لعل السؤال الصعب: هل أثر ما حدث في العراق من انغماس الشركات العالمية في البحث عن فرص نفطية هناك على حماس تلك الشركات لتنفيذ مشاريع مبادرة الغاز السعودية؟ وهل ستتعثر المبادرة نتيجة لضياع سنوات من طواحين المفاوضات؟ أم أن ما حدث كشف لنا حقائق لا تخلو من دروس ستأخذنا قدماً على منحنى التعلم؟ وقبل الحديث عن المبادرة لعل من المناسب بيان أن مساهمة قطاع النفط في اجمالي الناتج المحلي السعودي ستتعزز سنة 2003 بما قد يتجاوز 40 في المئة، والسبب المباشر ارتفاع أسعار النفط، وبما قد يدرّ على الخزانة العامة، وفقاً لتقديرات أجنبية، نحو 70 بليون دولار ما يزيد على 262 بليون ريال. ومعروف أن السعودية تحتضن نحو ربع احتياط العالم من النفط 261.5 بليون برميل. ترليونات النفط ما يكسب النفط أهمية اقتصادية عالية للسعودية أنه، وعلى مدى نصف قرن من الزمن، بقي الممول الرئيس للخزانة العامة، ما أتاح فرصة توظيف أموال تتجاوز أربعة ترليونات ريال لتوفير خدمات ضرورية ولإقامة بنية تحتية ولحفز التنمية. ويمكن الجدل أن هذه الأهمية المتجذرة لقطاع النفط تعززت عند إطلاق مبادرة الغاز السعودية، ليصبح الإهتمام أوسع فيشمل استقطاب استثمارات في مجال الغاز والأنشطة الاقتصادية ذات الصلة بما في ذلك المنافع من ماء وكهرباء وصناعات بتروكيماوية. لكن معظم الغاز السعودي مصاحب للنفط، وهذه الحقيقة تعيد القضية مرة ثانية للنفط وهل سيكفي ما ينتج من نفط لتغطية الاحتياج من الغاز؟ ولعل التطورات الأخيرة من توقيع لاتفاقات في إطار مبادرة الغاز تطرح الكثير من الأسئلة حول العلاقة بين قطاع الطاقة السعودي ممثلاً ب"أرامكو السعودية" وشركات الطاقة العالمية ... فهل هي علاقة؟ أم علاقة حذر وتوجس ومنافسة "كار"؟ أم أنها ليست أكثر من مجرد تبادل للمنافع، باعتبار أن كل طرف يحاول أن يسحب "الرغيف" لناحيته؟ وإدراكاً من السعودية لأهمية النفط لاستقرار الاقتصاد المحلي، انتهجت سياسة تساند استقرار الأسعار، مضحية أحياناً بالمكاسب في المدى القصير رغبة منها في الحفاظ على تماسك موقف الدول الأعضاء في منظمة الدول المصدرة للنفط أوبك، ولعل المثال البارز في هذا السياق تمكن السعودية عبر جهود تواصلت لقرابة 18 شهراً من إيجاد مناخ وإرادة أدتا إلى خفض إنتاج الدول المصدرة من داخل وخارج "أوبك" لامتصاص الفائض النفطي بعد الإنهيار الذي أعقب الزيادة في جاكرتا من دون تحسس لبوادر انهيار الاقتصاد الآسيوي. نوعان من المؤسسات يبدو أن تغيرات الاقتصاد العالمي أخذت تؤثر في صناعة النفط، التي تميزت تقليدياً بوجود نوعين من المؤسسات: شركات نفط تجارية ومؤسسات تملكها الدول المنتجة. لكن يبدو أن الخط الفاصل بين اقتصادات النوعين في طريقه للضمور والانحسار، والسبب أن شركات النفط العالمية مضطرة لتأكيد كفاءتها وعالميتها، في آنٍ معاً، من خلال تحسين اقتصاديات الحجم. وبالمقابل، فإن مؤسسات النفط الحكومية مضطرة للتعامل بالتدرج وفقاً للأسس التجارية وعلى المدى الأبعد التعامل