بكل صراحة لا أحد يجيد تفنيد التهمة رغم التَّلبُّس مثل اليهود، في المقابل فلا أحد يجيد إدانة ذاته رغم البراءة مثل العرب. فالمسألة كما أعتقد ثقافية في الأساس، ففي الوقت الذي تجد العربي (يخطب!)، تلقى اليهودي (يخاطب)، وشتان ما بين الخطابة والتخاطب. فرغم البيان ورغم البلاغة، فالخطابة (نفسيا) رسالة ذات مسار واحد، وذلك لكونها في الغالب لا تسعى إلى تحقيق أهم متطلبات التلقي، من شد انتباه، وتأسيس اتصال بين المرسِل والمُستقْبِل وخلافهما. أما التخاطب مقارنة بالخطابة فهو عبارة عن رسالة إيحائية مباشرة إلى السامع المحدد سلفاً، كنهها إشعار هذا المخاطب (بالتفرد والمساواة والاهتمام)، وعوامل كهذه كفيلة بتأسيس اتصال فاعل بين المُخاطِب والمخاطَب، حيث تجعل من الرسالة (فصْل خطاب) مقنن موجّه نحو الهدف، لا شيء غير الهدف، فالتخاطب هنا يتألف من مسارين، بتغذية مرتدة تفاعلية تجعل من المشاهد يحس كأنه المعني ذاته بالمعلومة المرسلة. بناء على ذلك فيصح القول: إن العربي حين (يخطب)، فهو يخاطب التاريخ والجغرافيا، بينما تجد اليهودي يخاطب علمي النفس والاجتماع، وأقصد بذلك مناقشته الموجزة لحيثيات ذاته، بمعنى أنها محشوة بالجرعات النفسية، فضلاً عن أنها محددة الغايات، ومهندسة الوسائل. ففي حين يجهد العربي ليقنع المذيع، تجد اليهودي يتخطى المذيع ليخاطب الهدف: المتلقي ذاته، حاضراً أكان أم سامعاً، أم مشاهداً. جدير بالذكر أن (الجاحظ) وغيره كثير قد تطرق للعديد من مقومات الخطابة، وشروط وطرائق اجادتها، حيث تتناثر في أجزاء عدة من (البيان والتبيين) العديد من العناوين المتمحورة موضوعاتها حول هذا الموضوع، من ضمنها على سبيل المثال: «أمراض الكلام..، ما يكره في الخطباء..، ما يمدح في الخطيب..، مدلول الخطبة المتكاملة..، أسباب تفوق العرب على غيرهم من الأمم في الخطابة».ورغم ذلك (ومع الاعتذار لأبي عثمان..!)، يجب القول هنا إن «لكل مقام ثقافي طروق مقال وطرائق خطاب. وفي هذا الصدد أذكر أن طالباً سعودياً قد سألته طالبة أمريكية عن الحجاب، فأبلغها عنه بقوله هذا هو الإسلام: (This is Islam). ومما يبدو فلا شك أن حسن نية هذا الطالب، غير أنه لا شك أيضاً في خطأ استراتيجيته الخطابية الثقافية، فلم يحسن التصرف كما يجب فينطلق من واقع الفرد الثقافي وبعد التهيئة يعود إليه، ليُلقي في (أفهامه) ما يشاء من واقعه (هو) الثقافي. بل إنه أضاف بعبارته (الإلجامية!) هذه إلى جهل الطالبة بالإسلام (غضب جاهل!)، استدلالا بأنها أجابته بحدة واضحة المضامين بالقول بما معناه: أعرف ذلك (I know that). وفي موقف كهذا، فليس من العسير استشفاف (موت) الاتصال الفاعل، لولا أن زميله الآخر قد بادر بإنقاذ ما يمكن انقاذه، حيث إنه بكل هدوء سألها أولاً عن اسمها، ثم خاطبها بما مفاده إن لم تكن «الكاثوليكية» ديانتها فبالتأكيد أن لديها عنها من المعلومات ما يكفي، وعندما أوضحت بأنها كاثولوكية، بادر فسألها عن مضامين تبتُّل الراهبات والرهبان، وعن أسباب ارتداء الراهبات لأزياء تختلف عما ترتديه هي رغم كاثوليكيتها؟ وبعدها أجابت بالقول إن تختلف عما ترتديه هي رغم كاثوليكيتها؟ وبعدما أجابت بالقول إن أسباب ذلك دينية، لم يضع الفرصة حيث استغل هذه الثغرة النفسية بطرح سؤال تفنيدي نصه: أوَليس من حق المرأة السعودية أن يكون لها دين تلتزم بأوامره ونواهيه مثلما تفعل الراهبة؟.. هنا انتهى الموقف باعتذار السيدة عن سوء فهمها، لتتمتم وهي تهم بالانصراف بما مفاده: من المفترض أن أقرأ أكثر وأكثر..! في المقالة القادمة، تختتم شدو إن شاء الله هذه السلسلة من المقالات بمجموعة من المضامين والتساؤلات المشتقة مما تم استعراضه حتى الآن.