بعض الكتب عندما تقرؤها وبالأخص كتب السير الذاتية تحس وأنت تنهي آخر صفحة فيها أنها أضافت إليك وأثرت عقلك وأفادتك بمسيرة حياتك . وتتعاظم المحصلة الحياتيَّة كلما كان صاحب السيرة مثقفا وذا حصيلة غنية من التجارب بكافة أطيافها. تعايشت مع المؤلف د. عبدالعزيز خوجه منذ بداية نشأته بإحدى حارات مكة بين أبيه الرقيق وأمه الحازمة، وبداية دراسته مع أخته، ثم مع ما بعدها حيث نقلته الحضارية من مكةالمكرمة إلى القاهرة بكل حراكها الاقتصادي والثقافي والفني. *** أما رحلته الدبلوماسية فأستطيع أن أسميها «مهام الأحداث المفاجئة» بأغلب محطاتها بدءًا من الاتحاد السوفيتي ثم روسيا وبعدها تركيا ثم أرض الأحداث لبنان. صاحب السيرة د. عبدالعزيز خوجة خاض غمار فضاءات متباينة، فضاء «قوى ناعمة وفضاء أعمال سياسية حساسة» لكنه خرج منها حاصدا النجاح والتقدير ومحبة كل من عمل أو تعامل معه. *** لقد روى المؤلف بصدق ومكاشفة كثيراً من المواقف التي مرت عليه بمسيرته من مواقف محرجة إلى مواقف طريفة إلى مواقف خطيرة ولكن بتوفيق الله استطاع أن يجعلها منصات نجاح له وفي بعض المناصب التي شغلها واجهته مصاعب عسيرة جدا مثل موقفه أول ما تعين سفيراً للمملكة بالاتحاد السوفيتي «السابق» وها هو يروي هذا الموقف العسير: «اختارني الملك فهد بن عبدالعزيز لأفتتح أول سفارة سعودية في الاتحاد السوفياتي، عام1992م وأكون بذلك أول سفير لبلادي هناك، ولكن ما كدت أقدم أوراق اعتمادي إلى الرئيس ميخائيل غورباتشوف، حتى احتجزه الجنرالات في منطقة القرم، واعتصم الشيوعيون في البرلمان يطالبون بإقالته وإلغاء مشروعه الإصلاحي «بيريسترويكا» ليعلن رئيس جمهورية روسيا، بوريس يلتسن، مواجهتهم والمطالبة بتحرير الرئيس ثم استقلال روسيا عن الاتحاد السوفياتي». ولعل قدرته على مواجهة هذه الصعوبات السياسية هو ما جعل الدولة توليه الثقة ليكون سفيراً للمملكة بخمس دول. *** أما سيرته بوزارة الإعلام التي عمل بها وكيلا ثم عاد لها وزيراً بعد تغير اسمها إلى وزارة الإعلام والثقافة فمواقفها المحرجة كثيرة فالعمل الإعلامي مكشوف وأي خطأ ولو كان بسيطاً يراه الجميع وينتقدونه. وقد واجه عديداً من المواقف خلال عمله بالإعلام وزيراً ووكيلاً لكن يخرج منها منها رغم صعوبتها بطريقة سلسة إقرؤوا هذا الموقف له وهو وكيل الوزارة: «هاتفني الأمير فهد مرة وأبلغني قراره بإعفاء رئيس تحرير «عكاظ» رضا لاري قائلا: لا أريد قراءة اسمه في الصحيفة غداً، هاتفت وزيري د. محمد عبده يماني وأبلغته بتوجيه ولي العهد، وكنت محرجاً من إبلاغ رضا لاري، فإذا بالوزير يثبت المهمة علي: «الأمير هاتفك ولم يهاتفني، لذا عليك تنفيذ المهمة»، اتصلت برضا لاري وقلت» يا رضا حرام عليك، هكذا تستقيل ونحن بأمس الحاجة إليك» رد لاري منفعلا: «أنا لم أستقل»، فأكدت له: «استقالتك أمامي، وأنا حزين جداً لأننا قبلناها، ولا نريد اسمك في الصحيفة غدا». *** ومن الخصال التي تمتع بها وهو وزير للإعلام تقبّل النقد الموجه للجهة التي يتولاها. وقد أشار بصفحة 213 إلى جلسة لمجلس الشورى ناقش فيها أوضاع وزارة الثقافة والإعلام وكان النقاش فيها حاداً ولاذعاً تجاه الوزارة سواء ما يتعلق بشق الإعلام أو شق الثقافة وقد كنت وقتها أحد أعضاء مجلس الشورى وتوقعت مع عدد من الزملاء بعد الجلسة أن يغضب وزير الثقافة والإعلام لكن الوزير فاجأنا بالغد بتصريح له نشرته صحيفة عكاظ قال فيه: «بأن كل أوجه القصور التي تطرَّق لها مجلس الشورى صحيحة وأن الوزارة حريصة بالتعاون مع المجلس لتطوير قطاعي الثقافة والإعلام». *** كنت أحد شهود مرحلة حمله حقيبة الإعلام والثقافة وشرفت بأن أعمل لمدة سنتين مستشاراً عنده والحق أنه حقق إنجازات شهد بها ورآها الجميع . ففي عهده تم إنشاء عدد من القنوات وتاجاها «قناة القرآن الكريم»، «قناة السنة النبوية»، ثمّ َ»قناة الثقافية»، و»قناة الأطفال» وقيام ثلاث هيئات إعلامية مستقلة: هيئة الإذاعة والتلفزيون وهيئة المرئي والمسموع ووكالة الأنباء السعودية، كما صدر تنظيم النشر الإلكتروني وغيره من الأنظمة. *** وبالجانب الثقافي والأدبي أعطى للأندية الأدبية دفعة قوية وصدرت عديد من الصحف كصحيفة أم القرى وأصبح معرض الرياض الدولي للكتاب دولياً، وبوصفه مثقفاً كان نجاح المعرض أحد أهم أهداف وزارته لذا حصد الكثير من النجاح وحظي بإقبال كبير من الجماهير. كما حظيت المنابر الثقافية باحتفائه وتحفيزه وأذكر منها بحكم رئاستي لتحرير «المجلة العربية» خلال توليه الوزارة بعد انتقالها من التعليم العالي للإعلام.. أذكر دعمه الكبير للمجلة من أجل المزيد من تطويرها وانتشارها و كان – والحق يقال – لا يتدخل بأي أمر يخصها سواء كان تحريرياً أو إدارياً. لقد تمت بعهده نقلات إعلامية وثقافية مشهودة يصعب الإتيان عليها كلها *** حفل الكتاب بوافر الوفاء لقيادات الوطن الذين عمل معهم بدءاً من الملك فهد، الملك عبدالله رحمهما ، الله وأخيراً الملك سلمان حفظه الله كما تطرق بحديث وفاء عذب لسجايا الأمير سلطان والأمير نايف والأمير سعود الفيصل رحمهم الله وولي العهد الأمير محمد بن سلمان. *** وأخيراً : وقفت أتأمَّل وداعه لمسيرته العمليَّة بعد أن تعبت من التطواف بفضاء الإعلام والكلمات وبميدان العمل السياسي بالأقطار وكأن الشاعر الجواهري عناه وأمثاله عندما خاطب أديبا ومسؤولا عراقياً ودَّع عمله بعد عناء عقود: أرح ركابك من همٍّ ومن سهر كفاك جيلان محمولاً على النّصب. *** لعلَّ خلاصَه من أعباء العمل كتاب سيرته الذي لو كان غارقاً بالعمل لما استطاع إنجازه. ولأنه بوصفه قارئاً ومُثقَّفاً لم يشعر بفراغ بل عاد لما يحب وتفرَّغ لما حُرم منه خلال استغراقه بمسؤولياته فوجد مستراحه ونفسه بالقراءة والكتابة والسفر بين القصائد