إنسان نقي وقلم جريء وقلب شجاع وناقد مثقف طموح، اقتحم الحياة الأدبية بقوة وجسارة وهو لا يزال بعد طالباً في قسم اللغة العربية بكلية الآداب ثم لم يلبث أن احتل مكان الصدارة بين نقاد عصره بل وأصبح في فترة من الفترات أكبر ناقد في العالم العربي، وهو لم يجز بعد الثلاثين من عمره، مارس النقد الأدبي بصدق وإخلاص وضمير، وهي مزايا اذا ما اجتمعت في شخص واحد خسر كثيراً من الناس وانفض السامر من حوله وابتعد عنه الاصدقاء وحاربه الكبراء والخفراء.. لهذا كان ظهوره في الحياة الأدبية كلمحة برق تألقت فجأة في السماء ثم اختفت، وذلك لأن هذا الناقد عاش حياته كلها بوجه واحد فكان كلمة صدق في وجه الرياء والكذب والنفاق، وكان في كل ما كتب شجاعاً شجاعة لم يحتملها الجبناء، فحاربه هؤلاء جميعاً وعزلوه عن قطيعه الأدبي حتى مات في عنفوان شبابه مقهوراً بعد معاناة طويلة من الوحدة والجحود والمرض. إنصاف وإجحاف إنه الناقد أنور المعداوي «1920 1965م» الذي شغل الناس في حياته بأدبه ونقده فاختلفوا فيه ولا يزال يشغل الناس بعد وفاته بأدبه ونقده وأسرار حياته ولا يزالون فيه مختلفين. فما صدر عن المعداوي من الكتب والدراسات ربما يفوق ما كتبه المعداوي نفسه في حياته الأدبية القصيرة ذلك لأن قيمة الأديب ليست في عدد ما كتب ونشر من كتب بقدر ما هي في قيمة ما كتب حتى ولو كان كتاباً واحداً، ولو كان هذا غير صحيح لما أقام المتنبي الدنيا ولم يقعدها إلى اليوم وقريحته لم تجد إلا بديوان واحد فقط خلده عبر العصور واندثر من بعده شعراء كتبوا عشرات الدواوين. وصاحبنا أنور المعداوي لم يصدر في حياته إلا كتابين أولهما «نماذج فنيه من الأدب والنقد» سنة 1951م عن لجنة النشر للجامعيين بالقاهرة والثاني صدر في بغداد وهو كتاب «علي محمود طه الشاعر والإنسان» صدر سنة 1965م قبل وفاة المعداوي بشهور.. صدر في بغداد بمساعدة الأديب الناقد العراقي الاستاذ محيى الدين إسماعيل الذي رأى رموز الثقافة والأدب في القاهرة يخذلون ذلك الناقد الفذ لا لشيء إلا لصدقه وجرأته وصراحته، أما الكتاب الثالث للمعداوي فقد صدر بعد وفاته وخارج القاهرة أيضاً أصدرته المكتبة العصرية في بيروت بعنوان «كلمات في الأدب» وذلك سنة 1966م. وهذا لا يعني أن هذه الكتب الثلاثة هي كل ما كتب أنور المعداوي، فهناك العشرات من مقالات المعداوي ومعاركه النقدية لا تزال مبددة في مجلات عصره التي كان فارسها الذي لا يبارى، وقد وعد الأستاذ رجاء النقاش في كتابه الذي جمع فيه رسائل المعداوي للشاعرة الفلسطينية «فدوى طوقان» انه سيجمع تراث المعداوي النقدي من الصحف والمجلات ويصدره في كتاب، ومضى على هذا الوعد عشر سنوات كاملة ولم ينجزه إلى الآن، نأمل أن لا يكون قد نسيه، لأنه بذلك الوعد سيكون قد جعل غيره ينصرف عن القيام بهذا الجهد فأرجو أن لا يكون قد ظلم المعداوي بذلك الوعد إذا هو لم ينفذه من حيث أراد أن ينصفه! في صحبة الأمناء ولد أنور المعداوي في قرية «معدية مهندي» التي يشتق منها اسم عائلته التابعة لمحافظة كفر الشيخ في شمال غربي دلتا مصر، ولا يذكر الباحثون في سيرته أكثر من أنه أتم دراسته