منذ أن بدأ حربه على الإرهاب لم يعد الرئيس بوش يظهر أقل قدر من الازدواجية في استراتيجيته، واعتاد أن يرسل رسائل قوية لأعدائه وأصدقائه على حد سواء، إلى أن أقحم في الاضطرابات الخطرة بالشرق الأوسط خلال الأسابيع القلية الماضية. وعندما ظهر الرئيس من جديد، هنا في مزرعته بتكساس، بدا مرة أخرى ضابطا إيقاعه إذ عليه أن يحاول جاهدا للتأثير على أحداث الاراضي المحتلة التي لايملك حيالها كثيرا من النفوذ. وقد استخدم هذه المرة أقوى لهجة له على الإطلاق لدعم رئيس الوزراء الإسرائيلي شارون ولإدانة ياسر عرفات رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية. وعلى الرغم من أن الرسالة جاءت قوية إلا أنها أعقبت جلسة مطولة لمجلس الأمن القومي أعرب فيها كبير مستشاري بوش مجددا عن شكوكه في أن استراتيجية شارون سوف توقف الهجمات الفدائية أو تجبر عرفات على العودة إلى طاولة المفاوضات طبقا لما ذكره مسؤول بالإدارة الأمريكية، وهنا يقع الرئيس بوش في ورطة، فلكي يحتفظ بموقف صلب ومتناسق ضد الإرهاب ليس لديه خيارات كثيرة غير شجب عرفات بقوة لفشله في وقف الهجمات الفدائية، لذا فقد طلب بوش من عرفات أن يطالب باللغة العربية بوقف الهجمات الفدائية وان يستخدم حرسه الذي يحيط به للقضاء على الفدائيين وأسلحتهم لكن السيد عرفات تجاهل مثل هذه الدعوات. ويقضى منطق بوش أن يعامل الزعيم الفلسطيني بنفس الطريقة التي عوملت بها القاعدة وطالبان وهي نقطة تكررها إسرائيل يوميا ، ولكن في هذه الحالة وكما يعترف بعض مستشاري بوش قفز هذا المنطق إلى مقدمة الأولويات الأخرى، ولحشد تأييد عربي لمواجهته الوشيكة مع العراق يعرف بوش انه لن يستطيع أن يحيد دولاً عربية أخرى، تصاعدت فيها نبرة العداء لإسرائيل بوضوح وإلحاح إلى جانب متطلباتهم بأن يقوم الرئيس بوش بكبح جماح حكومة شارون. وذكر أحد المشاركين في مباحثات الإدارة الأمريكية إن الرئيس يواجه سلسلة من الاختيارات السيئة على خلاف ما واجهه منذ الحادي عشر من سبتمبر، وهناك الكثير من الأمور التي لم تحسم بعد هنا، وربما كان هذا هو السبب في أن «رسالتنا بدت كما لو كانت غير واضحة تماما»، وتعد هذه طريقة لطيفة لعرض الأمر، فمنذ أسبوعين ونصف فقط قام الرئيس بوش بتعنيف شارون علنا بسبب عمليته العسكرية في الضفة ووصفها بأنها لا تصب في صالح الجهد المبذول من اجل التوصل إلى وقف إطلاق النار من قبل الطرفين واستكمال مسيرة السلام التي وصلت إلى أدنى مستوياتها في تسع سنوات، لقد كان هناك العديد من القنابل والموت والدماء، وعلى الرغم من ذلك فقد لوحظ أن الرئيس بوش اختصر الطريق عندما وصف شارون بأنه زعيم اختير بطريقة ديموقراطية وهو «مسؤول شرعيا عن الاستجابة لإرادة شعبه» من اجل المزيد من الأمن. جدير بالذكر أن بيان الرئيس بوش جاء عقب مشاركته في اجتماع لمجلس الأمن القومي، وربما محادثة خاصة مع والده الرئيس السابق الذي كان يقضي إجازة في مزرعة ولده وقد ظهر الرئيسان على الملأ مرة واحدة ولكنهما لم يقولا شيئا إذ غادرا مع عدد آخر من أفراد عائلاتهما. ولم تناقش نصيحة الرئيس السابق لولده هذا إذا كانت هناك أية نصيحة مع أي من مساعديه، ويصر معظمهم على أنها لغز بالنسبة لهم أيضاً، وعلى الرغم من أن الرئيس بوش قرر أن يؤكد تأييده لشارون أثناء اجتماع مجلس الأمن إلا انه وكما لاحظ أحد كبار مسؤولي الإدارة «لم يقل شيئا يؤيد تكتيكات رئيس الوزراء»، ومما يثير الفضول أن الرئيس بوش لم يشر أيضا إلى حقيقة أن الولاياتالمتحدة صوتت صبيحة نفس اليوم لصالح قرار الأممالمتحدة الذي يدعو إسرائيل إلى سحب قواتها، لقد كان إغفالا لافتا للنظر أثار تساؤلات حول ما إذا كان السيد بوش يتعجل رفع الضغط عن عرفات، ربما كانت تعديلات الرئيس بوش المستمرة في سياسته تجاه الشرق الأوسط مثيرة للدهشة لأنه اعتاد دائما أن يكون اكثر الرؤساء التزاما بالسيناريو، ونادرا ما يحيد عن النص وهو يحب الحديث عن الأمور اليقينية والمتناقضات «بين الشروالخير» أو عن الدول التي «أما معنا او علينا»، إلا أن قضية الشرق الأوسط التي تحتل أولوية اهتمامات الرئيس الآن بدت كما لو كانت تقوده عادة إلى تلاوة صلواته، وذكر ستيفن