جائحة كورونا إذا ما أخذنا الأزمات الاقتصادية السابقة التي ضربت اقتصاد العالم الرأسمالي كمثل حي، يتضح أن (الصاعقة) الحالية تعد في قوتها وشراستها غير مسبوقة في العصر الحديث. لذا فإن المشهد الاقتصادي الدولي في زمن الجائحة وبعد أن تغرب شمسها سيكون مختلفاً لا محالة عن زميلاتها السابقات، هذا لأن الاقتصاد الدولي تعرض لضربة موجعة نتيجتها إحداث زلزال قوي في الأركان الأساسية التي يعتمد عليها النظام نفسه. ورغم أن التوقعات قبل هذه الصدمة (القاتلة) تتوقع نمواً مقبولاً للاقتصاد الدولي تبلغ نسبته في عام 2019 حوالي (2.9) في المئة، يزيد عام 2020 إلى (3.3) في المئة إلا أن (هدير) الجائحة غير الصورة فقد سبب صدمة كبيرة للاقتصاد العالمي، الأمر الذي جعل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تذهب إلى تخفيض توقعاتها للنمو عام 2020 لتبلغ (1.5) في المئة. تلك التوقعات متفائلة إلى حد كبير فقد جاءت وهدير الجائحة لا يزال في بداياتها، فقد تطورت لتصبح كالسيل العارم الذي يجرف معه كل من أمامه، فهي على ما يبدو افترضت أن الركود الاقتصادي الذي تعرض له الاقتصاد الدولي في الربع الأول من هذا العام سوف يتم تعويضه في الربع الثاني، لكن جاءت النتائج عكس ذلك تماماً. لماذا الاقتصاد تلقى ضربة مدمرة لم تكن بالحسبان، كانت مفاجئة للجميع، فعلى سبيل المثال لا الحصر قطاع صناعة السياحة والسفر ضربته خسائر اقتصادية غير مسبوقة، فالدول أغلقت مطاراتها وحدودها، فكانت الضربة موجعة لقطاع الطيران، ولم يكن أمام شركات الطيران سوى تقليص عدد رحلاتها الجوية بشكل كبير وأقدمت على الاستغناء عن عدد كبير من موظفيها. إغلاق الحدود بين الدول وقضية العزل والحجر الصحي بشكل صارم أدى إلى إغلاق قطاعات اقتصادية عدة، كان نتيجته الحتمية بروز عاهة البطالة والفقر والعوز، ناهيك عن الخسائر المادية التي تكبدها قطاع السياحة والسفر التي بلغت حوالي (1.2) ترليون دولار وقد تبلغ (3) ترليونات دولار، إذا استمرت الجائحة ل (12) شهرا نصيب أكبر اقتصادين في السياحة أمريكا (187) والصين (114) مليار دولار، وهذا على ذمة هيئة التنمية والتجارة التابعة للأمم المتحدة. يتضح أن السياحة والسفر توقفتا، ومثلهما عجلة النقل وبورصات العالم اهتزت، وعجلة الاستثمار تضررت، والبطالة والفقر توسعت، وشركات كبيرة ومتوسطة وصغيرة بعضها أفلس أو تعثر في سداد ديونه، وامتد الضرر البليغ ليطرق باب أسعار السلع الاستهلاكية ليصيبها نوع من الارتفاع المبرمج ضد مصلحة المستهلك صاحب الحق في رقابة الدول على تلك السلع. وإذا كانت تلك السلع نالت نصيبها من الزيادة غير المبررة، فإن سلعة واحدة رغم أنها أعظم وأهم سلعة في التاريخ الإنساني (النفط) قد نالت نصيبها من انحدار سعرها بسبب تدني الطلب عليها تزامناً مع توقف حركة النقل بشكلها العام، كان سعره قبل هبوب عاصفة الجائحة يدور في متوسط ما بين 65 و 75 دولاراً للبرميل، وعندما اشتد وقعها تدنى سعره ليبلغ أقل من الصفر بالنسبة لخام غرب تكساس لكن هذا الجواد (الحر) عاد ليفوز بالسباق ليرتفع سعره كاسراً حاجز (44) دولارا للبرميل، والعربي الخفيف (45) وخام غرب تكساس (41) دولارا للبرميل والسعر معرض لمعاودة الارتفاع أو الانخفاض وسيبقى يصارع من أجل البقاء. البورصات الدولية تقودها بورصة نيويورك تعرضت لخسائر لاتقل بفداحتها عن الخسائر التي شهدتها عام 1929 في يوم الثلاثاء (الأسود) وفي عام 2008 مثلاً إبان أزمة الرهن العقاري، فأسواق الأوراق المالية واجهت كارثة محققة، وامتدت الخسائر إلى أسواق المال العربية التي اهتزت عروشها وخسر المستثمرون خاصة صغارهم نسبا كبيرة من أموالهم المستثمرة في تلك الأسواق لتعوبهم الذاكرة في ظل أزمة كورونا إلى خساراتهم السابقة وتحديداً عام 2008. والعقار (مخزن الثروة) هو الآخر لم يكن بمنأى عن الطوفين فشركاته التي تحتضنها بورصات العالم تدنت أسهمها، وهي (العقارات) بيعا وشراء وتأجيراً لم تكن أسعد حظاً، فقبل بزوغ شمس المحنة كان المعروض يتوافق مع الطلب إلى حد كبير وبعد هبوبها تغلب العرض على الطلب وبرزت اللوحات للبيع