ليس هنالك أصعب من الفقد ومر الرحيل ومن قساوة الخبر والفاجعة خصوصاً إذا كان أقرب وأعز وأغلى وأحب الناس إليك، ولكن هكذا هي سنة الله في خلقه، لا شفاعة في الموت ولا مفر منه، وكلنا راحلون فهادم اللذات لا يعرف مريضاً أو سليماً، فهنيئاً لمن اعتبر واتعظ وصبر واحتسب، وهنيئاً لمن لاقى ربه وقد صلح عمله وهنيئاً لمن رحل عن الدنيا وترك سيرة طيبة مع الجميع ومن الجميع كل من يسمع أو يسرد اسمه يردفها بكلمة (الله يذكره بالخير) فيحظى بالحسنيين خير الدنيا والآخرة ويدرك أن الموت راحة للأتقياء، وموعد في حقهم للقاء.. ووالدتي سارة أو كما يحلو للأحفاد تسميتها «يوه» رحمها الله رحمة الأبرار وأسكنها فسيح الجنان، ودعت الدنيا بعد معاناة طويلة مع المرض، وظروف الحياة.. فقد عاشت والدتي رحمها الله يتيمة، وفقدت حنان الأم منذ نعومة أظفارها، وواجهت الأمراض التي أنهكت جسدها وهي في عز شبابها واستمرت حتى نهاية عمرها، ولكن الله جل في علاه فتح لها ألف باب بفضله ورحمته وأكرمها بخير عوض وبدل الأم الواحدة عوضها باثنتين الأولى زوجة جدي عبدالرحمن الزهير والثانية زوجة العم عبدالله الزهير رحمهم الله الأمر الذي جعلها لا تشعر بفرق بين إخوتها وبنات عمها، بل وجدت حسب وصفها الحب والحنان وطيب النفوس، كما وهبها الله برجلين عظيمين في حنكتهما وحكمتهما وحسن تربيتهما وبقلبيهما الكبيرين والدها جدي عبدالرحمن الزهير، ووالدي محمد الشريدي، رحمهم الله وجعلهم في عليين، وبالرغم مما واجهته من ابتلاء إلا أن الله أنعم عليها بلسان يتلذذ بالحمد والشكر، ووهبها قلباً، نقياً، رقيقاً، وصادقاً احتضن الصغير والكبير والقريب والبعيد، وجعلها تتحمل هموم الآخرين وتشقى من أجلهم بطيبها وجودها وكرمها وجمال مشاعرها الحانية، تجسدها بكلمتها المعتادة بكل إحساس وحب عندما تقول: (القلب دكان وكل له مكان) فسبحان الله الذي سخرها لجبر القلوب، وهي أكثرهم انكساراً، وبفضل من الله ثم بفضل طيبتها وعطفها وإحسانها وحسن معاملتها، أسلم لديها ثلاث عاملات ولله الحمد والشكر والمنة، وكلمة الوالدة المعتادة رحمها الله التي ترددها: «النفس تطيب لمن يحسن إليها» وأنا أقول هنيئاً لك يا «أميمتي» كم النفوس التي أحسنتِ إليها. وكم أسرت من النفوس بطيب مشاعرك الرقيقة، التي لا تقوى على رفع الصوت.. لا على طفل صغير ولا بنت ولا أبناء، فكان موقفها وردة فعلها أمام أخطاء الأبناء أو الأحفاد، دائماً وأبداً الهدوء والحكمة وتكتفي في مثل هذه الحالات بالدعاء بقولها: (الله يهديك ويصلح قلبك) ومن العادات الجميلة التي تحبها «يوه» هي «تفريح الأطفال بالهدايا» لذلك لا يمكن أن يحل عليها طفل دون أن ينال نصيبه من الهدايا، ومن جمال قلبها المرهف أنها إذا شعرت بتحسس أحد الأبناء من كلامها رغم نعومته قالت «لا تواخذني ترى اليوم عنزي هاظلة» بمعنى ما هي في المود ضايق صدرها بسبب معاناتها وأوجاعها من الآلام والأمراض المزمنة.. والأجمل من ذلك أن الوالدة إذا أرادت أن توقظنا من النوم لأداء صلاة الفجر تقول: قوموا الله يهديكم ما نبي أحد ينقص منا في الجنة. ومن المواقف التي تجسد حجم تضحياتها وتعكس مدى شعورها بالمسؤولية تجاه ربها أولاً ثم تجاه زوجها ورفيق دربها، فقد وافقت على زواج الوالد، وذلك بسبب ظروفها الصحية وعدم قدرتها على تحمل المسؤولية ورفضها التقصير تجاه زوجها ومن كلماتها التي دائماً ترسخها في نفوسنا «حب مرة أبوك من حب أبوكم» فكانت تعامل زوجة الوالد وكأنها واحدة من بناتها، كانت تتلذذ بالحمد والشكر والتشهد، في كل مراحل حياتها وهي على سريرها في البيت وعندما أصيبت بالزهايمر، وحتى وهي في غيبوبتها بالعناية الفائقة بالمستشفى، بل وحتى وهي في قبرها فكان إصبع السبابة مرفوعاً فماتت على التوحيد وهذه ولله الحمد من بشائر الخير، وتم دفنها بجوار الوالد المتوفى قبل 11 عاماً، الله يرحمهما ويطيب ثراهما، وينور قبريهما، ويكرم مثواهما، ويجعل الجنة مستقرهما ومأواهما، ويجمعنا بهما وإخوتي ووالدتهما وذرياتنا وأزواجنا في جنات النعيم على سرر متقابلين. ** **