بداءة ليس هناك من تخوله الدراسة او الخبرة او الشغف ان يكون حكماً أمام القصيدة تلك الأبية الحرون، التي لا تريد ان تسلم نفسها عن طيب خاطر، مراوغة تبقى ومضللة إن أرادت، وهاربة حين تفرط في وعودها، وحين تمنينا بفرح الاكتشاف، مشرعة أبوابها للولوج الى عالمها المسحور.. أرض لم تطأها بعد قدم وإن جال فوقها آلاف البشر، وقصور ينسجها الوهم، وتعيد صياغتها الاحلام، زهور امسكت شكلها وثبتته على تفتح ابدي وعطر ليس ينضب او يهِن كل شيء ينعم بأزليته.. الصبا والشباب والشيخوخة وعبق الحزن ودفء الألم، لكننا ما ان نفرغ من جولة عابرة في ممالكها حتى تتفتح عيوننا كالناهض من قلب حلم - نفركها كي نشحذ قوة الابصار فيها، ونتلمس جعبة السهام خلف الظهر، علّنا نظفر بسهم اخير نسدده للقصيدة حينما تصيب الرمية التي هي بلا رامٍ. أهو اعتذار مسبق عن قسوة الملاحظة، أم وعيد قد لا يتبقى منه الا الضجيج؟ كيف ونحن حقيقة أمام «خطوات» لم ينقطع عنها لحظة حب ورعاية على مدى سنوات من جانب كل الذين اشرفوا عليها او حملوا مسؤولية تحرير صفحاتها، او خططوا لها ضمن سياسة عامة للصحيفة، وأفسحوا أمامها مجالا رحبا، حتى ثبتت الاقدام واكتسبت الخطوات ثقتها والتزامها، واصبح اصحابها فرسانا على الساحة الثقافية يشاركون بدور مميز او بسيط في الامسيات والمهرجانات والفعاليات الثقافية العامة.. كان من حسن الحظ ان شاهدت عن قرب بدايات اولية لمعظم الاصوات الشعرية التي تعبر عن نفسها فوق هذه الساحة الشابة حين كنت اشارك في تحريرها، مرت منذ ذاك اربع سنوات اتسعت خلالها المسافات لركض جميل، وامتلك الفرسان بقية العدة والعتاد وانضمت اليهم طلائع جديدة واضيف رصيد له اسهامه في اثراء حركة الشعر في الجزيرة. الملاحظة الاساسية على قصائد هذا العام، والتي لا تكاد تفلت منها قصيدة ان القصائد جميعا قد اتفقت موضوعيا على الكتابة بلون الحزن وانها قد اختلفت جميعها على ارتياد اتجاه المغامرة على صعيد الشكل، وبرغم تعدد الموضوعات - اغلبها عام عن الأرض والوطن والقضايا السياسية المعاشة، وبعضها ظل مقيدا بهموم الذات الشخصية التي تتململ احيانا باتجاه الموضوعية، او تلقي بنفسها احيانا اخرى الى استسلام للدوران في فلك الذات. ابحث الآن عن سبب: لماذا لامست معظم قصائد هذا العام اوتار الحزن بل كلها تقريبا، حزن طفا احيانا الى رأس القصيدة فحملته في عنوانها شارة وعلامة «اغنيتان للحزن - ابراهيم المعطش» او جاهر بوجوده صراحة في عبارات اشتقت الاسماء والصفات من مفردة «الحزن» واضفى لونه على كل المعاني، ليصبح الحب حزينا والفرح حزينا والمقام والارتحال والحركة والسكون. كل شيء.. أو اندس حسا غالبا وآسراً بين ثنايا الصورة والتشبيه والتلميح حتى سرى في اوصال القصيدة كلها؟ شعر/ بليزر ابيض في سطريها الاولين: جالسا وحدي في مساء الحزن في المقهى وخفاش لبليزر ابيض أيضاً اجري فيها نهرا من حب ينبع من دفء الاحزان. وتهويمات الخيال الرابض لمحمد محمود عبد الله: للتي اشرعت حزنها واستنامت. والوطن المنفي ابراهيم المعطش أيضاً.. ارفع الحزن علما.. واكتب فيه رماد احزاني، وترتفع نبرة ذلك الحزن، دون افصاح عن اسمه - لتصبح تبدداً وفناءً وسقيا الدم لأرض لم تعد تملك حق البكاء واللطم والنواح عند هاني محمد الحفظي في حكاية قديمة وطفولة في قفص - بقيد من لهيب وكهل يرضع دمعة، وطفل يقتات الجراح، وقلب مصفود حبيس عند ابن شريم في يا جارة الاصباح، اتأمل ما حولي، تنثر دمعاتي احزاني عند احلام الحميد في وتظل هي الذكرى، و«الوهم» لمحيي الدين عطية و«ميعاد» لبكر هارون وغيرها. وعلى رغمٍ من ذلك فإن «الاحزان» التي تفشت صراحة او تحت غلالات التهويم لم تحاول مرة واحدة ان تحتل موقع موضوع القصيدة وانما تظل مثل لحن شجي مصاحب، او مثل خلفية شاحبة في لوحة من مشاهد الطبيعة. اذن فما الذي جعل منها - تلك الاحزان - قاسما مشتركا لكل كتابات شعرائنا وعلى نحو يعيد الى اذهاننا آلام الرومانتيكيين واحزانهم؟ هل يمكن ان يشكل هذا التقاسم في «مناخ الهم» في القصيدة حساسية شعرية خاصة لدى الاجيال الشابة؟ هل يعود ذلك الى طبيعة مرحلة تخوض فيها تحولات اجتماعية كبيرة وتعاصر ظرفا سياسيا قاسيا يضع الفعالية العربية كلها موضع اختبار أمام التحدي الاسرائيلي السافر، المهدد بضياع اخير لفلسطين أم أن هؤلاء الشباب قد اغوتهم مقولات عن وجد الشعر، غناء الليل الجريح؟ هذه ملاحظات حين نغض الطرف عنها نقع على ثروة شعرية حقيقية، يضاعفها تنوع الموضوعات وتنوع الرؤى في الموضوع الواحد المشترك، وقليل من محاولات التجريب التي تحررت من نمطية الطرح في موروثنا الشعري. هنا تفرض نفسها بكل قوة قصيدة قصيرة جميلة وآسرة بالغة العذوبة والبساطة معاً وبالغة الجرأة والجسارة في مغامرة النمط. قصيدة فراشة الخريف الموقعة باسم «الفارس» يستخدم الشاعر لغة الوصف والحديث اليومي بكل عفويته وبساطته وعاديته في موضوع عادي وبسيط ليتحول هذا كله الى شعر فيه استحالة البساطة نقرأ في سطورها الاولى: ألفت الاعتذار اصبح جزءا لا يتجزأ من حياتها كتبت رسالتها العاشرة بعد الألف حبيبي اعلم بانشغالك الشديد فاعذر تطفلي لكنني قمت بإعداد الشاي الاخضر ها هو أمامي على المنضدة وقد سكبت لك كوباً منه بدون سكر فإن فكرت في القدوم فستجده في انتظارك اعتذر بشدة لكثرة رسائلي لكنني واثقة انك سترد اذا ما وجدت فرصة لذلك.. ليت القصيدة يعاد نشرها، فهذه المرأة حالة مؤسية، لم تستوعب فقد الغالي فألقت بنفسها في قلب الوهم وعاشته حلما ابديا لا يهدده فناء، تحملنا إليه عبر القصيدة فعشرون سنة قد مرت «ألف رسالة» وما يزال الشاي الاخضر ساخنا، نشم معها فيه رائحته كذا تعلمنا القصيدة ان الشعر ليس هو الكلام الموزون المقفى وانما هو الروح الكامنة، والحس المؤجج في ضمير كل شيء، والشاعر فارس مغامر يجيد السير بمهارة البهلوان فوق خيط رفيع يفصل ما بين الشعر وبين النثر انحرافة بسيطة تلقي به في وهاد النثر او اخرى تحمله الى غنائية الشعر المفرغ من هذا الوجد، شاعر حقيقي لم يعد ينقصه الا تخليص القصيدة من تزايدات طفيفة وامتلاك اكبر لقدرة ضبط الموسيقى، وهما مطلبان قادمان اليه لا محالة ربما في اول قصيدة يكتبها بعد هذه القصيدة. من الحالة الخاصة عند الفارس الى الحالة العامة ينقلنا بموهبة شعرية مميزة، «ابراهيم المعطش» في ثلاث من قصائده يختلف العنوان من واحدة الى اخرى ويكتسب الهم - نفس الهم - تعميقا جديدا من واحدة الى اخرى، نعرف ان المرء يمكن ان يطرد او ينفى من وطنه، ولكن ابراهيم المعطش يعلمنا انه اشد قسوة من هذا النفي، ان يبقى المرء وينفى من داخله الوطن. هل يكون حس الاغتراب هو نفسه في الحالين ام ان نفي الوطن من الذات يعطي للمأساة بُعدها الكوني؟ أدوات المنفي من وطنه بحر وشراع، وسفينة وحلم بشاطىء ولكن عند شاعر الوطن المنفي حين يغني للحزن: عندما يبكي الغيم ويتثاءب قوس قزح عندما تنهد الفراشات أمام عرى هذا الضوء احس ان الزمان خيمة البدوي وتقطفها ريح الشمال ..... اجنح اليك من بكارة الكلمات اضع عيني على نظارة البرق وأوسوس للسديم وارفع الحزن علما واكتب فيه رماد احزاني هذا البعد الكوني الذي يناسب عكس الشاعر لمعنى النفي قد امده بصور شعرية متلاحقة موصولة بعضها ببعض لتشكل النسيج الكامل للغة القصيدة ولتشير بعبارات تحتها خطوط عريضة اليه كشاعر اكتملت بين يديه ادواته، ومفروض انه قد تخرج في ساحة ال«الخطوات» منذ زمن. بدوره له مغامرة شكلية في قصيدة «الوطن المنفى» يقسمها الى اجزاء «أ، ب، ت، ث، ج» رغم ان القصيدة بالغة القصر شديدة التركيز مثل طلقة بندقية ومن ثم لا يحتمل جسدها التجزئة غير ان الشاعر يرود مغامرته بنجاح حين يخصص كل جزء لزاوية مخالفة للرؤية من ذات الشاعر في «أ» الى الغائب الوطن الى جمع ال«نحن» الى مناجاة النفس للنفس حين يكون الغضب والرفض قد بلغا ذروة الدرجة التالية لها هي اليأس واطراح القضية والنوم الهادىء «فوق الحمم» فجزء اخير، كتعليق الكورس الختامي الذي لا يخلو من الحكمة. ث: انا لا اريدك ان تحزن. أريدك ان تشرب قهوتك السوداء - مثل جرحك - وتنام بهدوء وتحضن سيفك وتلمعه وتروض هذا الحجر الثائر في قلبك وتنام وملء قلبك ابتسامة ج: «ان هذا العشب ناقم» فقد قرع الحطاب جفونه» يحتاج ابراهيم المعطش تناولا مخالفا هو جدير به في سياق غير هذا السياق والى جوار قصيدة لابراهيم المعطش «نامي يا حبيبتي» في نفس العدد نشرت خطوات قصيدة لاحلام الحميد «وتظل.. تظل هي الذكرى» تجربة مخالفة تماما لتجربة المعطش بالغة الطول، عكسية الاتجاه، فالمعطش يستمد اسباب ثورته من نظرة تتجاوز الحاضر الى غد بعيد اشد قتامة، واحلام الحميد ترتد الى ذاكرة ضاربة في اغوار سحيقة تستمد منها اسباب الشجن، والمعطش ينهل من داخله كل ما يلهب به الكون خارجه فيما يعد موضعة للذات، واحلام الحميد تكرس كل ما يقع خارجها لخدمة الذات. قد كنت الزهر لوالدتي وأبي قد كنت رفيقته قد كنت أثيرة جداتي قد كنت صغيرة عماتي قد كنت شقاوة خالاتي قد كنت حمامة اعمامي وملكت قلوب أصيحابي فسرحت بدنياهم مرحا ادخلت لقلبهم فرحا وطبيعي ان يؤدي هذا التكريس الى تكرار حسي بالغ طالما ان الذات لا يتم تشكلها الا من تعداد حصري لجزئيات العالم الخارجي من العمة الى الخالة والاصحاب، وتنثر احلام موضوع قصيدتها فوق مسارات قصة غير قصيرة او رواية تعتمد فيها الحكائية القصصية والتأريخ الزمني للاحداث.. هنا أيضاً مغامرة خطيرة فهذا النمط لكتابة الشعر يمكن ان يقود قسرا الى نثرية ممضة لولا ان احلام بذلت قدرا كبيرا من الوعي والحرص لكي تجير كل شيء في النهاية لحساب مكانة الغائبة فيما يعد نوعا من الاحتفائيات الخاصة، وان تتجاور تجربتان على صفحة واحدة، مختلفتان شكلا وموضوعا اشارة بالغة الاهمية الى مدى الحدب