الوالدة الغالية صافية السريرة طيبة القلب.. السيدة العزيزة المصونة فاطمة بنت صالح اليحيى أمااااه ... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أنزلك الله منازل الشهداء وبلغك رضا ربك الرحمن. أكتب لك هذه الرسالة وصورتك لم تفارق عيني الدامعتين، وقد هيمن خيالك على قلبي وخاطري، فأنت الحبيبة وأنت الرفيقة والعزيزة الغالية، أنت شمعة البيت وقطب الرحى وعموده الذي يقوم عليه، أنت الشجرة التي كنا نتفيأ ظلالها والمورد الزلال الذي نرشف منه عبق الحياة، وإن قلمي ليتقطر عرقا من مهابتك وإجلالك، وإن الكلمات لتنأى عليّ فلا أكاد أمسك بنواصيها حياء منها أن تقف أمامك وفي ساحتك غفر الله لك. يا قلبُ صبرا فما حزن سيغنينا ويا عين كفي فإن الدمع يكوينا رُحماك يا رب في أم لنا رحلت حلت بدارك يا خير المضيفينا رحماك يا رب في كبد مفتتة رحماك يا رب في كل المصابينا لا بأس يا أم.. عند الله مكرمة بإذن ربي بدار الخلد تجنينا والدتي وحبيبتي إني لن أكتب لأجازيك.. وكيف لي أن أجازيك.. وهل يمكن لي ذلك؟ فمعروفك علي كبير وخيرك إلي واصل. هل أجازيك على حملك لي تسعة أشهر؟ أم أجازيك على إرضاعك لي؟ أم أجازيك على حنانك وحضنك الدافئ؟ أم أجازيك على كلمات الحب ومشاعر الحنان التي تروض روعي في هذه الحياة وتنير دربي في حالك الظلم. أم أجازيك... أم أجازيك... أم... أم... كلمات تترى ومشاعر تختلط وشعور يتقاذف وهول لا أكاد أستطيع وصفه.. ومع ذلك أقف عاجزاً حاسراً عن الوفاء بحقك ولو بالوصف، فلا أعلم أعظم من معروفك ولا أعذب من حديثك ولا أجمل مسامرتك، ووالله لا أعلم جلسة الذ ولا أطيب ولا أبرد ولا أحلى على القلب والخاطر من جلسة معك رحمك الله. والدتي الغالية - أم عبدالعزيز إني لا أكتب لك هذه الكلمات تأبينا لك بعد وفاتك فلست بالكاتب الحاذق ولا الأديب المتمرس وقد سبقني بذلك أصحاب القلم وملوك الوصف وأرباب الكلم مما يغني عن إعادة ما كتبوا. رسالتي هذه رسالة شكر وعرفان لأنك علمتيني أسراراً كبيرة ومعاني عظيمة ودروساً مؤثرة، وكنت غفر الله لك حريصة على ذلك في كل مناسبة وموقف ملائم. إن نسيت فلن أنسى حرصك الدائم على كتاب الله تعالى وحفظه وجميل تمتماتك لياته حتى واظبت على الحضور إلى دار تحفيظ القرآن الكريم ستة عشر عاما لم يمنعك من الحضور إلا مرض مقعد أو سفر عارض. بل جعلت لك معلمة خاصة قبل بدء الدرس ومعلمة أخرى قبيل العصر، ويتناوب بعض أبنائك وبناتك على إعادة ما تم دراسته وحفظه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق، له أجران» أخرجه البخاري ومسلم. إن نسيت فلن أنسى إتحافك لصويحباتك بطعام الشتاء في أوله وطعام الصيف في أوله حتى عرفوه لك وأصبح له موعد مرتقب. إن نسيت فلن أنسى الطالبات والعاملات اللائي تكفلت بتكلفة إطعامهن كل صباح وكل واحدة تحسب أنك لا تعرفين غيرها ولا تعطين إلا إياها.. إن نسيت فلن أنسى صدقاتك بالطعام على الفقراء من أطيب ما تجدين