مع مفاهيم الانفتاح الاقتصادي في دولها. وهكذا نجد أن المحصلة الطبيعية لهذا التوجه أن يصبح قطاع النفط مقسماً بين شركات عالمية تمتلك المال والخبرة والبنية التحتية، وأخرى تمتلك حصة مهمة من الاحتياطات. ومع ذلك فبين الفريقين تعارض في التوجهات: الأولى تبحث عن امتيازات وعقود وتتحين الفرص لتعظم أرباحها، فمرجعيتها ملاك أسهمها والدائنون. أما الصنف الثاني من الشركات، النوع الوطني المملوك للحكومة، فيسعى للعب دور ممول الخزانة العامة، أي بيع السلعة الاستراتيجية بما يمنع ابتذالها ونضوبها سريعاً. ولطالما فكر المنظرون أن النفط "أصل سائل" يجب استبداله بأصول أخرى "ثابتة" تمكن الاقتصادات النفطية من تنويع هيكلها الاقتصادي بما يوفر موارد أخرى تمدّ الاقتصاد بأسباب الاستقرار والنمو. فهل هناك أفق لاندماج النوعين؟ وهل يحدث هذا في العراق مثلاً؟ فتقوم على أنقاض مؤسسة النفط العراقية شركات مختلطة؟ أو أن تزول تلك المؤسسة الحكومية جملة وتفصيلاً ليقوم مقامها شركات تملكها بصورة او بأخرى شركات الطاقة العملاقة؟ بل قد يكون لليابان التي أيدت حكومتها الحرب الأميركية - البريطانية على العراق على رغم أنف دستورها، قد يكون لها نصيب فتفوز شركاتها بامتياز يعوضها ويزيد عما فقدته في السعودية قبل سنوات؟ نتيجة حرص اليابان على تأمين عقود توفر تدفق النفط على المدى الطويل دون أي التزامات تنموية تجاه البلاد التي تفقد جزءاً من ثروتها مع كل برميل يستخرج. تقارب النوعين الأمر الذي يجعل التقارب بين شركات النفط العالمية ومؤسسات النفط الوطنية وارداً أن الدول النامية، بما فيها الدول المصدرة للنفط، تتعامل إيجاباً مع التغير في الاقتصاد الدولي، فهي تؤيد التخصيص والانفتاح التجاري والتحرير الاقتصادي، وتعمل حثيثاً لإعادة صياغة تشريعاتها ونظمها بما ينسجم مع اقتصاديات السوق. وهذا سيؤدي، بطبيعة الحال، إلى جعل مؤسسات النفط الحكومية، مع مرور الوقت، شركات تعمل على أسس تجارية بحتة، مع رغبة للحصول على أفضل عائد نظير نفطها، فهي غير مجبرة على استنفاذه خلال فترة الامتياز كما هو الحال مع العديد من الشركات العالمية. وهنا يطرح سؤال: هل من سبيل للمواءمة بين استقطاب استثمارات لقطاع الطاقة في الدول المنتجة، وبما في ذلك السعودية بالتأكيد، دون التنازل عن الثروة الطبيعية الأهم لشركات الطاقة الأجنبية التي لن يكون لها هم سوى "افتراسها" في أقل عدد ممكن من السنوات؟ فمرجعيتها مساهموها وليس الطلبة ومدارسهم والمرضى ومشافيهم. بين الوطني والعالمي ولا يقتصر التحول على مؤسسات النفط الوطنية، فكما أن الشركات العالمية تعايش هذه الأيام انتعاشاً، لكن يجب ألا يغيب عن البال أن تراجع أسعار النفط منذ بداية عام 1998 قد قلص، دون شك، عائدات الدول المصدرة لدرجة أصبحت مخاوف تكرار المصاعب المالية، التي كابدتها الدول في تلك الفترة، كابوساً لا بد من تفاديه. لكن انخفاض أسعار النفط إلى مستويات غير مسبوقة خلال العشرين عاماً الماضية أثر كذلك في شركات