الثانوية سنة 1939م، والتحق بكلية الآداب جامعة فؤاد «جامعة القاهرة حالياً» قسم اللغة العربية وأن له أخاً شقيقاً وآخر غير شقيق من أمه فضلاً عن أربع شقيقات وأخوين شقيقين من زوجة أبيه. وقد بدأ المعداوي يزاول نشاطه الأدبي منذ كان طالباً في كلية الآداب، وكان مثله الأعلى في ذلك الوقت أستاذه الشيخ أمين الخولي الذي كان معجباً به أشد الاعجاب. وعندما كوّن الخولي جماعةً أدبية باسم «جماعة الأمناء» سنة 1944م كان المعداوي أحد أعضائها ومن أكثر المتحمسين لها. يصف الدكتور علي شلش في كتابه القيم «أنور المعداوي» طبيعة دعوة هذه الجماعة فيقول «.. وقد كانت جماعة الأمناء وعلى رأسها شيخها الخولي هي صاحبة الدعوة إلي ربط الفن بالحياة من ناحية وربطه برسالة انسانية حياتيه من ناحية آخرى. وقد أتاحت لشباب أدباء الجامعة في تلك الفترة، وعلى رأسهم المعداوي، فرصة التعبير عن مطامحهم وتوجيه الفن والأدب وجهةً وطنية قومية. وربما قادهم إلى الالتفاف حول شيخ الجماعة ما لقنهم إياه من دروس فن القول، وما بهرهم به من قولٍ وجدلٍ وحجة، وما بثه فيهم من روح استقلالية تطلق العنان لكوامن الشخصية، قبل أن تثير فيها حب البحث والجدل». ولكن المعداوي الباحث دوماً عن آفاق جديدة للمعرفة، العامل باستمرار لتعميق وعيه وتطوير أدواته ما كان ليحصر نفسه طويلاً في دائرة واحده ينغلق عليها، لذلك نجده يتجاوز مرحلة أستاذه الخولي إلى التحليق في عوالم الندوات الأدبية والثقافية والفكرية التي كانت تمتلئ بها القاهرة في الأربعينيات الميلادية، وكان أكثر ارتباطاً بندوتي العقاد وطه حسين، وفي هذا الصدد يكتب عنه صديقه سيد العقاد:«كان المعداوي كثير التردد على ندوة طه حسين ثم كان حريصاً على ندوة العقاد من بدايتها إلي نهايتها. ومن خلال هذا أدرك العقاد مستقبل هذا الشاب في مجال النقد، فقرّبه إليه واعتنى به وجعله من خاصة تلاميذه، وآية ذلك أنه كان يعيره بعض الكتب النادرة التي كانت تضمها مكتبته الخاصة ثم يناقشه في المشاكل التي أثارها أصحاب هذه الكتب من أعلام الأدب ويطلب منه في بعض الأحيان التعليق عليها كتابةً». تمرّد على الاساتذة ومع ذلك فالمعداوي لم يجعل لهذا الحب والإعجاب الذي نشأ بينه وبين العقاد سلطاناً عليه، فقد تمرد على العقاد بعد ذلك وهاجمه بنفس الجرأة والشجاعة التي تعلمها في مدرسته ولم تمنعه أستاذية العقاد له من أن يقول رأيه صريحاً في شعره الذي اعتبره «أفكاراً منظومة». ويروي الكاتب المغربي الأستاذ عبدالكريم غلاب الذي كان زميلاً للمعداوي في جماعة الأمناء قصةً طريفة حول هذا الموضوع مفادها أن المعداوي اقترح متندراً على صديقه الشاعر ابراهيم ناجي انه إذا نظم ثلاث أفكار في ثلاث قصائد يضعها في بداية ديوان يقدمه لمسابقة مجمع اللغة العربية فإن هذا الديوان سيفوز بالجائزة الأولى لأن العقاد وهو رئيس لجنة التحكيم سيسر إذا ما قرأ الأفكار المنظومة في بداية الديوان!! يختلف الناقدان علي شلش ورجاء النقاش في تحديد مرحلة ازدهار أنور المعداوي، فيحددها الأول بست سنوات وهي الفترة «1947 1953م» ويحصرها الثاني في أربع سنوات وهي الفترة