وأفخره والله تعالى يقول: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (آل عمران92)، وما أجمل تلك الليلة الشاتية شديدة البرد التي قمت فيها مع والدي وصنعتما طعاما دافئا لذيذاً وقمتما بتوزيعه على الفقراء. بالله عليك ما الذي دفعك لهذا وما الذي حملك عليه. الله أكبر أي نفس هذه وأي كرم هذا وأي سريرة تحملينها غفر الله لك. رأى الناس منك الخير والحزم والنهى وما وجدوا بين المحامد ذاما هي المرأة الفضلى يقولون كلما ذكرت وقد أعلى الصلاح مقاما وفي ذاك فخر لا عزاء فإنه لحمد يمر الذكر فيه حساما سلكت سبيل الصالحات وكنت لي معلمة تبغي هدى ونظاما فلي خير إرث من فضائل جمة ومن موهبات كن فيك عظاما لك الله يا أماه أنت حميدة تهالكها كانت تراه ذماما فأدمع عينيها وأدمى فؤادها شعور كما ترمي القسي سهاما أطيبة الآباء والأمهات هل من الطيب إلا الطيب طبت مقاما والدتي الغالية.. لا أريد أن أحصي لك أعمالك وأطنب في مدحك فلك رب كريم رحيم ودود لا يخفى عليه شيء من أعمالك، وهو سبحانه لا يضيع أجر من أحسن عملا، وإن ما خفي علي من أعمالك فهو أكثر، لكن أعمالك هذه قد جعلتني أرى ويرى غيري رأي العين مناظر عند وفاتك لم يألفوها من قبل.. المقبرة امتلأت من الأطفال الذين بكوا وبكوا وبكوا حتى احمرت محاجرهم وكأنهم قد فقدوا أمهاتهم.. وكفى بمنظر الطفل الذي سقط جراء تلك المصيبة التي حلت به ومن هول ما لحق به. المقبرة امتلأت من بكاء الرجال الكبار ممن ابيضت لحاهم وهم ليسوا من ذوي القربى القريبين منك، ولم يجلسوا معك ساعة واحدة لكن عرفوك ببرك وصلتك وخيرك وإحسانك.. نعم رجال يبكون بكاء الأطفال. لم أر اجتماعا في مغسلة الأموات كاليوم منظراً، حيث اجتمعت نحو خمسين امرأة وهن يبكين حولك يدعون لك ويقبلون جبينك الطاهر ويتسابقن على حضور وداعك الأخير، أما الجامع فحدث ولا حرج. وما كان ذلك إلا لأنك صدقتهم في محبتك لهم وصفت سريرتك لهم فقذف الله محبتك في قلوبهم جميعاً. عند ذلك فهمت معنى الإحسان إلى الناس. عند ذلك تبين لي أثر صلة الرحم. عند ذلك تبين لي جميل عاقبة تفريح الأطفال وإدخال السرور عليهم. عند ذلك فهمت أثر إطعام الفقراء. عند ذك ظهرت لي العاقبة الحسنة بالعناية بكتاب الله. عند ذلك فهمت معنى سلامة القلب وصفاء السريرة وخلو القلب من الغل والحسد. دروس ودروس فهمتها فهما راسخا ولكن بعد أن فقدتك غفر الله لك. والدتي وقرة عيني.. لقد انتقلت إلى الدار الآخرة فشتان بين جوارك وجواري، وذهبت إلى عالم آخر.. وإني لأنتظر اللقاء بك في جنة الخلد بإذن الله البر الرحيم.. لكن سيظل طيفك حانيا أبدا، وسأظل أفيء إليه كلما اشتدت حرارة الحياة، وأعبق من رحيقه كلما اشتدت مرارة الألم، وأحن إليه كلما قست قلوب الخلق، فشتان بين حنانهم وحنانك وشتان بين عتابهم وعتابك وشتان بين مرادهم ومرادك غفر الله لك. فسبحان من وهبك السيرة الطيبة، والسريرة النقية، والابتسامة المشرقة في وجه كفلقة