النفط العملاقة تأثيراً مماثلاً، ما جعلها تقلص استثماراتها في البداية كأداة للتعامل مع التدفقات النقدية المتدنية، لكن مع استمرار تدني أسعار النفط وتراجع الربحية نهاية التسعينيات من القرن الماضي، أخذت شركات عدة خطوات عملية للتعامل مع الظروف المستجدة آنئذ في سوق النفط. ولعل أبرز هذه الخطوات، وأكثرها جرأة هو مسلسل الاندماج والاستحواذ بين شركات النفط العملاقة، والذي شمل أكبر شركات النفط العالمية على الإطلاق. وقد أثرت تلك الاندماجات على هيكلة سوق النفط، ومن شواهد ذلك: - تتابع الاندماجات بين الشركات الأصغر - احتكار قرارات الاستثمار والتسويق المؤثرة بين ما يقل عن عشر شركات عالمية، ما أدخل سوق الطاقة العالمية مجدداً احتكار القلة. فكما أن الدول المصدرة تتحكم إلى حد ما بسقف الإنتاج سعياً لإبقاء سعر برميل النفط الخام عند مستوى مقبول، فإن شركات النفط تحتكر قرار الاستثمار وبالتالي التصنيع والتسويق، بل وحتى المشاريع العملاقة المدمجة والمتكاملة كتلك المطروحة عبر مبادرة الغاز السعودية. - العديد من شركات الطاقة العالمية يمتلك موارداً هائلة قياساً بالدول المنتجة، كأن تبلغ مبيعات الواحدة منها سنوياً أضعاف مبيعات أعلى الدول تصديراً للنفط، فمثلاً في حين تجاوزت عائدات السعودية من النفط العام الماضي نحو 55 بليون دولار تجاوزت مبيعات شركة "اكسون موبيل" ما قيمته 204 بلايين دولار خلال العام نفسه. بل من المتوقع أن تتجاوز عائدات الشركة نفسها لهذه السنة مجموع صافي عائدات الدول الأعضاء في "أوبك"، والمقدرة بنحو 230 بليون دولار. وإذا نظرنا إلى شركة أصغر مثل "توتال فينا الف" الفرنسية سنجد انها حصدت العام الماضي عوائد توازي ضعف عوائد السعودية من النفط، وسنجد أن تلك الشركة، كما هو سائد بين شركات الطاقة الكبيرة، تعمل في كل مراحل الصناعة وأنشطتها، وسنجد أنها نشطة في أكثر من مئة بلد، وأن جلّ مبيعاتها ودخلها مصدره أنشطة خارج فرنسا بل وخارج دول الاتحاد الأوروبي. - باعتبار ان شركات الطاقة العالمية تنحاز بطبيعتها لأعمال الاستكشاف والتنقيب والإنتاج، فهي عادة تعاني معاناة تماثل ما تعانية الدول المصدرة للطاقة، فنجد أن أرباح الشركات عادة ما تنهار بانخفاض سعر الخام وترتفع بارتفاعه، فعند تتبع أرباح "اكسون موبيل" على سبيل المثال، نجد أنها قبعت في حدود ثمانية بلايين دولار للعامين 1998 و1999 لتلامس 18 بليوناً عام 2000. - على صلة بالنقطة الآنفة الذكر، فالشركات تخصص معظم ضخها الاستثماري سنوياً لتلك الأنشطة.. وهو ضخ استثماري ضخم مقارنة بما تستقطبه حتى اقتصادات نامية كبيرة كالاقتصاد السعودي مثلاً، وتحديداً بلغت استثمارات "اكسون موبيل" نحو 14 بليون دولار أي ما يقارب في المتوسط من حيث القيمة نصف ما يستثمر في الأصول الثابتة سنوياً في السعودية. وعليه، يمكن الجدل أن قدرات وتطلعات الشركات في النمو والتوسع وأولويات برامج الاستثمار في شركات الطاقة تلك تدفعها لتثبيت أنظارها على احتياطات نفطية ضخمة