المسخ الذي صادق البشر يظهر له في الطرقات المظلمة والأماكن المعتزلة وفي الوحدة، يقطف الزنابق، ويهمس في آذان الكلاب، ويخنق العصافير. لا يُغيِّبك عن ناظريه حتى ترضيه بفعل ما، فيتركك لتهنأ باحتجابه ليالي معدودة. تنتفض أطرافك كلما رأيته فجأة، ويجف حلقك، وسائل حار يندلق في أحشائك، يكوي رئتيك، ويذيب كبدك، وحرقان يغزو جسدك فترشح بالعرق. رأته في مكب القمامة الذي يقع تحت شرفتها ذات فجر بنفسجي معتم بالزرقة والضباب بجرم فارع وملابس سوداء فخيمة وشعر سابغ وسيماء وحش لا تشبه المخلوقات الأرضية، يضغط الآخر الضعيف المرتعش، يلصقه بالجدران وبين حوايا القمامة، يزن في أذنيه بالصفقة القديمة قدم الزمن والأرض، الصفقة الخاسر فيها أنت أيها الآخر، رأتك في المخربة تنوح وتصرخ في كل الاتجاهات وهو يحاصرك، رفع بصره بوجهه المسيخ، ونظر إليها في الشرفة، التبسها الرعب والذعر، فهربت هلعة تسد باب الغرفة، وتحتمي بشراشف السرير، وتغسل مخيلتها من مشهد ذلك الكائن الفظيع، لكن نقرات بمخلب حاد تطرق باب الشرفة، حالت بينها وبين إغماض عينيها. الخفاش فتحت باب الشرفة ذات فجر بنفسجي معتم بالزرقة والضباب، مبقية أنوار الغرفة مطفأة لكيلا يدخل البعوض، تضوَّع أريجُ نسيم رطب تملص من عطن البقعة المتروكة للكناسة وملاحقة القطط للجرذان الصاخبة بتحركات بنات عرس بين الأكياس والكراتين والقواطي. استلقت على السرير لكي تُعبِّئ رئتيها بالهواء المغلف بالرذاذ. سمعت خفقات كأن شيئًا يخفق داخل كيس بلاستيك أو يضرب أوراقًا. وثبت من السرير وأشعلت الضوء، تلفتت إلى الأنحاء بحثًا عن حشرة محشورة بأدراج الغرفة، أو فأرة تقرض الأغراض، فخيل لها عندما لم تجد شيئًا أن الصوت يأتي من خارج الغرفة من مكب الزبالة مستغربة قرب الخبطات. لمحت بالمصادفة بقعة سوداء صغيرة في زاوية من زوايا سقف الحجرة؛ فراعها مرأى البقعة التي لا تدري ما تكون، فتحركت تلك وتحرك منسوب دمها إلى الأعلى رافعًا معه مؤشر نبضات قلبها. أول لقاء بوطواط وجهًا لوجه. صار يدور بسرعة شديدة في الغرفة المضاءة ويتخبط. فتحت باب الغرفة المطل على باقي أجزاء البيت المظلم كي يغادر غرفتها سابحًا وسائحًا في المنزل كيفما يشاء. في ضحى ذلك اليوم بحثت عن ذلك الوطواط في جميع أنحاء البيت فلم تجد له أثرًا، لعله اختفى فجأة كما تعلق بزاوية جدار غرفتها فجأة. * بعد سنة ونصف السنة من الحادثة كانت خارجة من باب الشقة ذاهبة إلى المطار عائدة إلى وطنها عودة نهائية. لمحت الخفاش في زاوية من زوايا الصالة، لكن الوقت لا يمنحها فرصة الاقتراب منه؛ لأن على أخيها الذي يمسك الباب إغلاقه. العاصفة الثلجية (ألكسا) يتسرب هواء من تحت باب الشرفة كالماء الصَّقِعِ، فتحت عينيها على ارتطام درفتَي باب الشرفة الزجاجيتَين؛ واحدة صفقت الجدار، والأخرى دولاب الملابس. العاصفة اقتحمت الباب الخشبي الخلفي وشرَّعته، ثم اخترقت الباب الزجاجي فاغرة الغرفة على متسع فضاء مظلم وصقيع مصحوب بالمطر. الرياح جارفة، صفيرها يلف المدينة، وأزيز الصواعق والرعود يتكاثف كلما شقت السماءَ نيرانُ البرق. المخربة التي تطل عليها شرفتها غارقة في مياه المطر، طَيَّرَ الإعصار مخلفاتها الخفيفة، ورفعت