على امتداد التاريخ كانت الترجمة تعد ركناً رئيساً في التشكل الثقافي للحضارات التي تركت بصمة زاهية على الحدثية التاريخية الإنسانية. ولو تأملنا حضارتنا الإسلامية التي أشعَّت بظلالها على أصقاع المعمورة لوجدنا أن «بيت الحكمة» الذي أنشأه الخليفة العباسي هارون الرشيد ليضع فيه تلك الكتب التي ترجمت في عهد جده الخليفة العباسي الثاني أبي جعفر المنصور، وتناولت علوم الطب والهندسة والآداب وعلم النجوم، قد كان له - أي بيت الحكمة هذا - الدور الذي لا يستهان به في تعزيز حضورية الثقافة الإسلامية التي طالت بوهجها البناء العوالم القديمة آنذاك، وأسست لنهضة أوروبية نشهدها في حاضرنا الآن. وفي عالمنا العربي الحديث كانت إطلالة الترجمة الأدبية على الساحة الثقافية العربية قد بدأت على استحياء، وتحديداً مع تلك الجهود التي بذلها رفاعة طهطاوي في مصر، وذلك حين تمكن من تأسيس «مدرسة الألسن» التي حرصت على تعليم الملتحقين بها فصولاً في اللغات الأجنبية كالفرنسية والإيطالية والإنجليزية إلى جانب الفارسية والتركية. ليتحقق لاحقاً دفق ثقافي، تمثل في تلك الأعمال التي نقلها سماعياً من الفرنسية للعربية الأديب الراحل مصطفى لطفي المنفلوطي؛ إذ على الرغم من عدم إلمام المنفلوطي بالفرنسية، واعتماده شبه الكامل على سماع المحتوى الدرامي للروايات الفرنسية منقولة له باللغة العربية من قِبل أناس يجيدون الفرنسية، إلا أن محاولاته لإعادة صياغة الأعمال الروائية الفرنسية إلى لغتنا العربية قد كانت من الإضافات المتميزة لأدبنا العربي، ساعده في ذلك إتقانه اللغة العربية، وتمتعه بأسلوب أدبي باذخ. وعلى الرغم من عدم تحقق فكرة الترجمة الفعلية في أعمال المنفلوطي، لكن قد تم إدراجها عربياً تحت ذلك السقف. لكن يمكن القول بتجرد إن الترجمة العربية قد شهدت حالة من الازدهار في تلك الترجمات التي قدمها لنا الأديب والأكاديمي الراحل لويس عوض، والفيلسوف الدكتور زكي نجيب محمود. ولو أمعنا النظر في واقعية الترجمة الأدبية في الساحة الثقافية السعودية لوجدناها تسير بخطى بطيئة جداً، خاصة منها ترجمة الشعر العالمي. ويمكن رد ذلك - في تقديري - لافتقار المترجم السعودي للتأهيل الأكاديمي على ممارسة فن الترجمة، وأيضاً للخبرة الكافية للتعامل مع النص الأدبي العالمي، سواء من خلال فهمه الثقافة التداولية الرائجة في بيئة نشوء النص، أو العوامل الثقافية، الخارجية منها وكذلك الداخلية، المؤثرة في البنية الفكرية لكاتب النص. هذا إلى جانب أن النصوص الشعرية العالمية تكون أكثر تعبيراً ودلالة في بنيتها العميقة الأصل، منها إذا نقلت للغات حية أخرى. وتكون الإشكالية أكثر حضوراً عندما تتم ترجمة النصوص الأدبية أو الفكرية العالمية ترجمة حرفية. وقد شهدنا هذا الأمر مشاعاً أيضاً في أشهر تلك الترجمات التي طالعناها في النتاجات الترجمية العربية. من ذلك ترجمة فتحي إنقزّو كتاب «الصوت والظاهرة.. مدخل إلى مسألة العلامة في فينومينولوجيا هوسرل» لرائد البنيوية الفرنسي جاك دريدا، وكتاب «تحليل العقل» لرائد الفلسفة الحديثة الإنجليزي برتراند راسل. وعند تناول تلك الجهود التي تبذلها جامعاتنا السعودية في دعم حركة الترجمة سنجدها تتسم بالانتقائية إلى حد كبير؛ فجامعاتنا تهتم إلى حد بعيد بترجمة الكتب العلمية والمعارف التربوية، في حين نجدها لا تعطي الاهتمام الكافي لترجمة النصوص الشعرية والسرديات العالمية على عمومها؛ الأمر الذي ينعكس بالسلب على إثراء الساحة الأدبية السعودية، ومدها بالجديد من النتاجات الأدبية العالمية؛ وهو ما يسهم في إبطاء انتقالية الأدب السعودي لمراحل تعبيرية، تتسم بالجدة والريادة؛ لذا فقد أضحت الترجمة الأدبية في هذه الحالة مناطة بجهد فردي من الأدباء السعوديين الذين يجدون في الغالب صعوبة في طباعة نتاجاتهم؛ فيضطرون إما للطباعة على حسابهم الشخصي، أو بإرساله للأندية الأدبية التي يحبذ بعضها في الغالب نشر أجناس أدبية أخرى؛ وهو ما يسهم بشكل دراماتيكي في تعطيل حركة الترجمة السعودية أيضاً؛ لتبدو وكأنها تسير بشكل أو بآخر في أحجية بلورية. ** **