تمتلكها الدول، وخصوصاً في تخوم الخليج العربي التي تتركز فيها معظم احتياطات النفط من دون منافس. والاستهداف قد يتجسد عبر صيغ عدة، مثل المنافسة أو المشاركة أو حتى الاستحواذ. وحالة العراق تستحق المتابعة اللصيقة، ففي عالم المال لا توجد تحركات بريئة أو مستبعدة، فكما أن من غير المنطقي الركون إلى أن الولاياتالمتحدة القوة المحتلة للعراق لن تستفيد استراتيجياً من الثروة النفطية العراقية كأن تضغط على الدول المنتجة او المستهلكة لتحقيق أهداف استراتيجية أميركية. كذلك من غير المنطقي الإطمئنان إلى أن شركات الطاقة العملاقة لا تحرص على تحقيق مكاسب مالية لحملة أسهمها نتيجة التغييرات على الساحة السياسية في العراق. وعلى تلك الخلفية، يبدو أن إيران مثلاً أخذت أخيراً تتحرك لتنشيط وتيرة مفاوضاتها مع شركات الطاقة العالمية. إمكانات عالمية مما تقدم يمكن القول أن شركات النفط العالمية تمتلك الإمكانات والرغبة لتوسيع علاقاتها مع الدول التي تمتلك احتياطات من النفط والغاز. ولعل من المناسب الإضافة أن الدول التي تمتلك الاحتياطات عليها عدم إنكار أن الحاجة متبادلة. والسؤال: ما موقف الدول حقيقة من شركات الطاقة العالمية؟ في ما يخص الدول المالكة للاحتياطات، فيبدو أنها أمام ثلاثة خيارات أساسية: إهمال الدخول في اتفاقات مع تلك الشركات، أو الدخول معها ومنحها امتيازات واسعة، أو الدخول في اتفاقات مقننة من نوع أو آخر. ويمكن الجدل أن الخيار الأول ليس متاحاً عملياً، فكل شركة من شركات النفط العملاقة عبارة عن "أخطبوط" تمتلك أسواقاً ومصانع ومصافي واحتياطات وتقنيات ومراكز بحوث وتطوير وتحالفات متينة مع دول وشركات، ما يعني أن تجاوز التعامل معها سيعني محاصرة للذات في نهاية المطاف. ومها يكن من أمر، فعلى الدول الموازنة الاقتصادية على المدى البعيد بين الخيارات الثلاثة وفقاً للمصالح الوطنية وليس استناداً إلى انطباعات غير قابلة للحساب إذ لا تسندها حقائق، ما قد يؤدي إما إلى تفريط أو إلى حرمان من مكاسب محققة. التحول للعالمية غني عن القول أن أهمية النفط حرجة لمستقبل الاقتصاد السعودي ولاقتصادات أخرى مجاورة، بما يعزز أخذ الزمام لبناء تحالف قيادي في صناعة النفط والغاز العالمية مع الشركات العالمية، لأكثر من سبب، منها: - ان الشركات تملك تأثيراً محورياً في حاضر ومستقبل صناعة النفط والغاز العالمية، ربما بما يزيد عن مساهمة البلدان المنتجة الرئيسية الممثلة في منظمة "اوبك". - تأثير الشركات في المدى المتوسط والبعيد على سوق النفط الخام من حيث العرض والطلب وبالتالي السعر. - تأثير احتكار عدد قليل من الشركات للقرار في صناعة النفط والغاز من ناحية الاستثمارات والتسويق على صناعة النفط الوطنية، فعدد شركات النفط الرئيسة قد لا يتجاوز العشرين بكثير. - قياس أبعاد الاندماجات المستقبلية على الميزة النسبية والمزايا التنافسية لصناعة النفط والغاز الوطنية المملوكة للحكومات. - تحليل محصلة التغيرات في صناعة النفط والغاز على