السيول قمامتها الثقيلة إلى الأعلى. غمرت المياه الحجرة، وغطست في بحر متجمد، تناثرت بفعل الهواء محتوياتها، وتطايرت صفحات الكتب والأوراق. نظرت إلى الساعة فإذا هي الثالثة ليلاً، الفجر في هذا الوقت من السنة يرتفع عند الساعة السادسة. أبعدت اللحاف، واتجهت إلى باب الشرفة. الريح الصرصر تدفعها، والعويل المزمجر يصم أذنيها. كاد جريان دمها في العروق يتوقف من شدة الزمهرير، كلما أزلجت مصراعي الباب دفعتهما الزوبعة مفسحة لتيار ثلجي عنيف، يخترق أطرافها فيشلها. ترَّست الباب بطاولة المكتب، ووضعت تحته ملابس وفوطًا. المرحَّل اعتادت عندما يكون لها عمل في المدينة النزول إليها فجرًا، وفي أحد الفجور البنفسجية المعتمة بالزرقة والضباب الفاتك قرسها سافرت من القرية إلى المدينة في طريق مضبب، لا يكاد سائق السيارة يرى ما حوله، الضباب الكثيف المحدق بالسيارة والملاصق للمرايا ينبط من أسفلت الأرض، وينسحُّ من السماء كالمطر، وينبجس من أضواء السيارة المضاءة كالدخان. يسيرون والخشية من أن تكون أمامهم أو خلفهم مركبة لا يرونها ولا تراهم يصطدمون بها. تطاول زمن الضباب إلى بعد الإشراق بقليل، ثم بدأ يتلاشى وتفتحت الدنيا بنور مغبش. ظلت السكك مبللة من أثر الرذاذ، والأشجار في الكفور التي مروا بها مخضلَّة يتقاطر منها الندى الذي أحدثه الضباب الثخين، والسيارات اللامعة من الرطوبة مضببة من الداخل بفعل الأنفاس الحارة. دومًا يصحب الطريقَ اخضرارُ الأشجار المرقش بألوان حقول الذرة والأرز والكرنب والقرنبيط ولون القش الطامر، حقل البصل أو القطن لا تدري. يمرون بفدادين فلاحين مع عائلتهم وكلابهم. الزوجات اللائي يجتهدن في الحصاد بمعاونة الأزواج، والبنات الصغيرات الواقفات على الأرصفة بملابس المدرسة ينتظرن المواصلات، ولا يغيب في تلك المساحات الخضراء المتألقة الطائر الأبيض الجميل الذي يسمونه صديق الفلاح أو «أبو قردان» أو «أبو فصادة». المنازل المنكمشة التي تلوح في بدايات النجوع تدل على إملاق ساكنيها وحالتهم الضنك، أبوابها طامنة، وجدرانها من طوب أحمر مصفوف بكآبة، متسخ وممتلئ بالملصوقات والعبارات الدعائية، ما الذي دعا السياسي إلى وضع صورته على هذه البيوت المتضعضعة يدعو ناسها لينتخبوه، ماذا لو قايضوه الصورة بطلاء تنبلج به الحيطان، وتنتعش بضيائه النفوس. تصطف المحال بمواجهة السكة وهي أكشاك صغيرة تبيع بضاعة قليلة، مثل أكياس البطاطس المقرمش والمشروبات الغازية والشوكولاته التي تظهر في إعلانات التلفزيون، وتشاركها في التمدد المقاهي الخارجية، تبيع بالإضافة إلى الشاي والقهوة الفول والطعمية التي يستطير زَنَخُ زيتها الكدر بفعل التكرير في الأجواء. عند مدخل المدينة بدأ الازدحام يتزايد، وأخذ الخطو يتباطأ، والضباب اختفى تمامًا، وبقيت غيوم متقطعة تحجب الشمس حينًا وحينًا، بعضها رمادي معبأ بالمياه، وبعضها ثَرَّ المياه في مناطق ما في أثناء السير. في الطريق المكتظ وقفت السيارة لتترك فسحة للمركبات الأمامية، وتتيح لها التقدم، فوقفت بجانبها سيارة ترحيلات المساجين وهي سيارة مصفحة بالفولاذ، لونها أزرق، يدل على المهانة والذل، لها صندوق حديدي هائل مؤصد بالأقفال والمفاتيح، له فتحة ضيقة معشَّقة بالحديد على شكل مربعات صغيرة. رفعت رأسها لتعاين تلك الفتحة فإذا وجه صبي في الثامنة عشرة، هكذا ظنته، هيئته هيئة أشقياء وسوابق، أو من أولاد الشوارع الذين تغطيهم طبقات الزيت والتراب. يحملق إليها ويرمقها، بادلته النظرات بعين العطف المشوب بالشفقة، والحنان الملتبس بالرثاء، طوت الوجع والألم من المصير المفضي إليه بين جوانحها، لكنه بلغه مع صغر سنه، فحين تحركت السيارة ألصق شفتيه بقضبان الحديد المربع، وأرسل قبلة جعلتها تضحك حتى وصلت بوابة الجامعة. الجنازة رأتهم فجرًا من شرفة غرفتها يحملون الجنازة، كان منظرهم مهيبًا وهم يهدرون وسيارة نصف نقل مفتوحة على أفق بنفسجي لم يتحول بعد إلى حمرة، ومكبرات تصدح بصوت مقرئ رخيم، اجتاز الرتل الشارع العمومي، عيناها مذهولتان من شيء غامض داخلها، إلى أين يمضي ذلك الجسد المسجى في صندوق السيارة؟! وهؤلاء المشيعون أين يلقون به؟! في الظهر في شعاع الشمس الكاشف تمرّ ذكرى هذا الموقف الحزين، فما الذي حدث فجر هذا اليوم المعتم بالزرقة والضباب؟! ذلك الملفوف الذي يسمع هديرهم وصوت القارئ الشجي، ولا يستطيع الصحو كما يصحو كل يوم من نومه نافضًا أحلامه المزعجة! لقد عادوا بعد أن دحرجوه في حفرة يمارسون حياتهم وكأنه لا عهد لهم به. * الجنازة كانت لحارس أمن مديرية الشرطة بالمحافظة إثر رمي عبوة ناسفة ليلاً على المديرية قبل حدوث انفجار كبير بعد شهر. انفجار قرابة الساعة الواحدة ليلاً اهتزت حوائط الغرفة، كاد السقف يخر، تخلخل السرير، ففزت مفزوعة على دوي مذهل، تكسر من هوله زجاج نوافذ الحمام. علمت في هذه الأوضاع أن قنبلة انفجرت. في حياتها لم تسمع صخب قنبلة، حسبت أن القنابل في الشاشات ونشرات الأخبار يستحيل أن تكون واقعًا. جرت إلى التلفزيون، قلبت القنوات لتسمع خبرًا عن الانفجار، فخطرت على بالها قناة مذيعها يتبع أمن الدولة أو المخابرات، كان حدسها في محله بعد عشر دقائق من الانفجار أعلن المذيع من تواصلٍ بمراسل القناة في المنطقة أن قنبلة وضعت في مديرية أمن المحافظة، ثم توالت الأخبار والصور وعدد الشهداء، كان انفجارًا عملاقًا خلَّف مباني متهدمة وسيارات محطمة وستة عشر شهيدًا ومئات الجرحى. تضاربت الأنباء هل الانفجار نجم عن سيارة مفخخة أم وضع قنبلة؟ بعد ساعة من إذاعة الخبر استيقظ من نومه رئيس الوزراء المؤقت وأعلن من سريره باتصالٍ هاتفي بالقناة أن الفئة الفلانية جماعة إرهابية. في الفجر المعتم بالزرقة والضباب دارت في المنطقة إعلانات من مكبرات الصوت تطالب السكان بالإسراع في التبرع بالدم. وَفَدَ سَيْلٌ عَرِمٌ من البشر على مسجد النصر بعد صلاة الظهر لتشييع جنائز الشهداء وفيهم أمين المديرية وضابط، وضابط فقد عينه. في المساء حضر المذيع إلى المنطقة يسجل حلقة خاصة لبرنامجه من ساحة قرب مبنى المحافظة، وبحضور المحافظ وحشد غفير من سكان المنطقة. في أثناء تشييع النعوش أقدم المشيعون أو المتظاهرون على سلب بعض المحال وحرق الصيدليات والعيادات والمنازل التابعة للفصيل المصنف إرهابيًّا. من سلوك الفاعل والمفعول به أدركتُ أن الشعب الطيب الودود صاحب القلب الرؤوف الذي عاشرته قد تغيّر. ** ** - د. سعاد فهد السعيد