وموضوعية المواقف في رعاية كل الاتجاهات بنفس القدر من قبل المشرفين والمحررين. وشروق السعيد شاعرة تشق طريقها بقوة، وها هي قد اصبحت صوتا مشاركا في مهرجان وطني كبير كالجنادرية من ضمن قصائدها التي قرأت «على اعتاب منزلها» القصيدة جيدة والقصيدة تجربة محكمة، استوت فيها فعالية الشعر ونضجت الصياغة، وسلمت الموسيقى ورغم ان الشاعرة تعتمد فيها اسلوب القص الشبيه بقصص المفاجآت والمغامرات البوليسية فهي قد حشدتها - تعويضا عن هذا الشكل - بصور شعرية تتدفق متلاحقة كادت تنسينا سياق القص، هي تدرك هذا الاختيار وتعي عواقبه، ولذلك تمهد للقصيدة بمقدمة نثرية تقول فيها: «أحبها الشاعر بكل الصدق فأهدى إليها قصائده وسهر الليل مختبئا رغبة منه في رؤية ردة فعلها عندما تقرأ القصيدة ولدهشته علم من القمر ان محبوبته مغرمة بأبيات شاعر آخر ولما التقى به فوجىء شاعرنا ان الآخر لم يكن سوى سارق لشعره، وهنا تبدأ القصة.. وتأتي القصيدة كلها لتقول لنا ان سارق الشعر لم يكن الا قلب ذات الشاعر يغني اشعاره! طبيعي ان كل الشحنات الانفعالية التي كان من الممكن ان تخدم تجربة الشاعر المحب وتعمق الاحساس بها قد انصرفت الى حبكة القص وإحكام المفاجأة، ليبقى السؤال: هل يحتاج الشعر الى دعم القص وتآزر الاشكال الفنية المختلفة ام ان الشعر هكذا يتنازل عن بعض هويته لحساب فن آخر مثل القص، هو لم يقصر في استلهام لغة الشعر متى ما شاء عند عديد من كتاب القصة نهضوا بلغة القص عبر تبني صياغة الشعر.. القصيدة بدورها تجربة مخالفة ومغامرة تؤكد على رغبة جيل شاب في تأكيد هوية خاصة له. ومن التجارب بالغة التميز قصيدتان قصيرتان لشاعرين يصعب التمييز بينهما شكلا وموضوعا «تهويمات الخيال الرابض» شعر محمد محمود عبد الله «ورؤيا» شعر بليزر ابيض. الاول تتجسد له الغائبة الضائعة ضمن تهويمات الخيال الرابض الذي لا يفارقه امرأة لم تزرها الحكايات يهدي قصيدته إليها، «العصور من النزف هلت، توقع في خطوتي كل حلم عصي للتي قايضتني عن اسمي فكنت بها سنابل فرحي وأرض يهل بها الجرح شرقا وتومض فيها جذور المساءات وجدا لعشرين جرحا وعشرين نزفا والثاني يرى الغائبة الضائعة عبر رؤيا ضبابية انتزعته من الوعي - من خلال شيخ تجسد له ألقى نفس الحكاية الطويلة المكرورة التي يتلاشى النصح والموعظة فيها مثل ضباب بددته شمس الواقع بكل جمود.. ولكن القصيدتين معا ومعهما عدد من القصائد التي تناولت القضية مثل: «حكاية قديمة» لهاني محمد الحفظي بنقائها اللافت وسمو لغة الشعر فيها هذه القصائد بكل بهاء الشعر المصفى فيها تؤكد على درجة عالية من الوعي قد اصبح يملكها شبابنا ويتفاعل بها مع الاحداث ويعبر عن ذلك بلغة راقية وناضجة. كنت اقول في البداية ليس هناك من تخوله الدراسة او الخبرة او الشغف لاصدار احكام بإزاء الشعر، اعتراف بأن كل ما نكتبه عن الشعر لا يعدو ان يكون تجربة خاصة لتذوق الشعر تختلف من واحد الى آخر، ليس مطروحا فيها جيد او رديء وصواب او خطأ الا في حدود عامة بسيطة، وانما يبقى الامر كله اختلاف في الذوق والتجربة ومع ذلك ازعم بكل قوة ان حصاد «خطوات الشعر» لهذا العام - لم تتسع المساحة له كله - يشكل عطاءً وفيراً وقيماً لمدرسة الشعراء على صفحات الجزيرة الغراء.