الاقتصاد الوطني من ناحية تدفق الإيرادات النفطية وما البدائل لتنمية تلك الإيرادات. - وضع تصورات لتعامل قطاع الطاقة الوطني المملوك للحكومة والقطاع الخاص غير النفطي بما يساعد على توظيف الفرص عبر توسيع فرص الاستفادة من إمكانات الشركات العالمية. الغاز والماء والكهرباء تتضاءل مساهمة قطاع الكهرباء والغاز والماء في الاقتصاد السعودي لتقبع عند جدار اثنين بالألف، وليس هناك ما يشير إلى تغير هذه المساهمة في السنوات القليلة المقبلة. ومع ذلك فمجرد تحقيق متطلبات النمو على المدى المتوسط حتى سنة 2005، يعني اجتذاب استثمارات في قطاع الكهرباء والغاز والماء تقارب 80 بليون ريال 21.3 بليون دولار، وفقاً للتقديرات الرسمية، أو نحو 16 بليون ريال 4.3 بليون دولار في المتوسط سنوياً. ولا يمكن اعتبار أن هذه الاستثمارات عالية، عند مقارنتها بتقدير البنك الدولي لحاجات الدول النامية على مدى العقد القادم في قطاع الكهرباء حدود ترليون دولار. ويخضع توافر هذه الأموال لتحديات بارزة، أولها اقناع الاستثمار الخاص بتفضيل الكهرباء عما سواها من فرص الاستثمار. والأمر الآخر قدرة الحكومة على تخصيص المزيد من الأموال للإنفاق الاستثماري في هذه المجالات. ويجب التنبه أن الطرف المعول عليه توفير هذه الأموال هو القطاع الخاص، هذا طبقاً لافتراضات الحكومة التي توقعت في الخطة الخمسية السابعة أن يوفر القطاع الخاص نحو سبعة أعشار الضخ الاستثماري. وبالتأكيد، فإن طموحاً بهذا المستوى يبرر بذل جهد منظم، من جانب الجهات الحكومية المعنية، لترويج الفرص ترويجاً مباشراً لاستقطاب المستثمرين، وقبل ذلك تحسين مناخ الاستثمار تحسيناً جذرياً تنافسياً يغير واقعه الحالي، وهو واقع طارد لرأس المال. وليس من المبالغة القول أن مثل هذه الاشتراطات ضرورية وفي الحد الأدنى لإقناع أصحاب رؤوس الأموال للاستثمار في الاقتصاد السعودي عموماً وفي مشاريع البلايين الطويلة الأمد لاسترداد رأس المال. لا سيما أن التنافس لاستقطاب الأموال الخاصة للاستثمار في توليد الكهرباء هو تنافس عالمي بكل المقاييس، فالدول تصطف لإقناع المستثمرين بالقدوم للاستثمار فيها وليس العكس. وما يجعل الجهد المطلوب لاقناع المستثمرين العالميين ضرورياً أن عدداً منهم مرّ بتجارب دامية لتوليد الطاقة في عدد من الدول النامية التي كانت واعدة بالفعل، مثل باكستان على سبيل المثال لا الحصر. يضاف لذلك أن الاستثمار في قطاع الطاقة هو طويل المدى، ما يتطلب التزامات مستقرة من جميع الأطراف صاحبة العلاقة. ويصبح اقناع الاستثمارات الخاصة بالتوجه لقطاع الكهرباء أكثر صعوبة عند إدراك ان القطاع ما زال يتحمل خسائر تشغيلية تنتج عن بيع الكهرباء بأقل من الكلفة. وعلينا إدراك أن توقعات العائد على الاصول في القطاع الخاص السعودي في المؤسسات الكبيرة تتجاوز 18 في المئة، وفقاً لدراسات وزارة التخطيط، وبذلك يصبح تحدي استقطاب الاستثمارات لقطاع الطاقة والماء مضاعفاً، ليس فقط تحقيق عائد، بل تحقيق عائد يبز الفرص البديلة. تأهيل المرافق لا يمكن التنصل من ضرورة تأهيل قطاع المرافق الكهرباء والماء والصرف الصحي والغاز في السعودية للتعامل وفق مرتكزات غدت مقبولة على نطاق واسع عالمياً، وهي: أن يعمل القطاع وفق اسس الاستقلال الاقتصادي، ضرورة تحسين الكفاءة من خلال تقوية وتوظيف قوى السوق، ضرورة مراقبة الاحتكار والارتقاء بالشفافية في القطاع. وهكذا نجد ان عنصري اجتذاب الاستثمار وإعادة هيكلة القطاع ضروريان لتحقيق تطلعات النمو بما يخرج القطاع من مأزق الخسائر بالبلايين ومن شحة الاستثمارات، ويحقق في ذات الوقت خفضاً للسعر من خلال عناصر المنافسة وترشيد الاستهلاك. ويخرج القطاع كذلك من التطلع للتدخل الحكومي كأداة لإخراج القطاع من مشاكله. ولعل هذا الأمر قابل للتحقيق بتنشيط هيئة تنظيم الماء الكهرباء، لتعمل على النظر في اقتصاديات المؤسسات الاحتكارية الحكومية الصبغة في مجال الماء والكهرباء تحديداً، وبعد ذلك في فتح السوق أمام المنافسة. ولعل من الضروري نشر السر المعلن بأن على الجهات الحكومية المختصة استهداف المستثمرين والترويج للفرص وإزاحة كل العوائق الاستثمارية على تنوعها. ومن الصعوبة بمكان إقناع روؤس الأموال الخاصة الاستثمار في نشاط معين لمجرد ان الاقتصاد المحلي بحاجة لضخ الأموال فيه، فاجتذاب القطاع الخاص يتوقف على جملة عوامل، منها عنصر المخاطرة ومعدل العائد، والفرص البديلة محلياً وفي أنحاء الدنيا. ولذا لابد من طرح أجوبة سريعة وشافية وملزمة على تساؤلات المستثمر. وإجمالاً، ليس بوسع قطاع المرافق في السعودية إلا أن يتأثر بما يحدث عالمياً نتيجة للانفتاح الاقتصادي، فمثلاً تشير بعض الدراسات إلى أن أربع قوى تؤثر في صناعة الكهرباء في زمن العولمة، وهي: - إعادة الهيكلة - الحاجة لرأس المال - اقتصادات الحجم - الارتقاء بأداء الإدارة مبادرة الغاز قد تتفاوت وجهات النظر حول المفاوضات، أما مبادرة الغاز فضرورية باعتبار أن الطلب على الماء والكهرباء ينمو بوتائر عالية تزيد على 2.5 في المئة سنوياً. والحقيقة أن المبادرة غير مسبوقة شكلاً ومضموناً في قطاع الطاقة السعودي، ما يوجب إعادة صياغة مشاريعها وطرحها سريعاً في حال أن المفاوضات مع شركات الطاقة العالمية قد وصلت إلى نهاية سلبية. والسؤال هو ما البديل لتلك الشركات العملاقة؟ بالتأكيد من الصعب إيجاد بديل مماثل لتلك الشركات، غير أن أفضل البدائل يبقى تحسين تنافسية مناخ الاستثمار السعودي، وهو مناخ طارد، فقد تمكن من لفظ للخارج ما يقدر بأكثر من 700 بليون دولار. كما أن ساحة الاقتصاد المحلي تخلو من الفرص الاستثمارية المنتجة. ففي الوقت الراهن نلاحظ ما يشبه التزاحم على الاستثمارات غير المنتجة: مضاربات في سوق الأسهم لجني الأرباح وتلهف على مساهمات الأراضي في طول البلاد وعرضها. ولا يبدو أن أحداً يريد ملاحظة أن ما يشبه التقاتل للمضاربة في أسهم الشركات والعقار نتج عن تكدس السيولة محلياً نتيجة، فيما يبدو، لتراجع التحويلات للخارج، فأصبحت السوق المحلية أشبه