القمر، وحبب إليك فعل الخير والعفو عن المسيء وصلة الرحم والعفاف وحسن التبعل. هنيئا لك ميتتك السهلة في ليلة الجمعة، وقد صلى عليك جموع المسلمين في يوم الجمعة في صلاة الجمعة الموافق 18-10-1432ه وحضور ذلك الجمع المبارك في صلاتها وحضور ذلك الجمع الغفير الذي أذهل الحضور في المقبرة. هنيئا لك حب زوجك لك وعيشتكما معا عيشة هنيئة لم ينغصها منغص إلى آخر لحظة من حياتك وأنت توصين به وببره إلى قبيل وفاتك، وهو حفظه الله يؤكد بره لك وحرصه عليك فكان نعم الزوج لك وكنت نعم المرأة له وما أجمل فرحتك بعودته وما أجمل فرحه بلقياك، وإن حضور زوجك للوفاة وإعلانه بأعلى صوته بكلماته التي دوت إلى عنان السماء من قلب صادق ولسان تعثر بالبكاء.. اللهم إني أمسيت عنها راض فارض عنها هي علامة الرضا فهنيئا لك ما روي عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة ماتت، وزوجها عنها راض دخلت الجنة» رواه الترمذي وقال حديث حسن. هنيئا لك حب أولادك لك من بنين وبنات وحرصهم على رضائك واجتماعهم بين يديك. هنيئا لك بكاء الجميع عليك الطفل والكبير والمرأة والرجل العالم والجاهل القريب والبعيد. هنيئا لك تلكم الدعوات الصادقة التي صعدت من ألسن لم تعص الله فيها قد لهجت لك بالدعاء والمغفرة والرضوان وأعالي الجنان، لا حرمك الله قبولها. علمتني وأرشدتني بلسانك الطيب وبفعالك الحميدة وتوجيهاتك الرقيقة ولمساتك الحانية الدافئة كل ما فيه خير وبر، فلله درك من أم ومربية. وللأسف الشديد فإني أعترف لك وأقر - وأنا على وجل وحياء منك سيدتي- أني مع هذا كله فإني لم أصل إلى المرمى الذي تقصدين والمغزى الذين تريدين، فلم أفهم ذلك ولم أستوعبه إلا بعد وفاتك وذوق ألم فراقك. نعم بعد وفاتك وجفاف نبع حنانك المتدفق وغياب رؤية وجهك الكريم. ذلك أن لحظة وفاتك وتغسيلك والصلاة عليك ودفنك وقبول العزاء فيك كانت دروسا عظيمة رسخت في ذهني ما كنت توجهيني به وتعلميني إياه غفر الله لك وأسكنك فسيح جناته. واسمحي لي سيدتي وغاليتي أن أفيض لك من مشاعري شيئا قليلا لا يأخذ كثيرا من وقتك فأنت - بإذن الله- في شغل أطيب وألذ من سماع كتابي هذا. والدتي وقرة عيني.. إن مما منَّ الله به عليك من صفات الخير ومكامن البر يعجز اللسان عن وصفه وبيان حقيقته.. لكن إن نسيت شيئا من تلك الخصال الحميدة والمواقف الخيرة فلن أنسى تأكيدك الدائم على صلة الرحم وبر الأعمام والعمات والأخوال والخالات وكل ذي قربى وحرصك الدءوب على تفريحهم وإدخال السرور عليهم، وأرى ذلك متجسداً في دخولك عليهم وأنت محملة بالهدايا والعطايا لا حرمك الله أجرها وثوابها. إن نسيت فلن أنسى حثك على البر والصدقة والإحسان، وما أعذب كلماتك - لا تنسى يا وليدي أم فلان - يا وليدي ترى أم فلان محتاجة. إن نسيت فلن أنسى حرصك على هدايا الأطفال وإتحافهم أيام العيد والمناسبات، حتى غدت ميزة العيد الكبرى لديهم حضور أم عبدالعزيز محملة بالهدايا. إن نسيت