من «1948 1952» وإن كنا نميل إلى الفترة التي حددها الدكتور علي شلش باعتبارها اكثر دقة حيث إن غزارة إنتاج المعداوي وتألقه بدأت فعلاً قبل سنة 1948م وإنه ظل متوهجاً سنةً بعد الثورة المصرية بفضل أصالته وقدرته الذاتية حتى تكالبت عليه الظروف من كل جانب. وعلى أي حال، سواء كانت سنوات ازدهار المعداوي أربع سنوات أو ست سنوات فإن المحصلة واحدة وهي أن قيمة الانتاج الذي قدمه المعداوي والأثر الذي تركه في الحياة الأدبية في حياته وبعد مماته لن يتغير وسيبقي يشهد للمعداوي بضرب الرقم القياسي في النجاح، وفي القيمة الأدبية على قصر عمره في الحياة، وقلة السنين التي أتيح له أن يزدهر فيها في دنيا الأدب. صاحب الفضل الأول يعتبر كثير من الباحثين أن الأديب والناقد الكبير سيد قطب كان أهم من آمن بمواهب المعداوي وأول من أخذ بيده بقوة وقدمه إلى القراء في مجلة «العالم العربي» التي كان سيد قطب رئيساً لتحريرها حينئذ في أوائل الأربعينيات ويبدو أن المعداوي تعرف على سيد قطب في ندوة العقاد حيث كان سيد قطب في باكر شبابه من عشاق صاحبها وتلامذته، وشكّل سيد قطب والمعداوي في هذه الفترة تياراً نقدياً مؤثراً تميز بالجد والمثابرة والصدق والإخلاص والالتزام الأخلاقي الذي يضع قيمة العمل الفني فوق كل الاعتبارات ولا يقيم وزناً للعلاقة الشخصية مع المؤلف ومكانته الاجتماعية أو السياسية، وظل الثنائي قطب والمعداوي يمثلان الوجه النقي والناصع في الحياة النقدية في مصر حتى غادر سيد قطب مصر في رحلته الشهيرة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية تاركاً صفيه وصديقه أنور المعداوي يحمل العبء وحده ويتولى أداء الأمانة.. الأمانة التي ماكان سيد قطب يطمئن عليها في يدٍ غير يد المعداوي، ويتأكد مدى ثقة سيد في المعداوي والآمال التي يعلقها على تربعه على عرش النقد من بعده في رسالة بعث بها إليه من أمريكا نشر نصها لأول مره د. علي شلش مع رسالةٍ أخرى في مجلة «الكاتب» المصرية «العدد 173/ أغسطس 1975» يقول فيها سيد قطب في جواب على رسالة المعداوي صدرت بتاريخ «6 مارس 1950م من بريد واشنطن. أخي أنور كنت في حاجة نفسيه لرسالتك لأفرح لك وبك ثم لأصدِّق ظني فيك، فلقد كان الكثيرون يلومونني في مواراة إذ قدمتك للنقد الأدبي في مجلة «العالم العربي» وكنت أعرف ماذا أصنع وهم لا يعرفون! وإنك تزيدني فرحاً وغبطة إذا أنت بعثت إلي بين الحين والحين بقصاصات من مقالالتك في الرسالة في شتى الموضوعات. تنتظر عودتي لآخذ مكاني في النقد الأدبي؟ أخشى أن أقول لك ان هذا لن يكون! وإنه من الأولى لك أن تعتمد على نفسك إلى أن ينبثق ناقد جديد! إنني سأخصص ما بقي من حياتي وجهدي لبرنامج اجتماعي كامل، يستغرق أعمار الكثيرين.. ويكفي أن أجدك في ميدان النقد الأدبي لأطمئن إلى هذا الميدان! بهذه المناسبة: هل لي أن أذكر لك بعض أخطار الطريق التي بولتها فيه: إن أخطر ما في طريق النقد الأدبي، هو مغرياته الكثيرة وتكاليفه الشاقة، مغريات الصداقة والجفوة، مغريات الشهرة ولفت الأنظار، مغريات الملابسات الكثيرة في حياة الفرد وحياة الشعب. ثم تكاليف قولة الحق التي كثيراً ما يكون ثمنها غالباً. فهل لي أن أطمئن إلى أنك ستستيقظ بهذه الدوافع كلها، فلا تدع واحدة منها أو جمعيها تغشى صفحاتك بالضباب.. أرجو..