ما يكون بغرفة محكمة الإغلاق ما عدا بوابات لتلقي المزيد من المال على الدوام من دون نوافذ للتصريف! وليس بوسع أحد إلقاء اللوم على المضاربين، وبوسع كل أحد عدم الرضى عن عدم وجود فرص استثمارية بوسعها ابتلاع البلايين المتاحة، خصوصاً أن اقتصادنا يعني من هبوط حاد في نموه، إذ لم يتجاوز العام الماضي 0.8 في المئة، مقابل نمو سكاني في حدود ثلاثة في المئة سنوياً. كما أننا لا ننفك عن مطالبة أصحاب رؤوس الأموال عن الاستثمار محلياً، والسؤال: أين؟ والعبرة ليست بفتح الاقتصاد، بل بأن يصبح منافساً بحيث أن صاحب رأس المال يجد، عند المقارنة، أن الاقتصاد السعودي هو الأكثر جاذبية، وهذا يتطلب من السلطات ذات الصلة عملاً جاداً ومنهكاً وعلى مدى سنوات عدة لتحقيق مستوى عالمي من التنافسية للاقتصاد السعودي. وليس من الملائم النظر للعبارات السابقة على أنها نوع من التقريع بل فيها يكمن الحل لقدوم استثمارات للمرافق والبنية التحتية إجمالاً ولمدّ شبكة وطنية للغاز بما يدعم استراتيجية التنويع عبر تنشيط الاستثمار في الصناعة التحويلية. ونعود لمبادرة الغاز، للتذكير بأن المرحلة الأولى منها قدر أنها ستجلب استثمارات للاقتصاد السعودي بقيمة 25 بليون دولار في فترة زمنية مداها 10 سنوات. وعلى رغم أن فترة السنوات الأربع الماضية شهدت تحولات كبرى في قطاع الطاقة عالمياً، حتى ليبدو وكأنه أعاد تعريف ذاته عبر الاندماجات وإعادة هيكلة الشركات القائمة، لكن علينا إدراك أن عنصر الندرة في الاقتصاد السعودي هو الفرص الاستثمارية الواعدة والعمالة بجميع فئاتها، فالبنوك التجارية السعودية تحتفظ بما يقارب 100 بليون ريال في الخارج، والأموال المهاجرة تتجاوز أضعاف ذلك، وذات البنوك تحول لصالح العمالة الوافدة ما يزيد متوسطه السنوي عن 55 بليون ريال، في حين أن معالم البطالة بين اليافعين من شبابنا وفتياتنا أخذت تتبلور حتى غدت ظاهرة ملفتة. وعليه، تكتسب إعادة طرح مشاريع مبادرة الغاز في أسرع وقت أهمية خاصة، ولكن باعتبارها فرصاً استثمارية يجب ان تخضع لرعاية واهتمام ومتابعة جهاز الاستثمار في البلاد، فالقضية استثمارية في الأساس، أما البقية فهي تفاصيل. ولا يوجد ما يمنع تقوية الأجهزة الاستثمارية حتى تقوم بترويج الفرص المقننة وعرضها محلياً ودولياً، من دون جعل الأمر وكأنه شركة الطاقة المحلية مقابل شركات الطاقة الأجنبية. وبالنظر إلى ضخامة المشاريع فلعل من المناسب تكليف الهيئة العامة للاستثمار بالتنسيق والتسويق للمبادرة، إذ يمكن الجدل أن المبادرة في الأساس قد صيغت لتلبي الحاجات المحلية أولاً وقبل أي شيء: فهي تحمل في ثناياها جملة فرص استثمارية تتعلق بتوسيع البنية التحتية وتنويعها، وهذا شرط لأي نمو اقتصادي فوقي: فالاقتصاد السعودي بحاجة للغاز كوقود وكلقيم في كل جنبات البلاد، وهو بحاجة إلى الماء والكهرباء كذلك. وفوق ذلك، فعلى الاقتصاد السعودي عمل ما بوسعه وما ليس بوسعه للوصول والمحافظة على متوسط نمو سنوي يتجاوز خمسة في المئة