بي كوهين الخبير بشؤون الشرق الأوسط في معهد بروكينجز انه «عندما أرسل نائب الرئيس إلى المنطقة بدا تحذيره لشارون مشوبا بالحذر». لقد كان الحصول على تأييد لضرب العراق على رأس قائمة نائب الرئيس ديك تشيني وبدت قضية الشرق الأوسط كما لو كانت عاملا مشتتا، ويجادل كوهين الآن بشأن «تراجع العراق إلى الوراء قليلا، وانك لترى بوش يتصرف بغريزته الخاصة التي قادته حتما إلى المقارنة بين الهجمات على إسرائيل وهجمات سبتمبر على الولاياتالمتحدة»، هذا المفهوم يتطابق تماما مع غريزة السيد شارون وإسرائيليون آخرون حاولوا تغذيته لدى الرئيس بوش. وقد تحدث شارون عن «تدمير البنية الأساسية للإرهاب» وهي الكلمات التي صاغها بيان بوش نفسه. وذكر بنيامين نتانياهو، اليهودي المتشدد الذي يأمل في العودة إلى السلطة كرئيس وزراء متحديا شارون في آخر هذا العام، في حديث لمحطة إن بي سي أن «أول شيء فعله الرئيس بوش هو انه أعلن: «أننا متجهون إلى الحرب وتغيير الوضع على الأرض ماديا» عن طريق إسقاط طالبان من السلطة في أفغانستان، وقد استخدم نتانياهو المقارنة لإثارة الجدل بشأن نفي عرفات، ولا يبدو أحد في إدارة بوش مؤيدا لهذه الاستراتيجية لكن الانقسامات حول ماذا بعد، بدأت تتصاعد بوضوح، حتى في البيت الأبيض الذي طالما افتخر بقدرته على إخفاء شقاقه الداخلي، وبدا بيان الرئيس بوش في عطلة نهاية الأسبوع وكأنه يحمل أصداء وجهات النظرالتي سمعت في معسكر السيد تشيني في البنتاجون، لقد كانوا متعاطفين في اغلبهم مع شارون وطالبوا بأن يعطى اكبر نطاق ممكن لمواجهة الرعب اليومي»، وذكر مسؤول كبير بوزارة الدفاع: «لو أن هؤلاء الفدائيين فجروا أنفسهم في نيويورك لكان جل اهتمامنا سينصب على إيقاف ذلك وليس أي شيء آخر»، ولفت آخرون إلى أن الرئيس بوش لديه إحساس داخلي بأن السيد عرفات الذي لم يلتق به أبدا غير جدير بالثقة بالمرة وذكر مسؤول «انه لا يعتقد أن عرفات قد أوفى بوعوده أبدا» وتعد هذه الصفة من الكبائر في عالم الرئيس بوش، وعلى الطرف الآخر للجدال نجد خبراء الشرق الأوسط خاصة رجال الحكومة الذين يشاركون السيد بوش عدم ثقته في الرئيس الفلسطيني لكنهم يشكون بأن استراتيجية شارون لن تؤدي إلى أي شيء غير مزيد من الهجمات الفدائية والتراجيديا، وحتى لو استطاع السيد شارون القبض على أو قتل قيادات الإرهاب، فان هؤلاء يرون أن عمليات الجيش الإسرائيلي لن تؤدي إلا إلى تراجع الهدف الأكبر وهو بدء مفاوضات السلام من جديد، وحذروا من انه كلما امتدت العمليات العسكرية كلما تقلص التأثير الأمريكي في المنطقة، ويناقش هؤلاء إمكانية تبني منهج (وساطة) أوسع وأقوى ربما يرأس حربته وزيرالخارجية كولين باول (توجه للمنطقة امس الاحد) بدلا من الجنرال أنطونى زيني مبعوث الشرق الأوسط، وبينما يزن بوش هذه الاختيارات يواجه جدلا آخر من قبل الجناح المحافظ في حزبه، جدلا يركز على سؤال إذا كان يسمح لنفسه بان يتم دفعه إلى إدارة صراع الشرق الأوسط يوميا وهي تهمة وجهها هؤلاء ضد الرئيس كلينتون، ونقداً يقترب من المساس بصميم فريق مساعدي الرئيس بوش. ومن جانبها قدمت صحيفة وال ستريت في افتتاحيتها قراءة عن قرب لما يحدث في داخل البيت الأبيض، وشددت على أن مستنقع الشرق الأوسط يمكن أن يشتت الرئيس عن حربه الأوسع ضد الإرهاب. فيما أطلقت صحيفة ستاندرد، تحذيرا محافظا آخر أثار جدلا موازيا عندما أطلقت على الأسبوعين الأخيرين مقولة «إنها ساعة الهواة في الدبلوماسية الأمريكية»، وعلى هذا يتم نظريا شراء اشهر قليلة من الهدوء النسبي في الشرق الأوسط، ولا يوافق على هذه الرؤية كل المحافظين فيقول بعضهم ما لم يعرب الرئيس بوش عن اقتناع رغبته في أن يتصرف كصانع سلام ويوضح الطريق إلى كل من إقامة دولة فلسطينية وأمن إسرائيل فلن يستطيع أن يتحرك ضد العراق على الإطلاق، ومن الطبيعي إلا يقبل البيت الأبيض كلا الانتقادين، وقد شدد أحد المسؤولين في الإدارة الأمريكية عقب حديث الرئيس بوش «يمكننا أن نركز على الإرهاب وأيضا على مسيرة السلام، المشكلة هي أن في كل مرة يولد شيء جديد نفاجأ بهجوم فدائي يخرجه عن مساره، هذه هي مشكلتنا الحقيقية». كريستيان ساينس مونيتور - خاص