يتعامل قادة الدول الرأسمالية الصناعية ومعهم غالبية قيادات الدول النامية والعربية، مع الأزمة المالية العالمية الراهنة باعتبارها أزمة سيولة يمكن علاجها بضخ الأموال للمؤسسات المالية على سبيل الإقراض أو من خلال تأميمها جزئياً أو كلياً، لتسهيل قيامها بالإقراض لتنشيط الطلب. في حين أن الأزمة في الأصل هي أزمة ضعف الطلب الفعال على السلع والخدمات بسبب سوء توزيع الدخل، وهو الضعف الذي جعل المؤسسات المالية الأميركية والعالمية تندفع بغرض خلق طلب زائف، في إقراض المستهلكين لتمويل شراء المساكن والسلع المعمرة والسلع والخدمات عموماً، من دون النظر الى جدارتهم الائتمانية مع تعويض ذلك بالمغالاة في الفوائد على تلك القروض. وعندما انكسر هذا الطلب الزائف لدى عجر المقترضين عن السداد، انكسرت حلقة الائتمان والبنوك الأكثر إفراطاً في الإقراض وتداعت كل حلقات السلسلة المرتبطة بها وبالنظام المالي الذي أصبح مركز الأزمة ونقلها للقطاع العقاري والشركات المنتجة للسلع المعمرة والاقتصاد برمته. وبالتالي فإن أي علاج فعال للأزمة لا بد من أن يبدأ من تنشيط الطلب الفعال الحقيقي وتحسين توزيع الدخول. وبغض النظر عن تفاصيل الأزمة المالية والاقتصادية الأميركية والعالمية فإن ما يهمنا أكثر من أي شيء آخر هو تأثير الأزمة على البلدان العربية والآليات الممكنة لمواجهتها. وسنركز بالأساس على حالة مصر التي تأثرت بصورة مباشرة وغير مباشرة من خلال قيام المستثمرين الأجانب في البورصة المصرية وبقية البورصات العربية المفتوحة أمامهم، ببيع قسم كبير من محافظهم المالية فيها من أجل الحصول على السيولة لتعديل مراكزهم في بورصات بلدانهم الأصلية. وقد خلق هذا السلوك من المستثمرين الأجانب، موجات من بيع الأسهم اتسمت بالهلع في البورصة المصرية وبقية البورصات العربية. وهذا الأمر كشف مجدداً عن مخاطر ترك البورصة المصرية والبورصات العربية مسرحاً لرأس المال الأجنبي المضارب أو الأموال الساخنة السريعة الحركة والمسببة للاضطراب والتي لا يمكن تقييد حركتها الساخنة إلا بفرض ضرائب ولو محدودة على التعاملات في البورصة، كما تفعل غالبية البورصات في البلدان الرأسمالية الكبرى نفسها. كما تأثرت الاقتصادات والبورصات العربية من جراء التراجع الكبير في أسعار النفط من قرابة 147 دولاراً للبرميل من الخام الأميركي في منتصف العام 2008 إلى نحو 60 دولاراً للبرميل في الوقت الراهن. كذلك فإن الاضطراب المالي في بورصات الدول الرأسمالية الصناعية المتقدمة والبورصات الناهضة في آسيا وانهيار بعض المؤسسات المالية الكبرى في الغرب أدى إلى حدوث خسائر كبيرة للاستثمارات العربية في تلك البورصات والمؤسسات المالية قدرها البعض بنحو 50 بليون دولار. وهذه الخسائر تنقسم إلى قسمين: الأول خسائر نهائية وغير قابلة للتعويض وهي تلك المتعلقة بالخسائر في الاستثمارات في المؤسسات المالية والاقتصادية التي انهارت تماماً مثل بنك"ليمان براذرز". ولم تعلن سوى مؤسستين عربيتين عن خسائرهما في هذا البنك، هما"البنك العربي"الذي كان يملك سندات للبنك الأميركي المنهار بقيمة 20 مليون دولار وهي نقطة في محيط بالنسبة لأصول وموجودات"البنك العربي"، ومؤسسة"شعاع كابيتال الإماراتية"التي بلغت