سنوياً، إذ علينا ادراك أن متوسط نصيب الفرد من الناتج قد تراجع منذ عام 2000 قرابة 6.25 في المئة او ما يوازي نحو 2000 ريال 530 دولاراً. وعليه، فهناك مبررات واضحة للإصرار على مبادرة الغاز السعودية وإعادة طرح مشاريعها عبر القنوات الاستثمارية وتقوية الأجهزة في تلك القنوات بما يمكنها من إدارة الجهد الضخم والأساس لمصلحة الاقتصاد الوطني. وفي الوقت الراهن، ولرفع المحتوى المحلي لأقصى حد ممكن، يمكن النظر في المحاور التالية: - ترويج فرص الاستثمار في الأنشطة المكملة والمساندة. - ربط كامل أنشطة سلسلة التزويد لتستفيد شريحة واسعة من المؤسسات الوطنية الصغيرة والمتوسطة من المشاريع التي ستنتج عن المبادرة عبر تزويدها باحتياجاتها على تنوعها. - ولعل الأهم من ناحية الأولوية، مبادرة لتأهيل وتدريب وإعداد الكوادر السعودية للاستفادة من فرص العمل التي ستولدها مشاريع المبادرة. سلسلة أسئلة والآن، وبعد أن أصبحت مفاوضات مبادرة الغاز المضنية التي استمرت عملياً منذ نهاية الربع الأول من عام 1999، وبعد أن أصبحت حدثاً من التاريخ، لعل من المفيد طرح أسئلة لطالما طرحت وتركت تلفحها الأشهر والسنوات من دون إجابات وافية. وفي هذا الوقت فالهدف هو الحصول على إجابات تقنع المجتمع بأهمية المبادرة ليقتنع المجتمع بعد ذلك بأن الشركات الأجنبية التي قد تأتي ستأتي لتفيد وتستفيد، وان الهدف من المشاريع في الأساس هو خدمة الاقتصاد الوطني. فحتى هذه اللحظة لم يظهر تقرير واحد يبين الأثر الاقتصادي والاجتماعي للمبادرة: - هل توجد تقديرات عن الأثر الاقتصادي المتوقع لمشاريع المشاركة مع شركات الطاقة العالمية، من حيث فرص العمل والضخ الاستثماري والانفاق الاستهلاكي لهذه المشاريع؟ - هل المبادرة تشمل المشاريع المتكاملة الثلاثة فقط أم أن للمبادرة مراحل متعددة، لا سيما أن مواقع النفط والغاز تعد بالعشرات في أراضي المملكة؟ - هل هناك دور مرسوم أو توجه استراتيجي لمساهمة رأس المال السعودي في قطاع النفط والغاز في المبادرة؟ ما هو؟ - باعتبار أن دول آسيا تمثل مصدر الطلب الأول على النفط السعودي، فهل ثمة توجهات لإطلاق مبادرة للغاز والبنية التحتية موجهة للشركات الآسيوية؟ - ما الالتزامات العامة المتوقعة من الشركات تجاه الاقتصاد السعودي واتجاه الحكومة السعودية؟ وهل يخضع ترخيص وعمل الشركات لنظام الاستثمار الأجنبي؟ وما المدى الزمني للامتياز الذي سيمنح للشركات؟ - باعتبار الاحتياط الكبير من النفط والغاز، وتعدد المشاريع المتوقعة مستقبلاً، فهل في منظور الدولة استحداث مكتب أو هيئة متخصصة للترخيص والاشراف على شؤون هذه المشاريع في المملكة؟ أم أن الأمر سيحال للهيئة العامة للاستثمار؟ أم أن المبادرة ستدار بذات الآلية التي تولت المفاوضات عن الجانب السعودي؟ - ما البدائل الموضوعة لتنفيذ مشاريع الكهرباء والماء بما يشبع الطلب المتنامي خلال السنوات الخمس المقبلة؟ وهل من المتوقع أن تشهد البلاد نقصاً في الماء او الكهرباء؟ * كاتب اقتصادي سعودي.