وللإيجار حتى بلغ العرض الثريا وسكت صوت الطلب، ليبعث مؤشراً خطيراً جداً لهذه السوق الواسعة. أما ميدان الزراعة فحدث ولا حرج فالمزارعون وقعوا في فخ الجائحة، فمع غلق الحدود عالمياً وحتى الطرق بين مدينة وأخرى أصبح المزارع غير قادر حتى على مواجهة تكلفة الزراعة والحزن يؤلمه وهو يرى ما حصده قد يزيد حتى عن أعلاف ماشيته إذا كان يمتلكها فزادت خسائرهم مما أدى إلى إفلاس البعض منهم. ورغم ما قامت به دول المنظومة الدولية من جهود لكبح جماح هذا البلاء وفي مقدمتها أمريكا وأوربا وضخت ترليونات الدولارات للتغلب على بعض سلبيات هذا المرض العضال على اقتصاداتها، فأمريكا مثلاً ضخت في عروق اقتصادها أكثر من (3) ترليونات دولار، ويتحدث وزير الخزانة عن ترليون رابع، والاتحاد الأوروبي من جانبه اعتمد وصفة للتعافي من آثار الجائحة بلغت قيمتها (750) مليار يورو، (859) مليار دولار، إلا أن كورونا على ما يبدو لا زالت في ريعان شبابها وتنذر بشر مستطير على كل اقتصادات الدول. ومع ضخ هذه المبالغ الفلكية إلا أن التوقعات التي يسندها صندوق النقد الدولي تذهب إلى القول إن المبالغ المطلوبة لتحفيز الاقتصاد الدولي أكثر بكثير من تلك التي أقرتها بعض الدول، فالاقتصاد الدولي قد يحتاج إلى نسبة قد تصل ما بين 20 و30 في المئة من الناتج الإجمالي العالمي البالغ حوالي (85) ترليون دولار، لتجنب الشر المستطير لهذه الجائحة، وبذا فإن المتوقع ضرورة ضخه (26) ترليون دولار في شريان الاقتصاد الدولي ليبقى على قيد الحياة، والمسؤولية الأكبر تقع على عاتق دول ال (20) الكبار الذين يبلغ إجمالي ناتجهم المحلي (65) ترليون دولار. وإذا أخذنا مبدأ الأرقام التي لا تكذب خاصة إذا كان مرجعها محل ثقة في علم الاقتصاد والمعلومات كمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي تؤكد أن إجمالي الناتج المحلي العالمي سينخفض هذا العام بنسبة تبلغ (7.6) في المئة قبل أن يرتفع مجدداً العام القادم بنسبة (2.8) في المئة فإن هذا مؤشر يبدو غير متفائل. هذه الدول التي اتخذت إجراءات عدة لإعادة هيكلة اقتصاداتها ودفع عجلة القطاع الخاص، من خلال المبالغ الفلكية التي ضخت في عروق مختلف مكونات الاقتصاد في القطاعين العام والخاص، إلا أن الشق لا يزال يمكن وصفه بأنه أكبر من (الراقع) في ظل هجمة هذا البلاء القاتل. وأخذاً في هذا التوجه ومع حالة عدم اليقين والتي تغلف منظومة الاقتصاد الدولي، ناهيك عن الضبابية التي تحبط بالجهود التي تبذلها الدول للتغلب على (الداء) بتقديم جرعات متتالية لدعم قطاعات اقتصاداتها وتطبيق سياسات الفتح الجزئي للاقتصادات!! ومع هذا فإن الواقع المالي والاقتصادي يقول إن معظم الدول خاصة الفقيرة منها ستواجه لا محالة عجزاً في ميزانياتها، وارتفاعا في المديونيات وانخفاضا في إجمالي الناتج الإجمالي، ناهيك عن بروز عاهة التضخم، وتراجع متوسط نصيب الفرد من الدخل في معظم اقتصادات الأسواق الصاعدة والبلدان النامية. وعلى كل فإن أموراً جوهرية في ظل هذا المشهد القاتم لا بد من أخذها في الحسبان تتمثل فيما يلي: - حماية الفئات الضعيفة والأولى بالرعاية من السكان.. الخ. - إعادة دراسة دعم القطاع الخاص والضمان الاجتماعي. - إعادة النظر في مستقبل الاقتصادات العربية. - دراسة مستقبل إنتاج وأسعار النفط السلعة الرئيسية للدول العربية. - وضع خطط جديدة لدعم السياحة. - دراسة وقف زحف الدين العام إلى إجمالي الناتج المحلي. - رسم خطط للتغلب على معدلات البطالة في الدول العربية. - دول المجلس لديها مقدرات مالية كبيرة تستطيع استقلالها. - تبني هيكلة جديدة للإصلاح الإداري والمالي. - الدول في قطاعها العام والقطاع الخاص بكل مكوناته أصبحت إعادة الهيكلة بشقيها المالي والإداري ضرورة وليس ترفاً. - ويبقى القول لابد من عدم الاستسلام لليأس والتمسك بأهداب الأمل. فإن التاريخ الاقتصادي يحدثنا أن العالم تعرض لكبوات اقتصادية عظيمة ونكبات كبيرة، لكن الاقتصاد الدولي نهض واستعاد قوته وزاد نموه وأصبحت راياته مرفوعة. والله ولي التوفيق،،، - رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة