين لم يتهيبهم، ولم يحسب حساباً للعلاقات الشخصية التي تربطه بهم فكانت له معركته مع العقاد وطه حسين وسلامة موسى، وكانت أشرس معاركه مع هذا الأخير لأنه كان من أخبث من ظهر في تاريخ أدبنا العربي الحديث.. صليبي المخبر، شيوعي المظهر، داعية الفرعونية وهجران اللغة العربية إلى اللاتينية بدعوى أن مصر غير عربية بل أوروبية أفريقية، وهي نفس الدعوة التي نادى بها طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» ثم تراجع عنها لما «غلبت الروم» وكان الفارسان سيد قطب والمعداوي في طليعة من تصدى له. أما العقاد ولله الحمد لم يبتل بشيء من هذه الفتن الفكرية، وكان خلاف المعداوي معه أساساً في قضايا فنية مثل قضية الشعر. ويرى الاستاذ رجاء النقاش أن المعداوي في الفترة من 1948 1952م «لمع.. بسرعة كبيرة وأصبح خلال وقتٍ قصير بدون أي مبالغة أكبر ناقد أدبي في الوطن العربي كله في تلك الفترة القصيرة التي تبلغ أربع سنوات متصلة» . بل و«الناقد الوحيد» ويقدم مبررات تاريخية وفنية لذلك أهمها أن ساحة النقد الأدبي في تلك الفترة قد خلت من فرسانها فقد اتجه العقاد وطه حسين إلى الدراسات الإسلامية والأدبية وصمت مثلهما إبراهيم المازني وزكي مبارك وأحمد أمين، وكان أكبر نقاد الجيل الثاني وهما سيد قطب ومحمد مندور قد اتجها للعمل السياسي فكان الأول إسلامياً والثاني ماركسياً وبقي أنور المعداوي وحيداً في حلبة النقد الأدبي ولم تكن هذه الظروف وحدها لتخدمه في البروز لو لم تصاحبها موهبته الأصيلة ورؤيته النقدية الذكية التي جلعته يدعو إلى التأصيل» و إلى رفض الجمود والتقليد الأمر الذي جعله يعيش بقية حياته مرفوضاً من اليسار وغير محبوب لدى اليمين كما سنرى. هدوء قبل العاصفة: قامت ثورة يوليو 1952م وأنور المعداوي في عز مجده الأدبي.. ملء السمع والصبر، ليس بين أدباء مصر بل بين أدباء العالم العربي كله. فقد كان يطلع على نتاج الأدباء في الأقطار العربية الأخرى ويطلبه ويكتب عنه، ويحتفي بلقاء الأدباء العرب الذين يفدون إلى مصر وخاصةً الشباب منهم، ويحاول أن يفتح لهم منافذ للنشر في القاهرة. وعبر هذه الاتصالات والاحتفاء بالادباء العرب تعرف أنور المعداوي بالشاعرة الفلسطينية المعروفة فدوى طوقان قبل أن تكون معروفة ونشر لها في القاهرة ديوانها الأول «وحدي مع الأيام»، وقد ربطته بها بعد ذلك قصة حب عبر العديد من الرسائل التي استمرت بينهما إلى قبيل وفاته والتي بدا وكأنها تلوح من بعيد بحلم زواج إلا أن الموت قطع على الاثنين ذلك الحلم الجميل، وقد أهدت فدوى طوقان رسائل المعداوي التي كتبها لها إلى الاستاذ رجاء النقاش الذي نشرها في كتاب بعنوان «صفحات مجهولة من تاريخ الأدب العربي» وقدّم لها بدراسة قيمة. المهم أن المعداوي حتى قيام ثورة يوليو كان متربعاً على عرش النقد الأدبي، كان يطل على الناس بكتاباته المتعددة في الصحف والمجلات ومن خلال بابه المشهور في مجلة «الرسالة»الذي يحمل اسم «تعقيبات» وأيضاً من خلال لقائه اليومي بزملائه وتلاميذه في «قهوة الكمال» بالجيزة التي اعتاد منذ كان طالباً بالجامعة على الجلوس فيها فأخذت منه شهرتها.