استثماراتها في البنك المنهار نحو 21.5 مليون دولار، وهي أيضاً استثمارات محدودة بالمقارنة مع أصول الشركة. أما القسم الثاني من الخسائر فهو الدفترية المرتبطة بموجة الهبوط العامة في أسعار الأسهم وقيمتها السوقية والتي يمكن تعويضها عندما تتعافى تلك البورصات، لكن ذلك يعني أن تبقى الاستثمارات العربية في تلك الأسهم أسيرة لانتظار انفراج الأزمة الذي يمكن أن يأتي خلال ما يتراوح بين عام واحد وعامين. من ناحية أخرى فإن الأزمة المالية الأميركية والعالمية أدت إلى تراجع النمو في الاقتصاد الحقيقي، وهو ما سينعكس تلقائياً بصورة سلبية على التجارة والاستثمارات وتدفقات الأموال والسياحة لكل الدول المندمجة في الاقتصاد العالمي وضمنها الغالبية الساحقة من الاقتصادات العربية. وتشير تقديرات صندوق النقد الدولي وفق أحدث بيانات معدلة صدرت قبل أيام، إلى أن النمو الاقتصادي العالمي سيتراجع من 5 في المئة عام 2007، إلى 3.9 في المئة عام 2008، إلى 3 في المئة عام 2009، وأن النمو في الدول المتقدمة الذي بلغ 2.6 في المئة عام 2007، سيتراجع إلى 1.5 في المئة عام 2008، ثم إلى 0.5 في المئة عام 2009، بينما سيتراجع النمو في الدول النامية من 8 في المئة عام 2007، إلى 6.9 في المئة عام 2008، إلى 6.1 في المئة عام 2009. ويبدو الوضع في الدول النامية أفضل بسبب قدرة الصين والهند ودول شرق آسيا والبرازيل والأرجنتين على الحفاظ على مستوى مرتفع للنمو فيها بسبب وجود دور قوي للدولة يمكنها من الحفاظ على التوازن الاقتصادي العام وحفز النمو. وإضافة إلى تأثر البورصة المصرية، فإن المصادر الأساسية للنقد الأجنبي ولقسم من الطلب الداخلي ستتأثر، فقناة السويس التي ارتفع دخل مصر منها من نحو 1820 مليون دولار عام 2001/2002، إلى نحو 4170 مليون دولار عام 2006/2007، في ظل النمو الكبير في التجارة الدولية بمعدل 17.7 في المئة سنوياً في المتوسط خلال الفترة من عام 2003 حتى 2008، ستتعرض لجمود الإيرادات مع توقع انخفاض معدل نمو التجارة الدولية إلى4.1 في المئة في العام المقبل، لكن إيراداتها لن تتراجع على الأرجح. أما تحويلات العاملين في الخارج والتي بلغت 6321 مليون دولار عام 2006/2007، فإنها ستتأثر سلباً لأن تلك العمالة موجودة في بلدان تأثرت بقوة من الأزمة، فنحو 32.9 في المئة منها يأتي من المصريين العاملين في الولاياتالمتحدة، ونحو 50 في المئة منها من البلدان العربية، ونحو 10 في المئة من البلدان الأوروبية، إذ أن تلك البلدان التي تأثرت بالأزمة سيحدث فيها جمود أو تراجع في الوظائف والأجور في القطاع غير الحكومي على الأقل. كذلك فإن السياحة الداخلة لمصر والتي بلغت إيراداتها نحو 8.2 بليون دولار في الثلاثة أرباع الأولى من العام المالي 2007/2008، ستتأثر سلبياً علماً بأن المصادر الأساسية للسياح الذين يزورون مصر هي بلدان غرب وشرق أوروبا والبلدان العربية، وكلها بلدان تأثرت سلباً من الأزمة. وهذا الأمر يستدعي العمل على تنشيط السياحة الداخلية، وتنشيط السياحة العربية وتنظيمها من خلال اتفاقات لترتيب تيار دائم من السياحة العربية التي تتدفق إلى مصر بأسعار مناظرة للأسعار التي تعطى للشركات الأوروبية. ويمكن لشركات السياحة المصرية أن تنشئ فروعاً في البلدان العربية والآسيوية وجنوب أفريقيا، لتقوم هي نفسها بتنظيم تدفق حركة السياحة منها إلى مصر. والأمر نفسه ينطبق على بعض البلدان الإفريقية والآسيوية التي يتدفق منها سياح إلى مصر والمرشحة لمزيد من التدفق. كما ينبغي فرض قيود مالية مانعة لتقليل السياحة الخارجية بكل أنواعها والتي تستنزف نحو بليوني دولار سنوياً. كذلك فإن التجارة الخارجية لمصر ستتأثر لأن الصادرات تتوجه لبلدان تأثرت بقوة من الأزمة، حيث يتوجه نحو 47.3 في المئة من الصادرات المصرية إلى بلدان الاتحاد الأوروبي، ونحو 20.3 في المئة إلى البلدان العربية، ونحو 11.4 في المئة إلى اميركا، وكلها مع بقية العالم تأثرت سلباً من الأزمة. يذكر أن المؤشرات الخاصة بالجهاز المصرفي المصري، تشير إلى أنه في أيار مايو 2008 بلغ حجم الائتمان المحلي نحو 599 بليون جنيه تشكل قرابة 70 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي وأقل من 80 في المئة من حجم الودائع في الجهاز المصرفي، وهي نسب أقل وأكثر تحفظاً من النسب المنفلتة في الولاياتالمتحدة 230.8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وبريطانيا 176.9 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. لكن إدارة البنك المركزي المصري، يجب أن تراقب وبدقة كل أعمال البنوك الأجنبية وبالذات فروع البنوك التي تضررت مؤسساتها الأم في الخارج، حتى تكون قادرة على منع الأزمات أو معالجتها بصورة فورية وفعالة، هذا فضلاً عن ضرورة تفعيل دورها الرقابي إزاء بنوك القطاع العام والبنوك المشتركة والخاصة لضمان التزامها بالقانون وبالضوابط في الإقراض، ولمنع اختراق أصحاب النفوذ السياسي لهذه الضوابط . ومن الضروري لمصر والبلدان العربية أن تدرك أن الأزمة المالية والاقتصادية العالمية لن تنتهي سريعاً وستتحرك في دورات حلزونية صاعدة وهابطة لمدة تتراوح بين عام وثلاثة أعوام. ولا بد للدولة من التدخل في الاقتصاد بصورة قوية لحفظ التوازن الاقتصادي العام ولخلق فرص عمل جديدة، وهو ما يتطلب تكييف الموازنات العامة في البلدان العربية المصدرة للنفط لتراجع إيراداتها من تصديره بعد انخفاض أسعاره بصورة هائلة، مع ضرورة العمل على حفظ الأسعار بين 80 و100 دولار للبرميل من خلال التحكم في المعروض والصادرات من دول"الأوبك"والدول المصدرة للنفط من خارجها. كذلك من الضروري إعادة هيكلة الإنفاق العام في البلدان العربية بصورة لا تستبعد إنشاء استثمارات صناعية وزراعية وخدمية حتى لو تم بيعها بعد ذلك شرط أن يكون الإنشاء والبيع من دون فساد وتحت رقابة شعبية حقيقية. ومن البديهي أن الإدارة الاقتصادية التي تبنت بيع القطاع العام في مصر بأبخس الأثمان، ليست هي المؤهلة للقيام بإعداد خطة استثمارية للدولة في مجالات الصناعة أو الزراعة أو الخدمات، وهو أمر يستدعي إحداث تغييرات في الحكومة او تغييرها كلية من أجل وضع تصور استراتيجي وخطط عملية لمواجهة تأثيرات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية على مصر. ولا بد من تشديد الرقابة على المؤسسات المالية العامة والخاصة لحماية أموال المودعين لديها. ولا بد من إنشاء صناديق سيادية تقوم بدور الشركات صانعة الأسواق لشراء الأسهم التي تدهورت