وأدعو الله لك بالتوفيق..» والرسالة مهمة كما هو واضح ولها قيمة تاريخية بالنسبة للناقدين الصديقين سيد والمعداوي، فسيد قطب هنا يرشح المعداوي لخلافته على عرش النقد، ويبلغه بسر أخطر منعطف في حياته وهو أنه سيتفرغ لرسالة أكبر وأضخم من رسالة النقد وهي «الرسالة التي استغرقت عمره وأعمار الآلاف من بعده. أما المعداوي فقد عمل بنصيحة أستاذه وصديقه سيد قطب وواصل السير على درب النقد الأدبي يعمل بنفس الضمير الذي أوصاه به سيد قطب.. الضمير الذي كتبا به معاً في مجلة «العالم العربي» ثم كتبا به بعد ذلك في مجلة «الرسالة». وقد استمر المعداوي يكتب في «الرسالة» بعد ان تفرغ سيد قطب للدعوة الإسلامية والفكر الإسلامي. وقد أغار المعداوي على الحياة الأدبية بمقال مهم نشره في مجلة الرسالة العدد 772 بتاريخ 19 ابريل 1948م بعنوان «ظواهر في حياتنا الأدبية..!» وضع فيه واقع النقد الأدبي وجهاً لوجه أمام المرآة ليرى مدى القبح والانحراف الذي فيه. فقد أعلن المعداوي أن النقد الأدبي يجب أن يقوم على دعائم أربع أساسية وهي: «الثقافة» و«الذوق» و «التجربة» و«الضمير». وبنقصان إحدى هذه الدعائم الأربع لا يستطيع النقد أن يقف أو يستقيم بل سيظل يعاني من مرضه المستديم وهو «العرج» والكسح» ويقرر المعداوي بجرأة وصراحة: «أن أكثر الذين يتولون صناعة النقد لا يصلحون لها» ويعلل ذلك بأن بعض النقاد تنقصه الثقافة الرفيعة فهم من أنصاف المثقفين، والبعض الآخر تنقصه التجربة فهو من المبتدئين والنوع الثالث ينقصه الذوق المرهف فهو من ضعاف الملكة وقاصري الأداة. ويضع المعداوي هذه الأركان الثلاثة وحدها في كفه والركن الرابع وهو «الضمير» وحده في كفةٍ مقابله ويتساءل فيقول: ...«.. ماذا تجدي الثقافة.. وماذا تجدي التجربة وماذا يجدي الذوق إذا كان الضمير الأدبي لا وجود له؟!.. لا شيء يجدي على الإطلاق، لأن الضمير يوجه الثقافة فلا تجور، ويهدي التجربة فلا تضل، ويرشد الذوق فلا ينحرف». ويصف أصحاب الضمير الأدبي في عصره وكلامه ينطبق على كل زمان ومكان بأنهم فئة من ذوي الأهواء والأغراض يسيرون مع من يرون معه مصلحتهم الشخصية تسير ويصفقون لما لا يستحق التصفيق ويهتفون لما لا يستدعي الهتاف. ويخلص المعداوي إلى اتهام النقد الأدبي في عصره بأنه يفتقر إلى الدعائم الأربع السابقة الذكر مجتمعةً ويبرر ذلك بقوله :«.. لأن هناك المثقف المحروم من الذوق، فهو قد يوفق حين يقدم أليك نظريةً في النقد الأدبي، ولكنه يخفق إذا ما وصل إلى مرحلة التمثيل والتطبيق، ذلك لأن موهبة الذوق الفني عنده لم تنضج كل النضوج، والنقد في أصدق صوره وأكملها لا يقوم إلا على التوفيق بين القاعدة والمثال.. وهناك المثقف الذي لم يمد ثقافته بروافد من التجربة الكاملة، ونعني بها معالجة الكتابة في النقد الأدبي على هدى الإحاطة التامة بأصوله ومناهجه.. وهناك المثقف الذي تجتمع له الثقافة والذوق والتجربة ولكنه يتخلى عن ضميره لقاء غرض من الأغراض»!!