وبقيام الثورة المصرية تغيرت الأوضاع فسقطت نجوم وصعدت نجوم، وبدل أناس جلودهم القديمة بسرعة ولبسوا جلوداً تناسب النظام الجديد، وهتف قوم بشعارات كانوا بالأمس أكثر الكافرين بها، وبدأ أكثر من في الساحة الأدبية والفكرية يبحثون لأنفسهم عن مواقع يصعدون بها وأدوار جديدة يلعبونها، وقله قليلة هم الذين التزموا الصمت وآثروا التريث والترقب والانتظار حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود. ولهذا قرر المعداوي أن يتوقف عن الكتابة في مجلة «الرسالة» قبل ان تتوقف نهائياً بسنة تقريباً مع بقية مجلات العهد القديم التي توقفت سنة 1953م. وكتب في رسالته العاشرة لفدوى طوقان يشرح الأسباب: «آليت على نفسي ألا اكتب إلا في مجلة يكتب فيها أدباء ممتازون.. ممتازون بأفكارهم لا بأسمائهم. من هنا تركت «الرسالة» رغم إلحاح الاستاذ الزيات علي بأن أعود، وتركت «الكتاب» «يقصد مجلة الكتاب التي كانت تصدرها دار المعارف» رغم انني كنت قد اتفقت مع رئيس تحريرها على أن أواصل الكتابة. هناك أمل واحد يتركز في تلك المجلة المنتظرة.. وهي مجلة «الآداب» التي ستصدرها في بيروت دار العلم للملايين». صدامه مع السيار: وبالفعل حلت الآداب« محل الرسالة» وانتظم المعداوي على الكتابة فيها لمدة عامين ابتداءً من عددها الأول الذي صدر في يناير 1953م ثم داهمه المرض، وبدأ العد التنازلي لحياته الأدبية والشخصية، فقد خفت صوته وخبا ضوء نجمه حين آثر أن لا يزاحهم الأسماءالجديدة التي بدأت تتألق في ظل رفع الشعارات اللامعة والبراقة سواءً إيماناً أو نفاقاً للعهد الجديد، وبدأ يشتبك مع بعضهم وكان في مقدمتهم الكاتب الماركسي الذي أصبح الآن معروفاً الأستاذ محمود أمين العالم اشتبك معه المعداوي في معركة نقدية حول رواية «الأرض» لعبدالرحمن الشرقاوي على صفحات مجلة «الآداب» اللبنانية. كان رأي المعداوي أن كتاب اليسار يتوسلون بالأدب والفن لتحقيق مآربهم السياسية، وأنهم يضحون «بالقيمة الجمالية» للأدب لصالح «القيمة الموضوعية»، وما كان المعداوي يقبل بذلك بالرغم من أن تيار النقد اليساري هو الذي كان يملأ الساحة الأدبية في مصر منذ أوائل الخمسينيات ، وأن رموزه كانت أول من ركب موجة الثورة واستولى على مراكز القيادات الثقافية، لهذا كان المعداوي من أول ضحايا اليسار بعد الثورة، فقد استبعدوه تماماً عن أي منصب يليق به، وأحاطوه بسياج من الصمت. وفي الوقت نفسه خذله اليمين، وتخلى من كان بيده ان يساعده في محنته من أصحاب الكلمة المسموعة في ذلك العهد بل إمعاناً في الإساءه اليه وجد نفسه سنة 1954م يُهان وظيفياً حين يصدر وكيل وزارة المعارف آنذاك سامحه الله قراراً بنقل المعداوي من وظيفته بإدارة الثقافة بالوزارة إلى وظيفة مدرس