قيمتها من دون مبرر اقتصادي حقيقي، وشراء حصص غالبية دائمة في الشركات التي ترى الدولة أنها تتسم بأهمية خاصة أو ذات طابع استراتيجي، ويمكن لهذه الصناديق أن تقوم ببيع قسم مما في حوزتها من الأسهم في المستقبل عندما ترتفع الأسعار لدى انفراج الأزمة وهو أمر سيحدث لا محالة وسيحقق للدولة ولصناديقها السيادية أرباحاً جيدة. كذلك فإنه من الضروري أن يتم ضبط الواردات السلعية والخدمية. كذلك فإن هناك ضرورة لتكييف الإنفاق العام في مصر والبلدان العربية مع الانخفاض المتوقع في إيرادات تصدير النفط والغاز. كما أن تنويع الاحتياطات العربية من النقد الأجنبي أصبحت ضرورة قصوى لزيادة حصص العملات الحرة الرئيسية على حساب الدولار الذي سيتراجع مستقبلاً على رغم ارتفاعه الراهن المرتبط بوضعه التاريخي كملاذ آمن في أوقات الأزمات. وربما يكون التحول عن تسعير النفط بالدولار ضرورة قصوى أكثر من أي وقت مضى، لأن وضعية الدولار كعملة احتياط دولية ما زالت على رغم تراجعها الكبير تهيمن على 62.5 في المئة من سلة الاحتياطيات العالمية البالغة 7 تريليونات دولار بعد أن كانت تهيمن على 72 في المئة منها في بداية العقد الحالي، لا تتناسب مطلقاً مع كون الناتج المحلي الإجمالي الأميركي لا يتجاوز 19.9 في المئة من الناتج العالمي وفقاً لتعادل القوى الشرائية، والصادرات السلعية الأميركية لا تزيد على 8.5 في المئة من الإجمالي العالمي، فضلاً عن سوء استخدام الولاياتالمتحدة لوضعية الدولار كعملة احتياط دولية من أجل الإثراء على حساب العالم. وبالنسبة الى المتعاملين في بورصات مصر وبقية البلدان العربية لا بد من التعقل وعدم الاندفاع في موجات البيع الهستيرية التي لا مبرر لها، فطالما أن الأصل العيني الذي يتم تداول أسهمه لا يزال قائماً ويعمل ومؤشراته جيدة، فإن أسعار الأسهم سترتفع لا محالة ولا داعي للبيع الآن بخسائر يمكن تفاديها في حالة الصمود والاحتفاظ بالأسهم. وإضافة إلى كل ما سبق فإن سبباً رئيسياً من أسباب اندلاع الأزمات الدورية في الاقتصادات الرأسمالية هو عدم عدالة توزيع الدخل وما يولده من ميل ركودي في الأجل الطويل، لذا فإن قيام الدولة بتحسين توزيع الدخل من خلال نظم عادلة للأجور ونظم فعالة لدعم الخدمات العامة والتحويلات الاجتماعية والدعم السلعي على غرار ما يحدث في الدول الرأسمالية في أوروبا، ربما يكون أمراً مساعداً على تنشيط الطلب الفعال المحفز للاستثمارات والنمو الاقتصادي المتواصل. وفي النهاية فإن هذه الأزمة أجبرت النظام الرأسمالي المهيمن عالمياً على تغيير نمط التحرير المنفلت والمتوحش، من خلال تشديد الضوابط وتدخل الدولة في الاقتصاد على نطاق واسع، وربما تستدعي الأزمة تفعيل كل الإجراءات الحمائية التي يمكن استخدامها في إطار النظام الاقتصادي الدولي الحر الراهن، أو استحداث قيود جديدة موقتة أو دائمة لحماية المنتجين في ظل الجمود التجاري الدولي المتوقع في ضوء الأزمة المالية والاقتصادية الراهنة. وينبغي على مصر وغيرها من الدول العربية التي تأخذ بالنظام الرأسمالي في حدود مستويات تطورها ألا تكون ملكية أكثر من الملك، وأن تتخذ الإجراءات الضرورية لحماية اقتصاداتها ومنتجيها في زمن الأزمة على الأقل. * خبير اقتصادي مصري