فلن أنسى دخولك على دار تحفيظ القرآن الكريم كل صباح وحولك الأطفال قد أحاطوا بك إحاطة السوار بالمعصم بل إحاطة النجوم بالقمر وقد بلغوا مائة طفل أو يزيدون وهم يتسابقون على تحفك وهداياك كل يوم حتى سموك أم الحلويات. إن نسيت فلن أنسى جهدك الكبير وهمك الذي أشغل ذهنك في ذلك الصباح في البحث عن الهدية المناسبة للمرأة التي أساءت إليك البارحة، حتى تبيني لها أنك لم تغضبي عليها. إن نسيت فلن أنسى برك بوالدي وحرصك على رضاه وراحته وصدقك معه حتى ضربت أروع الأمثلة صدقا وبرا ووفاء.. وكأني والله أنظر إليك الآن وقد حضرت بنفسك لحفل زواجه إكراماً له. ولم يكن ذلك العمل منك تحت ضغط أو إكراه أو كان وليد ساعة عاطفة بل إنك مرة أخرى وبعد سنوات وطأت على عاطفتك وغيرتك وقمت بتهيأة زوجك وحبيبك ومن تربع على سويداء قلبك لزوجه الجديد وألبسته أحسن الثياب وعطرته بأجمل عطر وودعته بأجمل الكلمات وصادق الدعوات. إن نسيت فلن أنسى إصلاحك لذات البين وجمعك بيوتا كادت رياح الخلاف أن تقوض أطنابها، قال سبحانه {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (النساء 114). وإني أعترف لك والدتي بالقصور في أداء واجبك والوفاء بحقك والقيام بما يجب علي وانشغالي بالمهم عن الأهم. لكن ما يبرد على قلبي أنك تعفين وتصفحين وتشكرين وتفرحين بالصلة وتعدين القليل كثيراً والصغير كبيراً وهذا طبع الكرام. أمااااه.. وما أعذب هذه الكلمة.. أماه وحبيبتي ومهجة قلبي إن حنانك لن ينسى،وبرك لن يبلى، ولقد سمعت عن حرارة الدمع ولم أحس به والله إلا الآن، ووالله إني لم أصب بمثل مصيبتي هذه وإني لأرجو أجرها وذخرها عند الله تعالى، وإن ما تكرمت عليّ به من تلكم القبلة على وجنتي قبل أن تغمضي عينيك الغمضة الأخيرة وأنت تعالجين الألم والضعف وكأنك تودعين الوداع الأخير، فهي هدية غالية عليّ أجد بردها على قلبي الآن، ولم ألمس أنعم ولا أبرد ولا ألذ من تلكم القبلة. وما أجمل قول ابن الرومي: بنفسي غداة الأمس من بان من غدٍ وبت مع الأمس القرينة فانجذم ولما قضى الحاثون حثو ترابهم عليها وحالت دونها مرة الوذم أظلت غواشي رحمة الله قبرها فأضحى جناباه من النار في حرم أقول وقد قالوا أتبكي كفاقد رضاعا وأين الكهل من راضع الحلم هي الأم يا للناس جرعت ثكلها ومن يبك أما لم تذم قط لا يذم فقدت رضاعا من سرور عهدتها تعللنيه فانقضى غير مستتم رضاع بنات القلب بان ببينها حميداً وما كل الرضاع رضاع فم إلى الله أشكو جهد بلواي إنه بمستمع الشكوى ومستوهب العصم وإني لأدعو الله لي ولأخواني وأخواتي أن يعيننا على برك بعد وفاتك وأن يوفقنا لأداء ما يقربنا إليه وينفعك عنده سبحانه وتعالى، وأن يحفظ لنا والدنا فهو أثرك من بعدك وحبيب قلبك ومهجة عينك. غفر الله لك وأوسع لك في قبرك ونور لك فيه مد بصرك وأسكنك فسيح جناته وأنزل عليك شآبيب الرحمة والرضوان وبلغك منازل النبيين والصديقين والشهداء. ابنك عبدالعزيز بن علي القصير