للغة العربية التي كان المعداوي قد تجاوزها وذلك في انتقامٍ شخصي من المعداوي لخلافٍ قديم بينهما. وتظلم «الناقد الكبير» وتلفت مقهوراً، فلم يجد حوله من يلتفت إليه حتى الذين مدّ لهم يد العون في عزِّ مجده تخلوا عنه خوفاً على مصالحهم أن تتضرر، وعمل المعداوي مكرهاً بالتدريس لمدة ثلاث سنوات حتى سنة 1957ثم فصلته الوزارة بسبب تغيبه عن العمل. وبقي المعداوي فترة بدون عمل حتى امتدت إليه يد حانيه من الأيدي النادرة في ذلك الزمان ألا وهي يد الأديب الكبير الاستاذ يحيى حقي الذي طالما وقف إلى جانب المظلومين فعينه في وزارة الثقافة بمكافآة مقطوعة ليعمل في هيئة تحرير مجلة «المجلة» ولكن ذلك لم يستمر طويلاً فما لبث المعداوي أن انقطع عن الحضور. وظل المعداوي منسحباً عن الحياة الأدبية بالجبر والاختيار معاً ويشعر أن كل شيء يتخلى عنه حتى مقهاه المعروف الذي اعتاده منذ كان طالباً أحس أنه لم يعد يقبل وجوده فيه إذ تقرر هدم مبناه سنة 1961م فانتقل بمجلسه إلى مقهى جيديد بشارع الدقي قرب مسكنه وأطلق عليه اسم «أنديانا» عرفه فيه كل الذين صاحبوه في سنواته الأخيرة النحسات. النهاية السريعة: وفي صيف سنة 1963م تكالبت عليه الهموم واشتد عليه مرض الكلى وضغط الدم وأصيب باكتئاب شديد من جراء الاحباط المستمر الذي يلقاه من الأعداء والأصدقاء على السواء، فهجر القاهرة وعاد إلى قريته وهجر معها كل ما يأتي من القاهرة من صحف ومجلات وكتب وإذاعة وأشعر كل الذين زاروه أنه لا يريد أن تكون له علاقة بأي شيء يذكره بالحياة الأدبية وأخبارها. وأمضى في قريته تسعة أشهر كأنه تطهر فيها مما لحق بروحه من أدران.. فقد كانت القرية بالنسبة له رمز الطهارة والنقاء ومثال الصدق والوفاء، وهي قيم كثيراً ما تضيع في زحام المدن.. عاد المعداوي إلى القاهرة في أوائل سنة 1964م وبدا وكأنه سيزاول حياة طبيعية إذ عاد يرتاد مقهاه ويقابل من بقي له فيه من أصدقاء، وعاد يذهب في الصباح إلى وزارة الثقافة ولكنه لم يجد في الناس ما كان يؤمل ولا في الثقافة. وساء ظنه بكل شيء حتى أعز مخلوق لديه قطعه حتى الحبيبة الشاعرة فدوى طوقان كفت عن السؤال عنه لأنها ظنت أنه أراد قطع علاقته بها عندما انقطع عن الكتابة إليها في الفترة التي أمضاها في قريته، ولم تصدق قصة مرضه، وعندما عرفت فدوى الحقيقة حاولت العودة قبيل وفاته لكن قطار حياة المعداوي كان أسرع من أن تدركه.. كان ماضياً نحو الموت، فكانت عودته إلى قريته رحلة يتطهر فيها هناك استعداداً للقاء ربه، وبالفعل مات أنور المعداوي في أول شهر ديسمبر سنة 1965م بعد أن تجاوز عامه الخامس والأربعين بقليل ليختم بموته صفحة في الفصل الأول من مآسي الأدباء والنقاد الذين تعرضوا للظلم بسبب حرب اليسار وخذلان اليمين وزادت من بعده الصفحات، وتوالت الفصول بازدياد عدد الضحايا، وهم كثر. رحم الله من مات منهم، ومتّع الله بالصحة والعافية ورد الاعتبار من لا يزال على قيد الحياة.